نشر الخبير بمركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية د. جمال عبدالجواد مقالا في يوم 8 مايو بعنوان «انشقاق الغرب» بجريدة الاهرام استعرض فيه بلغته الأكاديمية بوادر الانشقاق بين الجانبين الأمريكي والأوروبي والتي بدت جلية منذ قدوم الرئيس ترامب إلى سدة الحكم، وطرح السؤال الكبير: هل نحن بصدد نهاية الغرب أم دخول الغرب مرحلة جديدة من مراحل تطوراته، بخلاصة إن انشقاق الغرب ليس جديدًا، ومازال على أوروبا أن تثبت قدرتها على الحفاظ على ما حققته من سلام وتعاون مع انحسار الدور الأمريكي.
الواقع أن هذا الموضوع الذي لا يتطرق إليه كثيرون يشغلني منذ فترة إلى أن جاءنا ترامب بعواصفه العاتية التي تبدو أنها صادرة بشكل يركز على فكر الصفقات، ما دفعني إلى وصفه في بعض البرامج الإعلامية بأنه رئيس بدرجة رجل صفقات، ورجل صفقات بدرجة رئيس. ورغم اقتناعي بهذا التوصيف فإنني أعتقد أن الأمر أعمق من ذلك بكثير، من هنا أتفق تمامًا مع تحليل د. جمال لتقلبات العلاقات بين أمريكا وأوروبا واستخلاصه الذي أتفق معه بوصف «انشقاق الغرب» الذي أعتبره أهم عوامل التغيير القادم في النظام الدولي، ودعني ألقي بصيصًا من الضوء على علاقة بعينها وهي التي بين أمريكا والاتحاد الأوروبي، في إطار النقاط المحددة التالية؛
أولًا: إن انشقاق الغرب يعكس أجندة أمريكية سابقة على قدوم ترامب إلى سدة الحكم، إلا أنه أفصح بخصاله العقارية الصفقاتية عن هذه الأجندة بشكل عار من أي التباس.
ثانيًا: إن الحرب الأوكرانية الروسية، في ظل إدارة بايدن وبعدها إدارة ترامب، كانت الذروة الكاشفة للأجندة الأمريكية للجمهوريين والديمقراطيين الهادفة إلى إحداث تصدع حقيقي في دوائر الاتحاد الأوروبي وفي شبكة مصالحه الضخمة في كل أرجاء العالم، ربما خاصة في إفريقيا، لإبعاده عن المنافسة مع أمريكا لكي تبقى القوة المسيطرة الوحيدة على قمة النظام الدولي.
وقد بدأت بوادر الانشقاق في ظل استمرار الحرب الروسية الأوكرانية وتعاظم نزيف الخزائن الأوروبية تحت مسمى المساعدات لأوكرانيا وارتفاع أسعار واردات النفط الأمريكية بعد تفجير أنبوب الـmain stream بفعل فاعل بدأت بمؤشرات للتململ، فالضيق، والشعور بأن قبول أوروبا لاستمرار الحرب من دون محاولات جادة لإيقافها، تتم بضغط أمريكي وبدفع من عدد من دول وسط وشرق أوروبا ودول البلطيق، باستثناء المجر المتمردة على هذا النهج العدائي ضد روسيا، ونتيجة تصاعد الضغوط الاقتصادية على الاتحاد، وانهيار العلاقات مع روسيا والتي كانت قد تحولت إلى تعاون استراتيجي منذ تفكك الاتحاد السوفيتي. وجاء قدوم ترامب ليؤكد الشكوك بانفراده بالمفاوضات مع زيلينسكي ويوقن الكثير من الأوروبيين أنهم انزلقوا إلى أجندة أمريكية هدفها إخراج روسيا من معادلة القوى الكبرى توطئة للانفراد بالخصم الرئيسي وهو الصين، وليرغم الاتحاد على أن يدخل مع حليفه الأعظم حربًا تجارية عظمى.
ثالثًا: نجح الاتحاد الأوروبي خلال السنوات الماضية في تخطي أزمتي البريكست والكوفيد بفضل هيكله المؤسسي القوي الذي يحكم السياسات الاقتصادية والتجارية والمالية والنقدية لدوله، وهما الازمتان اللتان أنذرتا بحدوث تصدع حقيقي في جدران وعضوية الاتحاد، وجاءت حرب 7 أكتوبر في غزة لتعمق الشقاق بين أوروبا وأمريكا ولتخلق حالة جديدة في أنحاء عدة من الشارع الأوروبي من التعاطف مع الشعب الفلسطيني وانتقاد جارح للموقف الأمريكي.
رابعًا: أعتقد أن الحكم الموضوعي على الحالة الأمريكية - الأوروبية يجب أن يصدر بناءً على واقع ردود الأفعال الأوروبية؛ أسهلها الانخراط بجرأة في حرب انتقامية تجارية علنية، وأخطرها وأعمقها استراتيجيًا هي الدعوة إلى إنشاء جيش أوروبي من أعضاء وغير أعضاء الاتحاد الأوروبي (بما فيها بريطانيا) وهي الدعوة التي أطلقها الرئيس ماكرون منذ سنوات قليلة في ظل إدارة بايدن، ثم عاد وجدد هذه الدعوة. وهي تطورات لا بد أنها ليست بعيدة عن الخلافات الدائرة بين أمريكا والاتحاد الأوروبي بشأن حلف الناتو.
ويبقي السؤال: هل سيستعيد الاتحاد الأوروبي تماسكه بفضل هيكله المؤسسي المتماسك وإنجازاته العالمية الهائلة؟ وهل ستفرض المعاناة البريطانية جراء خروجها من الاتحاد السعي إلى عودة الابن الضال؟ وهل تنجح أوروبا في تخطي الحاجز النفسي للحماية الأمنية للناتو بإنشاء جيش أوروبي؟
وماذا عن المنافسة الاقتصادية والتجارية القاسية مع أمريكا؟ وماذا أيضًا عن إقدام الاتحاد الأوروبي على تقارب كبير مع الصين؟ وماذا سيكون الحال مع روسيا بعد انتهاء الحرب في أوكرانيا، ولو بعد أمد؟
أسئلة تتداخل وتتفاعل إجاباتها في تشكيل جديد لا محالة للنظام الدولي.
القضية إذن ليست مجرد تناول إعلامي لتطور دولي مهم، لكنها قضية تمس الإطار العام للعلاقات والمصالح الدولية، ولها انعكاساتها على الجميع، لذلك فهي قضية تستحق تناولها بتحليل موضوعي لتداعيات هذه التطورات، خاصة في ضوء أهمية العلاقات العربية مع كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
{ دبلوماسي مصري سابق
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك