،، يصعب على العقل البشري إدراك حقيقة حروب وصراعات العصور القديمة لكونها تمسُّ جوانب فلسفية وتاريخية ومعرفية معقدة ومحدودة، ولكون التاريخ المكتوب تنقصه أدلة أثرية ونصوص غير متحيزة.
إذن من حيث المبدأ يعد إدراك الحقيقة المطلقة للحروب القديمة، ضمن السياقات المتاحة، مستحيلا. لذلك هناك إشكالية في تفسير نصوص وروايات الحروب القديمة، وهناك شك فيما ورد فيها من أدلة إن وجدت، وهناك تردد في قبول أسبابها التي كُتبت، وفي قبول سردياتها سواء كانت مجازية أو حرفية.
أما في السياق الفلسفي فإن هناك جدلا حول أن الحروب نتاج غرائز بشرية طبيعية، أم إنها صناعة بشرية نتاج للحضارة وليست حالة طبيعية، أم إنها صراع بين الخير والشر كما في تصور الأديان.،،
وعبر التاريخ يظهر أن الإنسان يفسر الحروب بناءً على قِيَمِهِ الثقافية والدينية والسياسية، فيتحيز لسردياتها وأسبابها ونتائجها عقائدياً قبل أي أمر آخر. ولكي يتقبل العقل الحديث أحداث حروب الماضي، يعمل البعض، من خلال قِيَمِهِ وبيئته الثقافية، على إعادة حبك سردياتها، بوسائل وأدوات العصر الذي يعيشه.
وبناءً عليه، يمكن إيجاز ذلك على أنه يمكن للعقل البشري أن يفهم جوانب من تاريخ الحروب عبر الأدلة التاريخية والنظريات الفلسفية، ولكن لا يمكنه إدراك حقيقتها المطلقة لأن التاريخ يُكتب بتحيز، ولأن المفاهيم الأخلاقية متغيرة، ولأن المؤثرات السياسية على تشكيل الوعي مضَلِّلَة.
التقدم المادي مقابل
الانحدار الأخلاقي
وللحديث حول فلسفة الحروب الحديثة ومجازية الروايات التي يكتبها المنتصر القوي، هناك تساؤلاً يطرح نفسه بإلحاح حول العلاقة بين ازدياد وتيرة الحروب والعنف والتطرف والكراهية، وبين الحداثة والتقدم العلمي المادي، وانتشار التعليم، وكأن الإنسان المعاصر كلما زاد ثراءً وتحضراً وعلماً زاد عنفاً ووحشية!
وهناك تساؤل آخر حول ماهية العلاقة بين تزايد الاهتمام بصناعة الأسلحة الأكثر تنكيلاً وتدميراً، وبالسجون ووسائل التعذيب الأبشع ألماً وتحطيماً للإنسان (مثال: سجون جوانتنامو، والتعذيب تحت إشراف اطباء نفسيين مثلاً)، وبين تصاعد الدعوة للديمقراطية والعدالة الدولية ومبادئ حقوق الإنسان! وكأن العالم المتقدم والمتحضر يخفي ثقافته الجشعة وممارساته الوحشية خلف جدار من الشعارات والمعاهدات الأخلاقية الرفيعة!
تبدو هذه المقارنات بين المتناقضات، التي لا وسط بينها، أشبه ما تكون بالمقارنة بين الحياة والموت، العدم والوجود، إلا أنها مقارنات واقعية في ظل نظام دولي نشأ بالحروب العالمية، ويتغذى على الحروب، وقائم على مبدأ أن «من يملك القوة يملك الحق».
نظام عالمي ينتج العنف..
وأسطورة الحداثة والأخلاق
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية (1945)، وبدء عصر «الحداثة» وفلسفاتها الغربية، شهد العالم عدداً كبيراً من الحروب والنزاعات المسلحة، تتراوح بين حروب بين الدول، وحروب أهلية، ونزاعات مسلحة قصيرة، وعمليات عسكرية واسعة. ووفقًا لبيانات موسوعة الحروب ((COW- Correlates of War Project correlatesofwar.org، وتقارير معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام www.sipri.org، هناك أكثر من 250 نزاعًا مسلحًا رئيسيًا في العالم بين السنوات 1945 و2024، منها حوالي 25-30 حربًا بين دول، والباقي حروب أهلية أو نزاعات داخلية، وتقدر أعداد الضحايا بالملايين.
يشار إلى الفترة المذكورة في هذه البيانات على أنها ذروة التقدم العلمي والحضاري البشري، وصولاً إلى عصر الأسلحة الرقمية المتمثلة في السلاح السيبراني، والأسلحة الذكية، وحروب المعلومات، التي باتت تشكل تهديداً عابراً للحدود، وتهديداً خفياً لصعوبة تتبعه واكتشاف الأدلة لإدانته، وتهديداً للأمن القومي والاقتصادي والاستقرار الاجتماعي عند اختراق البنى التحتية وشبكات الكهرباء والمؤسسات المالية والأنظمة الخدماتية والانتخابات، وفي عمليات تضليل الرأي العام وتزييف المعلومات، وغيرها.
ورغم كل هذه التهديدات الخارجة عن السيطرة، يعد هذا السلاح تهديداً غير خاضع للقانون (Unregulated Threat)، لغياب الإطار القانوني والمعاهدات الملزمة الخاصة بالأسلحة الرقمية، مثل معاهدة حظر الأسلحة النووية، ولغياب عقوبات واضحة على الدول التي تطور فيروسات سيبرانية هجومية، رغم أن هذه الأسلحة هي الوجه الجديد للحروب في القرن الحادي والعشرين، وتتطلب استجابة استباقية قبل فوات الأوان.
وهنا يعود تساؤل المقارنة بين المتناقضات حول العلاقة المتضادة بين التقدم العلمي والسلم العالمي، والجدل حول مفهوم الحداثة والأخلاق والقوة، أو الحداثة ونظامها الرأسمالي، في الوقت الذي تثبت لنا الحروب ارتباطاً بين التقدم المادي والانحطاط القِيَمِي، حيث يُستخدم العقل البشري كأداة للهيمنة بدلاً من التحرر (مثال: إذكاء الكراهية في «الربيع العربي»)، وحيث يُوظَف النظام الرأسمالي التطور العلمي لصناعة أدوات الدمار الشامل وأدوات القمع (مثال: الأسلحة النووية، والمراقبة الجماعية عبر الهواتف)، ما يعكس تناقضًا جوهريًّا بين مفهوم الحداثة، والأخلاق.
التراكم القِيَمِي التاريخي..
العنصر المشترك
بالبحث في هذا الواقع المعقد، وفي محاولة للإحاطة الأبستمولوجية بهذه العلاقة الطردية بين التطور البشري المادي، بتفاصيلها الكلية والجزئية، وبين الانهيار الأخلاقي وتصاعد الحروب، يبرز عنصر مشترك يتمثل بالجذور الهمجية في تاريخ أصحاب «نظرية الحداثة»، و«نظرية الاستعمار»، و«النظام الرأسمالي»، وبتجذر تاريخي لثقافة الاستيلاء والعنف في العقل والضمير الجمعي لتلك المجتمعات.
نشأ مفهوم الحداثة والنظام الرأسمالي في مجتمعات لم يكن لها تاريخ حضاري إنساني مبكر، ولم تمر بمراحل التطور القيمي الإنساني، التي جاءت مع الحضارات التأسيسية التاريخية في الشرق، ووضعت المواثيق الأخلاقية ومفاهيم الخير والشر للعالم، وشكّلَت الضمير الحضاري للبشرية؛ لذلك لم يتقن فلاسفة عصر التنوير الأوروبي عملية البناء الأخلاقي لأممهم، بل تجاهلوا ذاك النسيج الثقافي والقِيَمِي الحضاري الإنساني السائد في عوالم الشرق منذ عصور الحكمة الإنسانية الأولى وما وضعته من مبادئ أخلاقية ومفاهيم للعدالة، كشريعة حمورابي في بلاد الرافدين، والفلسفات الكونفوشيوسية في الصين، وفي نصوص جلجامش السومرية، وفي ثنائيات الخير والشر في الأساطير البابلية... ومن هذا البعد التاريخي نستكشف عمق الانفصام والازدواجية في شخصية وثقافات شعوب الشمال، وعمق الفجوة الأخلاقية والإنسانية الفاصلة بين الجنوب والشمال، وعمق ثقافة العنف السائدة في عقول ونفوس المجتمعات المادية الحديثة.
أسطورة النظام الرأسمالي
والتفوق الأخلاقي
يذكر عالِم الاجتماع الأمريكي إيمانويل والرشتاين Immanuel Wallerstein في مؤلفه الموسوعي ذي الأجزاء الأربعة: «نظرية النظام العالمي World-Systems Theory»، وهو مؤسس النظرية، أن الرأسمالية المبكرة (القرن 16-18) اعتمدت على ثلاثية: الإبادة الجماعية للأمم الأصلية و(تجارة العبيد) واستنزاف موارد المستعمرات، ويؤكد إن هذه العمليات لم تكن «انحرافًا» عن المسار الحضاري للحداثة، بل أساسًا لتراكم الثروة الغربية. إضافة إلى ما جاء في مؤلفات لعلماء غربيين حول ما تم استخدامه من نظريات داروين الاجتماعية لتبرير العنف الاستعماري، وأخطرها «إبادة البرابرة من الشعوب الأصلية».
أما عن صناعة الحروب واعتماد النظام الرأسمالي على التصنيع العسكري فتؤكده الأرقام والبيانات، حيث الإنفاق العسكري العالمي بلغ 2.24 تريليون دولار في 2023، وأن 90% من أسلحة العالم تُنتجها دول الناتو (الرأسمالية) وفقًا لتقارير معهد ستوكهولم لأبحاث السلام (SIPRI 2023)، وأن 75% من حروب القرن الحادي والعشرين وقعت في دول كانت مستعمرات سابقة (بحسب معهد بروكينغز).
وفي المقابل، تُظهر تقارير «فريدوم هاوس» تراجعًا في الحريات الديمقراطية في 60 دولة منذ 2010 مع ارتفاع حاد في مبيعات الأسلحة للدول ذات «الأنظمة الاستبدادية».
أما أعمال «نعوم تشومسكي» فتُظهر أن الصناعة العسكرية تشكل عمودًا أساسيًّا في الاقتصادات الرأسمالية المتقدمة، على سبيل المثال 50% من الميزانية الفيدرالية الأمريكية تذهب للإنفاق العسكري، ما يخلق «دوامة عنف» تُغذّيها مصالح الشركات العابرة للقوميات.
«نظرية الاستعمار» والانحطاط الأخلاقي للرأسمالية
لتعريف الجذور الاستعمارية للعنف الحديث، يوضح والرشتاين في مؤلفه السابق أن النظام العالمي يعتمد نظاما رأسماليا واحدا يقسّم العالم ما بين دول المركز المهيمنة ودول المحيط المُستَنزَفة ودول شبه المحيط الوسيطة مثل الصين والبرازيل، وأن الاستعمار هو أساس النظام الرأسمالي، لذلك فإن التصنيع الأوروبي اعتمد على إفقار المستعمرات، ما خلق بنية عنيفة مستمرة حتى في عصر العولمة... وأن الحروب في الشرق الأوسط (بحسب والرشتاين) هي امتداد لصراعات المركز للسيطرة على موارد الدول المستنزفة، كما ذكر نصاً أن «الرأسمالية هي أول نظام اقتصادي يجعل الفقر شرطًا لوجود الثروة»، وأن «الدول القومية ليست سوى أدوات لإدارة التفاوت العالمي».
هذا التعريف المفاهيمي للنظام الرأسمالي ونظرية الاستعمار لربما يُعد مدخلاً أولياً لفهم مبررات بعض من ظواهر العنف السائدة في أكبر الدول الرأسمالية، بدءًا بالعنف الفردي السائد في مدارس الأطفال والسجون والشارع، انتهاءً بحروب استنزاف موارد دول المحيط، مروراً بصمت أغلبية المفكرين والفلاسفة الغربيين، مثل يورجن هابرماس (أحد أبرز فلاسفة ومفكري مدرسة فرانكفورت النقدية)، عن الإبادة الجماعية في غزة، الذي يمثل فشل النخبة الغربية في تطبيق مبادئها على نفسها، ما يدعم صناعة الخطاب المبرر للعنف، مثل حروب «نشر الديمقراطية».
هل انتهى عصر الأخلاق؟
إنه سؤال ليس عن «انحدار» الغرب، بل عن إمكانية بناء نظام عالمي جديد يعيد ربط التقدم المادي بالأخلاق... والتاريخ يظهر أن الحضارات تنهار عندما تفقد شرعيتها الأخلاقية (كما حدث للإمبراطورية الرومانية)، وربما يكون صعود الشرق (الصين) مع تمسكه بجذوره الحضارية مؤشرًا على تحوّل محتمل.. والمستقبل يحمل المفاجآت.
sr@sameerarajab.net
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك