في سياق سلسلة المقالات التي أنشرها حول الحوكمة كأداة مؤسسية لتحسين الأداء وتعزيز الثقة، كان من المقرر أن يتناول المقال الرابع موضوع «الثقة المؤسسية بين المواطن والدولة». إلا أن التفاعل الواسع مع المقال الثالث وما أثاره من تساؤلات حقيقية حول موقع الموظف داخل منظومة الحوكمة، أعاد ترتيب أولويات الطرح.
وعقب مشاركة السلسلة مع عدد من المهتمين من داخل البحرين وخارجها وردت إليّ رسالة من مختصة كويتية مهتمة بالشأن الإداري قالت: «بحكم أن ما يحصل في البحرين يحصل في الكويت، وكأنكم تتكلمون عن واقعنا. هل فعلاً يمكن تطبيق الحوكمة؟ وهل يمكن ضمان وعي الموظف أو القيادي بأهميتها؟ وهل يملك الموظف الواعي حصانة من تبعات التزامه؟ أم أن الحوكمة ستبقى مجرد شعارات؟».
تساؤلات من هذا النوع بما تحمله من صدق وتجربة، لا تعكس تشكيكاً بقدر ما تُعبر عن حاجة حقيقية إلى إعادة النظر في علاقة الموظف بمحيطه الإداري. فهي تُشير بوضوح إلى أن بناء الثقة يبدأ من الداخل؛ من شعور الموظف بأن التزامه بالمبادئ لا يُقابل بالعزلة داخل مؤسسته، بل بالتقدير والدعم. ولهذا أجد من الضروري التوقف عند هذه الأسئلة والإجابة عنها بموضوعية.
تطبيق الحوكمة لا يُقاس بإصدار الأدلة، بل بمدى تجذر هذه المبادئ وتحويلها إلى قرارات تُمارس فعلياً. فعندما يرفض الموظف مجاملة تُضعف القرار، أو يقترح تحسيناً يسهم في ترشيد الموارد، فإنه لا يُنفذ تعليمات فقط، بل يُجسد الحوكمة كسلوك عملي. وحين تفتح المؤسسات قنوات حقيقية لتطوير الإجراءات، وتُشرك موظفيها بجدية، تصبح الحوكمة ممارسة حية لا نظاماً مركباً.
أما وعي الموظف والقيادي، فليس أمراً مضموناً بطبيعته، لأنه في جوهره سلوك يُمارس لا معرفة تُفترض. الوعي يُبنى بالتدريب المستمر والتقييم العادل والتمكين الفعلي داخل المؤسسة. أما القيادي، فوعيه يُقاس بما يقدمه من قدوة في العدالة والشفافية، لا بما يحمله من مناصب أو شهادات. البيئة التي تحفز الموظف على التفكير لا مجرد التنفيذ، هي التي تُنبت الحوكمة من الداخل بعيداً عن الشعارات الإدارية.
في بعض البيئات، قد يُفهم التزام الموظف بأنه تشدد لكن هذا لا ينطبق على جميع المؤسسات بل يعكس تفاوتاً في النضج الإداري. فالمؤسسة التي تتبنى الحوكمة، توفر حماية تنظيمية للممارسات الصحيحة، وتربط الأداء بالقيم وتُحيي ثقافة المساءلة بإنصاف لا بانتقائية.
وفي هذا السياق، سألتني إحدى الموظفات البحرينيات: «ما الذي تعنيه الحوكمة لي؟» فأجبتها: أن تعملي في بيئة يكافأ فيها الالتزام لا يُعاقب وتكوني شريكة في القرار لا تابعة له وأن يُحترم صوتك المهني «لا يُقصى».
ولأن الحوكمة ليست مفهوماً نظرياً، بل ممارسة يومية، فإننا نرصد في الميدان نماذج لافتة تعكس وعياً متنامياً، منها: موظف يوقف تنفيذ تعميم داخلي لتعارضه مع قرار أعلى لم يُلغ رسمياً، التزاماً بالتسلسل القانوني.
ومديرة تعيد النظر في آلية تقييم الأداء بعد ملاحظتها انفصال المعايير عن طبيعة المهام، وتبادر باقتراح لإعادة ضبط المنهجية. كما يرفض مستشار قانوني اعتماد إجراء من دون مبررات كافية، رغم الضغط الزمني، احتراماً لدقة الاختصاص. تلك المواقف ليست حالات فردية بل مؤشرات على تحول تدريجي نحو ثقافة مؤسسية تعتز بالشفافية والمساءلة والعدالة.
في المقال القادم، سننتقل إلى الحديث عن الثقة المؤسسية من منظور المواطن، لكن قبل أن نطالب الموظف بأن يكون شريكاً في ترسيخ الثقة بين الدولة والمجتمع، لا بد أن نمنحه هو أولاً ثقة المؤسسة، ورعاية الالتزام، وحماية الموقف المهني.
{ مهتمة بالحوكمة وتطوير الأداء المؤسسي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك