العدد : ١٧٢٢٦ - الخميس ٢٢ مايو ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٤ ذو القعدة ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٢٢٦ - الخميس ٢٢ مايو ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٤ ذو القعدة ١٤٤٦هـ

مقالات

من ميدان الحوكمة: تساؤلات من قلب المؤسسة

بقلم: عبير محمد دهام

الثلاثاء ٢٠ مايو ٢٠٢٥ - 02:00

في‭ ‬سياق‭ ‬سلسلة‭ ‬المقالات‭ ‬التي‭ ‬أنشرها‭ ‬حول‭ ‬الحوكمة‭ ‬كأداة‭ ‬مؤسسية‭ ‬لتحسين‭ ‬الأداء‭ ‬وتعزيز‭ ‬الثقة،‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬المقرر‭ ‬أن‭ ‬يتناول‭ ‬المقال‭ ‬الرابع‭ ‬موضوع‭ ‬‮«‬الثقة‭ ‬المؤسسية‭ ‬بين‭ ‬المواطن‭ ‬والدولة‮»‬‭. ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬التفاعل‭ ‬الواسع‭ ‬مع‭ ‬المقال‭ ‬الثالث‭ ‬وما‭ ‬أثاره‭ ‬من‭ ‬تساؤلات‭ ‬حقيقية‭ ‬حول‭ ‬موقع‭ ‬الموظف‭ ‬داخل‭ ‬منظومة‭ ‬الحوكمة،‭ ‬أعاد‭ ‬ترتيب‭ ‬أولويات‭ ‬الطرح‭.‬

وعقب‭ ‬مشاركة‭ ‬السلسلة‭ ‬مع‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬المهتمين‭ ‬من‭ ‬داخل‭ ‬البحرين‭ ‬وخارجها‭ ‬وردت‭ ‬إليّ‭ ‬رسالة‭ ‬من‭ ‬مختصة‭ ‬كويتية‭ ‬مهتمة‭ ‬بالشأن‭ ‬الإداري‭ ‬قالت‭: ‬‮«‬بحكم‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬يحصل‭ ‬في‭ ‬البحرين‭ ‬يحصل‭ ‬في‭ ‬الكويت،‭ ‬وكأنكم‭ ‬تتكلمون‭ ‬عن‭ ‬واقعنا‭. ‬هل‭ ‬فعلاً‭ ‬يمكن‭ ‬تطبيق‭ ‬الحوكمة؟‭ ‬وهل‭ ‬يمكن‭ ‬ضمان‭ ‬وعي‭ ‬الموظف‭ ‬أو‭ ‬القيادي‭ ‬بأهميتها؟‭ ‬وهل‭ ‬يملك‭ ‬الموظف‭ ‬الواعي‭ ‬حصانة‭ ‬من‭ ‬تبعات‭ ‬التزامه؟‭ ‬أم‭ ‬أن‭ ‬الحوكمة‭ ‬ستبقى‭ ‬مجرد‭ ‬شعارات؟‮»‬‭.‬

تساؤلات‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬بما‭ ‬تحمله‭ ‬من‭ ‬صدق‭ ‬وتجربة،‭ ‬لا‭ ‬تعكس‭ ‬تشكيكاً‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬تُعبر‭ ‬عن‭ ‬حاجة‭ ‬حقيقية‭ ‬إلى‭ ‬إعادة‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬علاقة‭ ‬الموظف‭ ‬بمحيطه‭ ‬الإداري‭. ‬فهي‭ ‬تُشير‭ ‬بوضوح‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬بناء‭ ‬الثقة‭ ‬يبدأ‭ ‬من‭ ‬الداخل؛‭ ‬من‭ ‬شعور‭ ‬الموظف‭ ‬بأن‭ ‬التزامه‭ ‬بالمبادئ‭ ‬لا‭ ‬يُقابل‭ ‬بالعزلة‭ ‬داخل‭ ‬مؤسسته،‭ ‬بل‭ ‬بالتقدير‭ ‬والدعم‭. ‬ولهذا‭ ‬أجد‭ ‬من‭ ‬الضروري‭ ‬التوقف‭ ‬عند‭ ‬هذه‭ ‬الأسئلة‭ ‬والإجابة‭ ‬عنها‭ ‬بموضوعية‭.‬

تطبيق‭ ‬الحوكمة‭ ‬لا‭ ‬يُقاس‭ ‬بإصدار‭ ‬الأدلة،‭ ‬بل‭ ‬بمدى‭ ‬تجذر‭ ‬هذه‭ ‬المبادئ‭ ‬وتحويلها‭ ‬إلى‭ ‬قرارات‭ ‬تُمارس‭ ‬فعلياً‭. ‬فعندما‭ ‬يرفض‭ ‬الموظف‭ ‬مجاملة‭ ‬تُضعف‭ ‬القرار،‭ ‬أو‭ ‬يقترح‭ ‬تحسيناً‭ ‬يسهم‭ ‬في‭ ‬ترشيد‭ ‬الموارد،‭ ‬فإنه‭ ‬لا‭ ‬يُنفذ‭ ‬تعليمات‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬يُجسد‭ ‬الحوكمة‭ ‬كسلوك‭ ‬عملي‭. ‬وحين‭ ‬تفتح‭ ‬المؤسسات‭ ‬قنوات‭ ‬حقيقية‭ ‬لتطوير‭ ‬الإجراءات،‭ ‬وتُشرك‭ ‬موظفيها‭ ‬بجدية،‭ ‬تصبح‭ ‬الحوكمة‭ ‬ممارسة‭ ‬حية‭ ‬لا‭ ‬نظاماً‭ ‬مركباً‭.‬

أما‭ ‬وعي‭ ‬الموظف‭ ‬والقيادي،‭ ‬فليس‭ ‬أمراً‭ ‬مضموناً‭ ‬بطبيعته،‭ ‬لأنه‭ ‬في‭ ‬جوهره‭ ‬سلوك‭ ‬يُمارس‭ ‬لا‭ ‬معرفة‭ ‬تُفترض‭. ‬الوعي‭ ‬يُبنى‭ ‬بالتدريب‭ ‬المستمر‭ ‬والتقييم‭ ‬العادل‭ ‬والتمكين‭ ‬الفعلي‭ ‬داخل‭ ‬المؤسسة‭. ‬أما‭ ‬القيادي،‭ ‬فوعيه‭ ‬يُقاس‭ ‬بما‭ ‬يقدمه‭ ‬من‭ ‬قدوة‭ ‬في‭ ‬العدالة‭ ‬والشفافية،‭ ‬لا‭ ‬بما‭ ‬يحمله‭ ‬من‭ ‬مناصب‭ ‬أو‭ ‬شهادات‭. ‬البيئة‭ ‬التي‭ ‬تحفز‭ ‬الموظف‭ ‬على‭ ‬التفكير‭ ‬لا‭ ‬مجرد‭ ‬التنفيذ،‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تُنبت‭ ‬الحوكمة‭ ‬من‭ ‬الداخل‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬الشعارات‭ ‬الإدارية‭.‬

في‭ ‬بعض‭ ‬البيئات،‭ ‬قد‭ ‬يُفهم‭ ‬التزام‭ ‬الموظف‭ ‬بأنه‭ ‬تشدد‭ ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬ينطبق‭ ‬على‭ ‬جميع‭ ‬المؤسسات‭ ‬بل‭ ‬يعكس‭ ‬تفاوتاً‭ ‬في‭ ‬النضج‭ ‬الإداري‭. ‬فالمؤسسة‭ ‬التي‭ ‬تتبنى‭ ‬الحوكمة،‭ ‬توفر‭ ‬حماية‭ ‬تنظيمية‭ ‬للممارسات‭ ‬الصحيحة،‭ ‬وتربط‭ ‬الأداء‭ ‬بالقيم‭ ‬وتُحيي‭ ‬ثقافة‭ ‬المساءلة‭ ‬بإنصاف‭ ‬لا‭ ‬بانتقائية‭.‬

وفي‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬سألتني‭ ‬إحدى‭ ‬الموظفات‭ ‬البحرينيات‭: ‬‮«‬ما‭ ‬الذي‭ ‬تعنيه‭ ‬الحوكمة‭ ‬لي؟‮»‬‭ ‬فأجبتها‭: ‬أن‭ ‬تعملي‭ ‬في‭ ‬بيئة‭ ‬يكافأ‭ ‬فيها‭ ‬الالتزام‭ ‬لا‭ ‬يُعاقب‭ ‬وتكوني‭ ‬شريكة‭ ‬في‭ ‬القرار‭ ‬لا‭ ‬تابعة‭ ‬له‭ ‬وأن‭ ‬يُحترم‭ ‬صوتك‭ ‬المهني‭ ‬‮«‬لا‭ ‬يُقصى‮»‬‭.‬

ولأن‭ ‬الحوكمة‭ ‬ليست‭ ‬مفهوماً‭ ‬نظرياً،‭ ‬بل‭ ‬ممارسة‭ ‬يومية،‭ ‬فإننا‭ ‬نرصد‭ ‬في‭ ‬الميدان‭ ‬نماذج‭ ‬لافتة‭ ‬تعكس‭ ‬وعياً‭ ‬متنامياً،‭ ‬منها‭: ‬موظف‭ ‬يوقف‭ ‬تنفيذ‭ ‬تعميم‭ ‬داخلي‭ ‬لتعارضه‭ ‬مع‭ ‬قرار‭ ‬أعلى‭ ‬لم‭ ‬يُلغ‭ ‬رسمياً،‭ ‬التزاماً‭ ‬بالتسلسل‭ ‬القانوني‭.‬

ومديرة‭ ‬تعيد‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬آلية‭ ‬تقييم‭ ‬الأداء‭ ‬بعد‭ ‬ملاحظتها‭ ‬انفصال‭ ‬المعايير‭ ‬عن‭ ‬طبيعة‭ ‬المهام،‭ ‬وتبادر‭ ‬باقتراح‭ ‬لإعادة‭ ‬ضبط‭ ‬المنهجية‭. ‬كما‭ ‬يرفض‭ ‬مستشار‭ ‬قانوني‭ ‬اعتماد‭ ‬إجراء‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬مبررات‭ ‬كافية،‭ ‬رغم‭ ‬الضغط‭ ‬الزمني،‭ ‬احتراماً‭ ‬لدقة‭ ‬الاختصاص‭.  ‬تلك‭ ‬المواقف‭ ‬ليست‭ ‬حالات‭ ‬فردية‭ ‬بل‭ ‬مؤشرات‭ ‬على‭ ‬تحول‭ ‬تدريجي‭ ‬نحو‭ ‬ثقافة‭ ‬مؤسسية‭ ‬تعتز‭ ‬بالشفافية‭ ‬والمساءلة‭ ‬والعدالة‭.‬

في‭ ‬المقال‭ ‬القادم،‭ ‬سننتقل‭ ‬إلى‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬الثقة‭ ‬المؤسسية‭ ‬من‭ ‬منظور‭ ‬المواطن،‭ ‬لكن‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬نطالب‭ ‬الموظف‭ ‬بأن‭ ‬يكون‭ ‬شريكاً‭ ‬في‭ ‬ترسيخ‭ ‬الثقة‭ ‬بين‭ ‬الدولة‭ ‬والمجتمع،‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬نمنحه‭ ‬هو‭ ‬أولاً‭ ‬ثقة‭ ‬المؤسسة،‭ ‬ورعاية‭ ‬الالتزام،‭ ‬وحماية‭ ‬الموقف‭ ‬المهني‭.‬

 

{  مهتمة‭ ‬بالحوكمة‭ ‬وتطوير‭ ‬الأداء‭ ‬المؤسسي

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا