العدد : ١٧٢٢٤ - الثلاثاء ٢٠ مايو ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٢ ذو القعدة ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٢٢٤ - الثلاثاء ٢٠ مايو ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٢ ذو القعدة ١٤٤٦هـ

مقالات

لا أريد أن أكون من ذوي الهمم

بقلم: المحامية د. هنادي عيسى الجودر

الاثنين ١٩ مايو ٢٠٢٥ - 02:00

القراء‭ ‬الأعزاء‮ ‬

يُقال‭ ‬‮«‬إن‭ ‬أهل‭ ‬مكة‭ ‬أدرى‭ ‬بشعابها‮»‬‭. ‬وعليه،‭ ‬فقد‭ ‬حرصت‭ ‬أثناء‭ ‬عملي‮ ‬في‭ ‬صياغة‭ ‬القرارات‭ ‬والقوانين‭ ‬وقتما‭ ‬كنت‭ ‬محامية‭ ‬ثم‭ ‬رئيسة‭ ‬شؤون‭ ‬قانونية‭ ‬في‭ ‬وظيفة‭ ‬حكومية،‭ ‬على‭ ‬ضرورة‭ ‬إشراك‭ ‬العاملين‭ ‬في‭ ‬الحقل‭ ‬الذي‭ ‬ينظمه‭ ‬القرار‭ ‬أو‭ ‬القانون‭ ‬باعتبارهم‭ ‬الأكثر‭ ‬خبرة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭ ‬والأعلم‭ ‬باحتياجاته‭ ‬ونواقصه‭ ‬وعوائقه‭ ‬وآلية‭ ‬تذليلها‭.‬

التقيت‭ ‬مؤخراً‭ ‬بشخص‭ ‬اعتز‭ ‬كثيراً‭ ‬بصدفة‭ ‬معرفته،‭ ‬ويُدعى‭ ‬عمران‭ ‬الرحبي،‭ ‬هو‮ ‬مسرحي‭ ‬وإنسان‭ ‬رائع‭ ‬ذو‭ ‬شخصية‭ ‬فريدة‭ ‬من‭ ‬نوعها‭ ‬ومعرفتها‭ ‬ووعيها‭ ‬وفكرها،‭ ‬استمعت‭ ‬اليه‭ ‬يتحدث‭ ‬معلقاً‮ ‬على جزئية‭ ‬كانت‭ ‬تعتبر‭ ‬محوراً‭ ‬مهما طُرح‭ ‬في‭ ‬ندوة‭ ‬علمية‭ ‬نظمتها‭ ‬جمعية‭ ‬التعاون‭ ‬الثقافي‭ ‬لمساندة‭ ‬ذوي‭ ‬الإعاقة‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬الرباط‭ ‬في‭ ‬المملكة‭ ‬المغربية‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ (‬دور‭ ‬الإبداع‭ ‬في‭ ‬خدمة‭ ‬الشباب‭ ‬ذوي‭ ‬الإعاقة‭)‬،‭ ‬حيث‭ ‬تناولت‭ ‬الندوة‭ ‬نقاط‭ ‬محورية‭ ‬طرحها‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الخبراء‭ ‬والأكاديميين‭ ‬المختصين‭ ‬فناقشوا‭ ‬محاور‭ ‬عدة‭ ‬وهي‭ ‬سوسيولوجيا‭ ‬الإعاقة‭ ‬والتمثلات‭ ‬المجتمعية‭ ‬والإبداع‭ ‬كوسيلة‭ ‬للتمكين‭ ‬الاجتماعي‭ ‬لذوي‭ ‬الاعاقة‭ ‬والفن‭ ‬والادماج‭ ‬في‭ ‬الفضاء‭ ‬العمومي‭ ‬وتحارب‭ ‬ميدانية‭ ‬لمبدعين‭ ‬من‭ ‬ذوي‭ ‬الاعاقة‭.‬‮ ‬

توقّف عمران‭ (‬وبالمناسبة‭ ‬هو‭ ‬انسان‭ ‬كفيف‭ ‬بصر‭ ‬نافذ‭ ‬بصيرة،‭ ‬لا‭ ‬مجاملة‭ ‬ولكنها‭ ‬حقيقة‭)‬‮ ‬توقف‭ ‬عند‭ ‬المسميات‭ ‬التي‭ ‬انتقيت‭ ‬لتطلق‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الفئة التي‭ ‬أُلصقت‮ ‬بها‭ ‬مسميات‭ ‬مثل المعاقين،‭ ‬ذوي‭ ‬الهمم‭ ‬والاشخاص‭ ‬في‭ ‬وضعية‭ ‬الاعاقة،‭ ‬وتساءل‭: ‬لماذا‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تُطلق‭ ‬علينا‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬المسميات؟‭ ‬

وفي‭ ‬الواقع‭ ‬اننا‭ ‬نُعاني‮ ‬معاناة‭ ‬كبيرة‭ ‬جداً‭ ‬لماذا‮ ‬يطلق‮ ‬علينا‭ ‬مسمى‭ ‬مثل‭ ‬ذوي‭ ‬الهمم؟‭ ‬وفي‭ ‬رأيي‭ ‬أنها‭ ‬مسميات‭ ‬عاطفية‭ ‬جداً،‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬الواقع لا‭ ‬تُساعدنا‭ ‬بل تُشكّل‭ ‬عبئاً‮ ‬اجتماعياً‭ ‬ونفسياً‭ ‬علينا،‮ ‬فلماذا‭ ‬ترهقونا‭ ‬بهذا‭ ‬المسمى‭ ‬وتعرضونا‭ ‬لضغط‭ ‬اجتماعي‭ ‬وتحمّلونا‭ ‬مسؤولية‭ ‬أن‭ ‬نكون‭ ‬مختلفين‭ ‬وتنتظرون‭ ‬لنا‭ ‬بشكل‭ ‬الزامي‭ ‬عاطفي‮ ‬أن‭ ‬نكون مبدعين؟‮ ‬

فأنا كشخص‭ ‬ضرير‭ -‬والكلام‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬عمران‭- ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أعيش‭ ‬كشخص‭ ‬طبيعي‮ ‬كما‭ ‬أراني‭ ‬ولا‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أكون‭ ‬من‭ ‬ذوي‭ ‬الهمم،‮ ‬لا‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬يُتوقع‭ ‬مني‭ ‬أن‭ ‬أثبت‭ ‬نفسي‭ ‬وقدرتي‭ ‬على‭ ‬الإبداع‭ ‬فقط‭ ‬لأنني‭ ‬فاقد‭ ‬البصر‭ ‬لكي‭ ‬أبهر‭ ‬المجتمع‭ ‬وأقنعه‭ ‬بأنني‭ ‬مبدع،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أنني‭ ‬من‭ ‬ذوي‭ ‬الهمم،‭ ‬كما‭ ‬أسميتموني‭.‬‮ ‬

والفكرة‭ ‬التي‭ ‬استقيتها‭ ‬من‭ ‬حديث‭ ‬عمران‭ ‬وهو‭ ‬يتكلم‭ ‬بلسان‭ ‬الكثير‭ ‬ممن‭ ‬تعرضوا‭ ‬لإعاقات‭ ‬جسدية‭ ‬ظاهرة،‭ ‬هي‭: ‬أننا‭ ‬أشخاص‭ ‬طبيعيون‭ ‬جدا‭ ‬ونستطيع‭ ‬أن‭ ‬نكون‭ ‬مبدعين‭ ‬ومتميزين‭ ‬ولكن‮ ‬يا‭ ‬أيها‭ ‬المجتمع دعنا‭ ‬نختار‭ ‬أن‭ ‬نكون‭ ‬كذلك‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬ضغط‭ ‬عاطفي‭ ‬أو‭ ‬اجتماعي‭ ‬يُجبرني‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬أحقق‭ ‬تطلعاتكم‭ ‬بشأني،‭ ‬شكراً‭ ‬لجهودكم‭ ‬ولكن‭ ‬دعوني‭ ‬أختار‭ ‬أن‭ ‬أكون‭ ‬ذا‭ ‬همّة‭ ‬أو‭ ‬أكون‭ ‬دونها فلربما‭ ‬اختار‭ ‬الكسل‭ ‬مثلاً،‭ ‬دعوني‭ ‬أعيش حياتي‭ ‬كما‭ ‬اريدها‭ ‬وفق‭ ‬وضعي‭ ‬الذي‭ ‬أتقبله جدا وأتعايش‭ ‬معه‭ ‬جداً،‭ ‬وهنا‭ ‬انتهى‭ ‬حديث‭ ‬عمران‭ ‬وبعده‭ ‬رأيي‭ ‬الخاص‭ ‬الذي‭ ‬كونته‭ ‬وصغته‭ ‬على‭ ‬لسانه‭.‬‮ ‬

أما‭ ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬مهني،‭ ‬فإنه‭ ‬يهمني‭ ‬توضيح‭ ‬أهمية‭ ‬الجهود‭ ‬التي‭ ‬تبذلها‭ ‬الدولة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬منح‭ ‬حقوق‭ ‬خاصة‭ ‬لازمة‭ ‬وضرورية‭ ‬لفئة‭ ‬ذوي‭ ‬الاعاقة‭ (‬وهنا‭ ‬أتمنى‭ ‬أن‭ ‬نشتغل‭ ‬جميعا‭ ‬على‭ ‬إيجاد‭ ‬اسم‭ ‬أكثر‭ ‬واقعية‭ ‬واخف‭ ‬وطئاً‭ ‬ومسؤولية‭ ‬من‭ ‬جميع‭ ‬الاسماء‭ ‬التي‭ ‬ذكرناها،‭ ‬والتي‭ ‬وضعتها‭ ‬المواثيق‭ ‬الدولية‭ ‬الخاصة‭ ‬بحقوق‭ ‬هذه‭ ‬الفئة‭) ‬فإن‭ ‬جهود‭ ‬الدولة‭ ‬تأتي‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬سد‭ ‬الفجوة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬تمتّع‭ ‬هذه‭ ‬الفئة‭ (‬المهمشة‭) ‬بحقوق‭ ‬انسان‭ ‬مهمة‭ ‬كالحق‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬والتنقل‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الحقوق‭ ‬الاساسية‭ ‬تحقيقاً‮ ‬لمبدأ‭ ‬المساواة،‭ ‬لذا‭ ‬فقد‭ ‬انضمت‭ ‬مملكة‭ ‬البحرين‭ ‬إلى‭ ‬اتفاقية‭ ‬حقوق‭ ‬الاشخاص‭ ‬ذوي‭ ‬الاعاقة‭ ‬بالقانون‭ ‬رقم‭ ‬22‭ ‬لسنة‭ ‬2011‭ ‬بالتصديق‭ ‬على‭ ‬الاتفاقية‭. ‬

والحق‭ ‬أن‭ ‬عدم‭ ‬المساواة‭ ‬والتمييز‭ ‬ضد‭ ‬هذه‭ ‬الفئة‭ ‬يستحوذ‭ ‬المجتمع‭ ‬على‭ ‬الحظ‭ ‬الأكبر‭ ‬منها،‭ ‬عن‭ ‬قصد‭ ‬أحياناً‭ ‬وعن‭ ‬غير‭ ‬قصد‭ ‬أحيانا‭ ‬أخرى،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬نظرته‭ ‬الى‭ ‬هذه‭ ‬الفئة‭ ‬على‭ ‬انها‭ ‬غير‭ ‬قادرة‭ ‬أو‭ ‬عاجزة،‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬العلم‭ ‬قد‭ ‬أثبت‭ ‬أن‭ ‬التكوينية‭ ‬الخلقية‭ ‬لجسم‭ ‬الانسان‭ ‬واعضائه‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬أسس‭ ‬التكامل‭ ‬فهي‭ ‬تسهم‭ ‬في‭ ‬اكمال‭ ‬نقص‭ ‬بعضها‭ ‬الآخر،‭ ‬ذلك‭ ‬ان‭ ‬جسد‭ ‬الانسان‭ ‬إذا‭ ‬اشتكى‭ ‬منه‭ ‬عضو‭ ‬تداعى‭ ‬له‭ ‬سائر‭ ‬الجسد‭ ‬بالسهر‭ ‬والحمى،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬عجز‭ ‬عضو‭ ‬منه‭ ‬يترتب‭ ‬عليه‭ ‬قوة‭ ‬أعضاء‭ ‬أخرى‭ ‬فسبحان‭ ‬من‭ ‬خلق‭ ‬الإنسان‭ (‬أربعة‭ ‬وعشرين‭ ‬قيراطاً‭) ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬اخوتنا‭ ‬المصريون،‭ ‬أي‭ ‬انه‭ ‬كامل‭ ‬متكامل‭ ‬يحظى‭ ‬بالأربعة‭ ‬وعشرين‭ ‬قيراطاً‭ ‬كاملةً،‭ ‬وإن‭ ‬اختلف‭ ‬توزيعها‭ ‬ولكن‭ ‬مجموعها‭ ‬ثابت‭ ‬لكل‭ ‬إنسان‭.‬‮ ‬

اما‭ ‬فيما‭ ‬يتعلق‭ ‬بإهمال‭ ‬الابداع‭ ‬والمبدعين‭ ‬ففي‭ ‬رأيي‭ ‬انها‭ ‬ليست‭ ‬مرتبطة‭ ‬بالإعاقة،‭ ‬فالإهمال واللامبالاة‭ ‬قد‭ ‬تطول‭ ‬جميع‭ ‬الفئات‭. ‬

وفي‭ ‬رأيي‮ ‬أن‭ ‬اسهام‭ ‬المجتمع‭ ‬في‭ ‬تهميش‭ ‬هذه‭ ‬الفئة‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬مواجهة‭ ‬تثقيفية‭ ‬لتعزيز‭ ‬الوعي‭ ‬الجمعي‭ ‬بثقافة‭ ‬احترام‭ ‬الآخر‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬النظر‭ ‬الى‭ ‬اختلافاته‭ ‬الجسدية‭ ‬أو‭ ‬الذهنية،‭ ‬وعدم‭ ‬التركيز‭ ‬عليها‭ ‬باعتبارها‭ ‬نقصاً‭ ‬فيه،‭ ‬لاسيما‭ ‬أن‭ ‬الإعاقات‭ ‬الظاهرة‭ ‬لا‭ ‬تعتبر‭ ‬شيئاً‭ ‬أمام‭ ‬الإعاقات‭ ‬الخافية‭ ‬في‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬سليمي‭ ‬الأبدان‭.‬‮ ‬

وانتهي‭ ‬هنا مليئة‭ ‬بالأسئلة‭ ‬حول‭ ‬ذوي‭ ‬الهمم أو‭ ‬الإعاقة‭ ‬والمعاقين،‮ ‬

هل‭ ‬ذوي‭ ‬الإعاقة‭ ‬هم‭ ‬معاقون‭ ‬فعلاً؟‭ ‬أم‭ ‬أن‭ ‬الخلل‭ ‬مجتمعي؟‭ ‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا