العدد : ١٧٢٩٩ - الأحد ٠٣ أغسطس ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٩ صفر ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٢٩٩ - الأحد ٠٣ أغسطس ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٩ صفر ١٤٤٧هـ

مقالات

البحث في تاريخ الحروب..
ومجازية العلاقة بين الحداثة والأخلاق

بقلم: سميرة رجب

السبت ٠٢ أغسطس ٢٠٢٥ - 02:00

،،‭ ‬يصعب‭ ‬على‭ ‬العقل‭ ‬البشري‭ ‬إدراك‭ ‬حقيقة‭ ‬حروب‭ ‬وصراعات‭ ‬العصور‭ ‬القديمة‭ ‬لكونها‭ ‬تمسُّ‭ ‬جوانب‭ ‬فلسفية‭ ‬وتاريخية‭ ‬ومعرفية‭ ‬معقدة‭ ‬ومحدودة،‭ ‬ولكون‭ ‬التاريخ‭ ‬المكتوب‭ ‬تنقصه‭ ‬أدلة‭ ‬أثرية‭ ‬ونصوص‭ ‬غير‭ ‬متحيزة‭. ‬

إذن‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬المبدأ‭ ‬يعد‭ ‬إدراك‭ ‬الحقيقة‭ ‬المطلقة‭ ‬للحروب‭ ‬القديمة،‭ ‬ضمن‭ ‬السياقات‭ ‬المتاحة،‭ ‬مستحيلا‭. ‬لذلك‭ ‬هناك‭ ‬إشكالية‭ ‬في‭ ‬تفسير‭ ‬نصوص‭ ‬وروايات‭ ‬الحروب‭ ‬القديمة،‭ ‬وهناك‭ ‬شك‭ ‬فيما‭ ‬ورد‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬أدلة‭ ‬إن‭ ‬وجدت،‭ ‬وهناك‭ ‬تردد‭ ‬في‭ ‬قبول‭ ‬أسبابها‭ ‬التي‭ ‬كُتبت،‭ ‬وفي‭ ‬قبول‭ ‬سردياتها‭ ‬سواء‭ ‬كانت‭ ‬مجازية‭ ‬أو‭ ‬حرفية‭.‬

أما‭ ‬في‭ ‬السياق‭ ‬الفلسفي‭ ‬فإن‭ ‬هناك‭ ‬جدلا‭ ‬حول‭ ‬أن‭ ‬الحروب‭ ‬نتاج‭ ‬غرائز‭ ‬بشرية‭ ‬طبيعية،‭ ‬أم‭ ‬إنها‭ ‬صناعة‭ ‬بشرية‭ ‬نتاج‭ ‬للحضارة‭ ‬وليست‭ ‬حالة‭ ‬طبيعية،‭ ‬أم‭ ‬إنها‭ ‬صراع‭ ‬بين‭ ‬الخير‭ ‬والشر‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬تصور‭ ‬الأديان‭.‬،،

 

وعبر‭ ‬التاريخ‭ ‬يظهر‭ ‬أن‭ ‬الإنسان‭ ‬يفسر‭ ‬الحروب‭ ‬بناءً‭ ‬على‭ ‬قِيَمِهِ‭ ‬الثقافية‭ ‬والدينية‭ ‬والسياسية،‭ ‬فيتحيز‭ ‬لسردياتها‭ ‬وأسبابها‭ ‬ونتائجها‭ ‬عقائدياً‭ ‬قبل‭ ‬أي‭ ‬أمر‭ ‬آخر‭. ‬ولكي‭ ‬يتقبل‭ ‬العقل‭ ‬الحديث‭ ‬أحداث‭ ‬حروب‭ ‬الماضي،‭ ‬يعمل‭ ‬البعض،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬قِيَمِهِ‭ ‬وبيئته‭ ‬الثقافية،‭ ‬على‭ ‬إعادة‭ ‬حبك‭ ‬سردياتها،‭ ‬بوسائل‭ ‬وأدوات‭ ‬العصر‭ ‬الذي‭ ‬يعيشه‭.‬

وبناءً‭ ‬عليه،‭ ‬يمكن‭ ‬إيجاز‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬يمكن‭ ‬للعقل‭ ‬البشري‭ ‬أن‮ ‬يفهم‭ ‬جوانب‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬الحروب عبر‭ ‬الأدلة‭ ‬التاريخية‭ ‬والنظريات‭ ‬الفلسفية،‭ ‬ولكن‭ ‬لا‭ ‬يمكنه‭ ‬إدراك‭ ‬حقيقتها‭ ‬المطلقة‭ ‬لأن‭ ‬التاريخ‭ ‬يُكتب‭ ‬بتحيز،‭ ‬ولأن‭ ‬المفاهيم‭ ‬الأخلاقية‭ ‬متغيرة،‭ ‬ولأن‭ ‬المؤثرات‭ ‬السياسية‭ ‬على‭ ‬تشكيل‭ ‬الوعي‭ ‬مضَلِّلَة‭.‬

 

التقدم‭ ‬المادي‭ ‬مقابل

‭ ‬الانحدار‭ ‬الأخلاقي‭ ‬

وللحديث‭ ‬حول‭ ‬فلسفة‭ ‬الحروب‭ ‬الحديثة‭ ‬ومجازية‭ ‬الروايات‭ ‬التي‭ ‬يكتبها‭ ‬المنتصر‭ ‬القوي،‭ ‬هناك‭ ‬تساؤلاً‭ ‬يطرح‭ ‬نفسه‭ ‬بإلحاح‭ ‬حول‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬ازدياد‭ ‬وتيرة‭ ‬الحروب‭ ‬والعنف‭ ‬والتطرف‭ ‬والكراهية،‭ ‬وبين‭ ‬الحداثة‭ ‬والتقدم‭ ‬العلمي‭ ‬المادي،‭ ‬وانتشار‭ ‬التعليم،‭ ‬وكأن‭ ‬الإنسان‭ ‬المعاصر‭ ‬كلما‭ ‬زاد‭ ‬ثراءً‭ ‬وتحضراً‭ ‬وعلماً‭ ‬زاد‭ ‬عنفاً‭ ‬ووحشية‭!‬

وهناك‭ ‬تساؤل‭ ‬آخر‭ ‬حول‭ ‬ماهية‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬تزايد‭ ‬الاهتمام‭ ‬بصناعة‭ ‬الأسلحة‭ ‬الأكثر‭ ‬تنكيلاً‭ ‬وتدميراً،‭ ‬وبالسجون‭ ‬ووسائل‭ ‬التعذيب‭ ‬الأبشع‭ ‬ألماً‭ ‬وتحطيماً‭ ‬للإنسان‭ (‬مثال‭: ‬سجون‭ ‬جوانتنامو،‭ ‬والتعذيب‭ ‬تحت‭ ‬إشراف‭ ‬اطباء‭ ‬نفسيين‭ ‬مثلاً‭)‬،‭ ‬وبين‭ ‬تصاعد‭ ‬الدعوة‭ ‬للديمقراطية‭ ‬والعدالة‭ ‬الدولية‭ ‬ومبادئ‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان‭! ‬وكأن‭ ‬العالم‭ ‬المتقدم‭ ‬والمتحضر‭ ‬يخفي‭ ‬ثقافته‭ ‬الجشعة‭ ‬وممارساته‭ ‬الوحشية‭ ‬خلف‭ ‬جدار‭ ‬من‭ ‬الشعارات‭ ‬والمعاهدات‭ ‬الأخلاقية‭ ‬الرفيعة‭!‬

تبدو‭ ‬هذه‭ ‬المقارنات‭ ‬بين‭ ‬المتناقضات،‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬وسط‭ ‬بينها،‭ ‬أشبه‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬بالمقارنة‭ ‬بين‭ ‬الحياة‭ ‬والموت،‭ ‬العدم‭ ‬والوجود،‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬مقارنات‭ ‬واقعية‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬نظام‭ ‬دولي‭ ‬نشأ‭ ‬بالحروب‭ ‬العالمية،‭ ‬ويتغذى‭ ‬على‭ ‬الحروب،‭ ‬وقائم‭ ‬على‭ ‬مبدأ‭ ‬أن‭ ‬‮«‬من‭ ‬يملك‭ ‬القوة‭ ‬يملك‭ ‬الحق‮»‬‭.‬

 

نظام‭ ‬عالمي‭ ‬ينتج‭ ‬العنف‭.. ‬

وأسطورة‭ ‬الحداثة‭ ‬والأخلاق

منذ‭ ‬نهاية الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ (‬1945‭)‬،‭ ‬وبدء‭ ‬عصر‭ ‬‮«‬الحداثة‮»‬‭ ‬وفلسفاتها‭ ‬الغربية،‭ ‬شهد‭ ‬العالم‮ ‬عدداً‭ ‬كبيراً‭ ‬من‭ ‬الحروب‭ ‬والنزاعات‭ ‬المسلحة،‭ ‬تتراوح‭ ‬بين‭ ‬حروب‭ ‬بين‭ ‬الدول،‭ ‬وحروب‭ ‬أهلية،‭ ‬ونزاعات‭ ‬مسلحة‭ ‬قصيرة،‭ ‬وعمليات‭ ‬عسكرية‭ ‬واسعة‭. ‬ووفقًا لبيانات‭ ‬موسوعة‭ ‬الحروب‭ ((‬COW‭- ‬Correlates‭ ‬of‭ ‬War‭ ‬Project‭ ‬correlatesofwar‭.‬org،‭ ‬وتقارير‭ ‬معهد‭ ‬ستوكهولم‭ ‬الدولي‭ ‬لأبحاث‭ ‬السلام‭ ‬www‭.‬sipri‭.‬org،‭ ‬هناك‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬250‭ ‬نزاعًا‭ ‬مسلحًا‭ ‬رئيسيًا‮ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬بين‭ ‬السنوات‭ ‬1945‭ ‬و2024،‭ ‬منها حوالي‭ ‬25‭-‬30‭ ‬حربًا‭ ‬بين‭ ‬دول،‭ ‬والباقي‮ ‬حروب‭ ‬أهلية‭ ‬أو‭ ‬نزاعات‭ ‬داخلية،‭ ‬وتقدر‭ ‬أعداد‭ ‬الضحايا‭ ‬بالملايين‭.‬

يشار‭ ‬إلى‭ ‬الفترة‭ ‬المذكورة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬البيانات‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬ذروة‭ ‬التقدم‭ ‬العلمي‭ ‬والحضاري‭ ‬البشري،‭ ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬عصر‭ ‬الأسلحة‭ ‬الرقمية‭ ‬المتمثلة‭ ‬في‭ ‬السلاح‭ ‬السيبراني،‭ ‬والأسلحة‭ ‬الذكية،‭ ‬وحروب‭ ‬المعلومات،‭ ‬التي‭ ‬باتت‭ ‬تشكل‭ ‬تهديداً‭ ‬عابراً‭ ‬للحدود،‭ ‬وتهديداً‭ ‬خفياً‭ ‬لصعوبة‭ ‬تتبعه‭ ‬واكتشاف‭ ‬الأدلة‭ ‬لإدانته،‭ ‬وتهديداً‭ ‬للأمن‭ ‬القومي‭ ‬والاقتصادي‭ ‬والاستقرار‭ ‬الاجتماعي‭ ‬عند‭ ‬اختراق‭ ‬البنى‭ ‬التحتية‭ ‬وشبكات‭ ‬الكهرباء‭ ‬والمؤسسات‭ ‬المالية‭ ‬والأنظمة‭ ‬الخدماتية‭ ‬والانتخابات،‭ ‬وفي‭ ‬عمليات‭ ‬تضليل‭ ‬الرأي‭ ‬العام‭ ‬وتزييف‭ ‬المعلومات،‭ ‬وغيرها‭.‬

ورغم‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬التهديدات‭ ‬الخارجة‭ ‬عن‭ ‬السيطرة،‭ ‬يعد‭ ‬هذا‭ ‬السلاح‭ ‬تهديداً‭ ‬غير‭ ‬خاضع‭ ‬للقانون‭ (‬Unregulated‭ ‬Threat‭)‬،‭ ‬لغياب‭ ‬الإطار‭ ‬القانوني‭ ‬والمعاهدات‭ ‬الملزمة‭ ‬الخاصة‭ ‬بالأسلحة‭ ‬الرقمية،‭ ‬مثل‭ ‬معاهدة حظر‭ ‬الأسلحة‭ ‬النووية،‭ ‬ولغياب‭ ‬عقوبات‭ ‬واضحة‭ ‬على‭ ‬الدول‭ ‬التي‭ ‬تطور‭ ‬فيروسات‭ ‬سيبرانية‭ ‬هجومية،‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الأسلحة‭ ‬هي‮ ‬الوجه‭ ‬الجديد‭ ‬للحروب في‭ ‬القرن‭ ‬الحادي‭ ‬والعشرين،‭ ‬وتتطلب‭ ‬استجابة‭ ‬استباقية‭ ‬قبل‭ ‬فوات‭ ‬الأوان‭.‬

وهنا‭ ‬يعود‭ ‬تساؤل‭ ‬المقارنة‭ ‬بين‭ ‬المتناقضات‭ ‬حول‭ ‬العلاقة‭ ‬المتضادة‭ ‬بين‭ ‬التقدم‭ ‬العلمي‭ ‬والسلم‭ ‬العالمي،‭ ‬والجدل‭ ‬حول‭ ‬مفهوم‭ ‬الحداثة‭ ‬والأخلاق‭ ‬والقوة،‭ ‬أو‭ ‬الحداثة‭ ‬ونظامها‭ ‬الرأسمالي،‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬تثبت‭ ‬لنا‭ ‬الحروب‭ ‬ارتباطاً‭ ‬بين‭ ‬التقدم‭ ‬المادي‭ ‬والانحطاط‭ ‬القِيَمِي،‭ ‬حيث‭ ‬يُستخدم‭ ‬العقل‭ ‬البشري‭ ‬كأداة‭ ‬للهيمنة‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬التحرر‭ (‬مثال‭: ‬إذكاء‭ ‬الكراهية‭ ‬في‭ ‬‮«‬الربيع‭ ‬العربي‮»‬‭)‬،‭ ‬وحيث‭ ‬يُوظَف‭ ‬النظام‭ ‬الرأسمالي‭ ‬التطور‭ ‬العلمي‭ ‬لصناعة‭ ‬أدوات‭ ‬الدمار‭ ‬الشامل‭ ‬وأدوات‭ ‬القمع‭ (‬مثال‭: ‬الأسلحة‭ ‬النووية،‭ ‬والمراقبة‭ ‬الجماعية‭ ‬عبر‭ ‬الهواتف‭)‬،‭ ‬ما‭ ‬يعكس‭ ‬تناقضًا‭ ‬جوهريًّا‭ ‬بين‭ ‬مفهوم‭ ‬الحداثة،‭ ‬والأخلاق‭.‬

 

التراكم‭ ‬القِيَمِي‭ ‬التاريخي‭.. ‬

العنصر‭ ‬المشترك‭ ‬

بالبحث‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الواقع‭ ‬المعقد،‭ ‬وفي‭ ‬محاولة‭ ‬للإحاطة‭ ‬الأبستمولوجية‭ ‬بهذه‭ ‬العلاقة‭ ‬الطردية‭ ‬بين‭ ‬التطور‭ ‬البشري‭ ‬المادي،‭ ‬بتفاصيلها‭ ‬الكلية‭ ‬والجزئية،‭ ‬وبين‭ ‬الانهيار‭ ‬الأخلاقي‭ ‬وتصاعد‭ ‬الحروب،‭ ‬يبرز‭ ‬عنصر‭ ‬مشترك‭ ‬يتمثل‭ ‬بالجذور‭ ‬الهمجية‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬أصحاب‭ ‬‮«‬نظرية‭ ‬الحداثة‮»‬،‭ ‬و«نظرية‭ ‬الاستعمار‮»‬،‭ ‬و«النظام‭ ‬الرأسمالي‮»‬،‭ ‬وبتجذر‭ ‬تاريخي‭ ‬لثقافة‭ ‬الاستيلاء‭ ‬والعنف‭ ‬في‭ ‬العقل‭ ‬والضمير‭ ‬الجمعي‭ ‬لتلك‭ ‬المجتمعات‭.‬

نشأ‭ ‬مفهوم‭ ‬الحداثة‭ ‬والنظام‭ ‬الرأسمالي‭ ‬في‭ ‬مجتمعات‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬لها‭ ‬تاريخ‭ ‬حضاري‭ ‬إنساني‭ ‬مبكر،‭ ‬ولم‭ ‬تمر‭ ‬بمراحل‭ ‬التطور‭ ‬القيمي‭ ‬الإنساني،‭ ‬التي‭ ‬جاءت‭ ‬مع‭ ‬الحضارات‭ ‬التأسيسية‭ ‬التاريخية‭ ‬في‭ ‬الشرق،‭ ‬ووضعت‭ ‬المواثيق‭ ‬الأخلاقية‭ ‬ومفاهيم‭ ‬الخير‭ ‬والشر‭ ‬للعالم،‭ ‬وشكّلَت‭ ‬الضمير‭ ‬الحضاري‭ ‬للبشرية؛‭ ‬لذلك‭ ‬لم‭ ‬يتقن‭ ‬فلاسفة‭ ‬عصر‭ ‬التنوير‭ ‬الأوروبي‭ ‬عملية‭ ‬البناء‭ ‬الأخلاقي‭ ‬لأممهم،‭ ‬بل‭ ‬تجاهلوا‭ ‬ذاك‭ ‬النسيج‭ ‬الثقافي‭ ‬والقِيَمِي‭ ‬الحضاري‭ ‬الإنساني‭ ‬السائد‭ ‬في‭ ‬عوالم‭ ‬الشرق‭ ‬منذ عصور‭ ‬الحكمة‭ ‬الإنسانية‭ ‬الأولى‭ ‬وما‭ ‬وضعته‭ ‬من‭ ‬مبادئ‭ ‬أخلاقية‭ ‬ومفاهيم‭ ‬للعدالة،‭ ‬كشريعة‭ ‬حمورابي‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬الرافدين،‭ ‬والفلسفات‭ ‬الكونفوشيوسية‭ ‬في‭ ‬الصين،‭ ‬وفي‭ ‬نصوص‭ ‬جلجامش‭ ‬السومرية،‭ ‬وفي‭ ‬ثنائيات‭ ‬الخير‭ ‬والشر‭ ‬في‭ ‬الأساطير‭ ‬البابلية‭... ‬ومن‭ ‬هذا‭ ‬البعد‭ ‬التاريخي‭ ‬نستكشف‭ ‬عمق‭ ‬الانفصام‭ ‬والازدواجية‭ ‬في‭ ‬شخصية‭ ‬وثقافات‭ ‬شعوب‭ ‬الشمال،‭ ‬وعمق‭ ‬الفجوة‭ ‬الأخلاقية‭ ‬والإنسانية‭ ‬الفاصلة‭ ‬بين‭ ‬الجنوب‭ ‬والشمال،‭ ‬وعمق‭ ‬ثقافة‭ ‬العنف‭ ‬السائدة‭ ‬في‭ ‬عقول‭ ‬ونفوس‭ ‬المجتمعات‭ ‬المادية‭ ‬الحديثة‭.‬

 

أسطورة‭ ‬النظام‭ ‬الرأسمالي‭ ‬

والتفوق‭ ‬الأخلاقي

يذكر‭ ‬عالِم‭ ‬الاجتماع‭ ‬الأمريكي‭ ‬إيمانويل‭ ‬والرشتاين‮ ‬Immanuel‭ ‬Wallerstein‭ ‬في‭ ‬مؤلفه‭ ‬الموسوعي‭ ‬ذي‭ ‬الأجزاء‭ ‬الأربعة‭: ‬‮«‬نظرية‭ ‬النظام‭ ‬العالمي‭ ‬World‭-‬Systems‭ ‬Theory‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬مؤسس‭ ‬النظرية،‭ ‬أن‭ ‬الرأسمالية‭ ‬المبكرة‭ (‬القرن‭ ‬16‭-‬18‭) ‬اعتمدت‭ ‬على‭ ‬ثلاثية‭:‬‮ ‬الإبادة‭ ‬الجماعية‭ ‬للأمم‭ ‬الأصلية‭ ‬و‭(‬تجارة‭ ‬العبيد‭) ‬واستنزاف‭ ‬موارد‭ ‬المستعمرات،‭ ‬ويؤكد‭ ‬إن‭ ‬هذه‭ ‬العمليات‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬‮«‬انحرافًا‮»‬‭ ‬عن‭ ‬المسار‭ ‬الحضاري‭ ‬للحداثة،‭ ‬بل‭ ‬أساسًا‭ ‬لتراكم‭ ‬الثروة‭ ‬الغربية‭. ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬مؤلفات‭ ‬لعلماء‭ ‬غربيين‭ ‬حول‭ ‬ما‭ ‬تم‭ ‬استخدامه‭ ‬من‭ ‬نظريات‭ ‬داروين‭ ‬الاجتماعية‭ ‬لتبرير‭ ‬العنف‭ ‬الاستعماري،‭ ‬وأخطرها‭ ‬‮«‬إبادة‭ ‬البرابرة‭ ‬من‭ ‬الشعوب‭ ‬الأصلية‮»‬‭.‬

أما‭ ‬عن‭ ‬صناعة‭ ‬الحروب‭ ‬واعتماد‭ ‬النظام‭ ‬الرأسمالي‭ ‬على‭ ‬التصنيع‭ ‬العسكري‭ ‬فتؤكده‭ ‬الأرقام‭ ‬والبيانات،‭ ‬حيث‭ ‬الإنفاق‭ ‬العسكري‭ ‬العالمي‭ ‬بلغ‭ ‬2‭.‬24‭ ‬تريليون‭ ‬دولار‭ ‬في‭ ‬2023،‭ ‬وأن‭ ‬90%‭ ‬من‭ ‬أسلحة‭ ‬العالم‭ ‬تُنتجها‭ ‬دول‭ ‬الناتو‭ (‬الرأسمالية‭) ‬وفقًا‭ ‬لتقارير‭ ‬معهد‭ ‬ستوكهولم‭ ‬لأبحاث‭ ‬السلام‭ (‬SIPRI‭ ‬2023‭)‬،‭ ‬وأن‭ ‬75%‭ ‬من‭ ‬حروب‭ ‬القرن‭ ‬الحادي‭ ‬والعشرين‭ ‬وقعت‭ ‬في‭ ‬دول‭ ‬كانت‭ ‬مستعمرات‭ ‬سابقة‭ (‬بحسب معهد‭ ‬بروكينغز‭). ‬

وفي‭ ‬المقابل،‭ ‬تُظهر‭ ‬تقارير‭ ‬‮«‬فريدوم‭ ‬هاوس‮»‬‭ ‬تراجعًا‭ ‬في‭ ‬الحريات‭ ‬الديمقراطية‭ ‬في‭ ‬60‭ ‬دولة‭ ‬منذ‭ ‬2010‭ ‬مع‭ ‬ارتفاع‭ ‬حاد‭ ‬في‭ ‬مبيعات‭ ‬الأسلحة‭ ‬للدول‭ ‬ذات‭ ‬‮«‬الأنظمة‭ ‬الاستبدادية‮»‬‭.‬

أما‭ ‬أعمال‭ ‬‮«‬نعوم‭ ‬تشومسكي‮»‬‭ ‬فتُظهر‭ ‬أن‭ ‬الصناعة‭ ‬العسكرية‭ ‬تشكل‭ ‬عمودًا‭ ‬أساسيًّا‭ ‬في‭ ‬الاقتصادات‭ ‬الرأسمالية‭ ‬المتقدمة،‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬50%‭ ‬من‭ ‬الميزانية‭ ‬الفيدرالية‭ ‬الأمريكية‭ ‬تذهب‭ ‬للإنفاق‭ ‬العسكري،‭ ‬ما‭ ‬يخلق‭ ‬‮«‬دوامة‭ ‬عنف‮»‬‭ ‬تُغذّيها‭ ‬مصالح‭ ‬الشركات‭ ‬العابرة‭ ‬للقوميات‭.‬

 

‮«‬نظرية‭ ‬الاستعمار‮»‬‭ ‬والانحطاط‭ ‬الأخلاقي‭ ‬للرأسمالية

لتعريف‭ ‬الجذور‭ ‬الاستعمارية‭ ‬للعنف‭ ‬الحديث،‭ ‬يوضح‭ ‬والرشتاين‭ ‬في‭ ‬مؤلفه‭ ‬السابق‭ ‬أن‭ ‬النظام‭ ‬العالمي‭ ‬يعتمد‭ ‬نظاما‭ ‬رأسماليا‭ ‬واحدا‭ ‬يقسّم‭ ‬العالم‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬دول‭ ‬المركز‭ ‬المهيمنة‭ ‬ودول‭ ‬المحيط‭ ‬المُستَنزَفة‭ ‬ودول‭ ‬شبه‭ ‬المحيط‭ ‬الوسيطة‭ ‬مثل‭ ‬الصين‭ ‬والبرازيل،‭ ‬وأن‭ ‬الاستعمار‭ ‬هو‭ ‬أساس‭ ‬النظام‭ ‬الرأسمالي،‭ ‬لذلك‭ ‬فإن‭ ‬التصنيع‭ ‬الأوروبي‭ ‬اعتمد‭ ‬على‭ ‬إفقار‭ ‬المستعمرات،‭ ‬ما‭ ‬خلق‭ ‬بنية‭ ‬عنيفة‭ ‬مستمرة‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬العولمة‭... ‬وأن‭ ‬الحروب‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ (‬بحسب‭ ‬والرشتاين‭) ‬هي‭ ‬امتداد‭ ‬لصراعات‭ ‬المركز‭ ‬للسيطرة‭ ‬على‭ ‬موارد‭ ‬الدول‭ ‬المستنزفة،‭ ‬كما‭ ‬ذكر‭ ‬نصاً‭ ‬أن‭ ‬‮«‬الرأسمالية‭ ‬هي‭ ‬أول‭ ‬نظام‭ ‬اقتصادي‭ ‬يجعل‭ ‬الفقر‭ ‬شرطًا‭ ‬لوجود‭ ‬الثروة‮»‬،‭ ‬وأن‭ ‬‮«‬الدول‭ ‬القومية‭ ‬ليست‭ ‬سوى‭ ‬أدوات‭ ‬لإدارة‭ ‬التفاوت‭ ‬العالمي‮»‬‭.‬

هذا‭ ‬التعريف‭ ‬المفاهيمي‭ ‬للنظام‭ ‬الرأسمالي‭ ‬ونظرية‭ ‬الاستعمار‭ ‬لربما‭ ‬يُعد‭ ‬مدخلاً‭ ‬أولياً‭ ‬لفهم‭ ‬مبررات‭ ‬بعض‭ ‬من‭ ‬ظواهر‭ ‬العنف‭ ‬السائدة‭ ‬في‭ ‬أكبر‭ ‬الدول‭ ‬الرأسمالية،‭ ‬بدءًا‭ ‬بالعنف‭ ‬الفردي‭ ‬السائد‭ ‬في‭ ‬مدارس‭ ‬الأطفال‭ ‬والسجون‭ ‬والشارع،‭ ‬انتهاءً‭ ‬بحروب‭ ‬استنزاف‭ ‬موارد‭ ‬دول‭ ‬المحيط،‭ ‬مروراً‭ ‬بصمت‭ ‬أغلبية‭ ‬المفكرين‭ ‬والفلاسفة‭ ‬الغربيين،‭ ‬مثل‭ ‬يورجن‭ ‬هابرماس‭ (‬أحد‭ ‬أبرز‭ ‬فلاسفة‭ ‬ومفكري‭ ‬مدرسة‭ ‬فرانكفورت‭ ‬النقدية‭)‬،‭ ‬عن‭ ‬الإبادة‭ ‬الجماعية‭ ‬في‭ ‬غزة،‭ ‬الذي‭ ‬يمثل‭ ‬فشل‭ ‬النخبة‭ ‬الغربية في‭ ‬تطبيق‭ ‬مبادئها‭ ‬على‭ ‬نفسها،‭ ‬ما‭ ‬يدعم‭ ‬صناعة‭ ‬الخطاب‭ ‬المبرر‭ ‬للعنف،‭ ‬مثل‭ ‬حروب‭ ‬‮«‬نشر‭ ‬الديمقراطية‮»‬‭.‬

 

هل‭ ‬انتهى‭ ‬عصر‭ ‬الأخلاق؟

إنه‭ ‬سؤال‭ ‬ليس‭ ‬عن‭ ‬‮«‬انحدار‮»‬‭ ‬الغرب،‭ ‬بل‭ ‬عن إمكانية‭ ‬بناء‭ ‬نظام‭ ‬عالمي‭ ‬جديد‭ ‬يعيد‭ ‬ربط‭ ‬التقدم‭ ‬المادي‭ ‬بالأخلاق‭... ‬والتاريخ‭ ‬يظهر‭ ‬أن‭ ‬الحضارات‭ ‬تنهار‭ ‬عندما‭ ‬تفقد‭ ‬شرعيتها‭ ‬الأخلاقية‭ (‬كما‭ ‬حدث‭ ‬للإمبراطورية‭ ‬الرومانية‭)‬،‭ ‬وربما‭ ‬يكون‭ ‬صعود‭ ‬الشرق‭ (‬الصين‭) ‬مع‭ ‬تمسكه‭ ‬بجذوره‭ ‬الحضارية‭ ‬مؤشرًا‭ ‬على‭ ‬تحوّل‭ ‬محتمل‭.. ‬والمستقبل‭ ‬يحمل‭ ‬المفاجآت‭.‬

 

sr@sameerarajab‭.‬net

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا