العدد : ١٧٢٢٤ - الثلاثاء ٢٠ مايو ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٢ ذو القعدة ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٢٢٤ - الثلاثاء ٢٠ مايو ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٢ ذو القعدة ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

كيف نحمي أطفالنا في ظل تحديات العالم الرقمي؟

بقلم: نبيلة رجب

الثلاثاء ٢٠ مايو ٢٠٢٥ - 02:00

حين‭ ‬يتعلق‭ ‬الأمر‭ ‬بالأطفال،‭ ‬فالقضية‭ ‬لا‭ ‬تكون‭ ‬قانونية‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬مجتمعية‭ ‬بامتياز‭. ‬حماية‭ ‬الطفل‭ ‬لا‭ ‬تبدأ‭ ‬في‭ ‬نصوص‭ ‬التشريعات،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬تفاصيل‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية،‭ ‬في‭ ‬طريقة‭ ‬حديثنا‭ ‬معه،‭ ‬في‭ ‬نوع‭ ‬الأسئلة‭ ‬التي‭ ‬نطرحها‭ ‬عليه،‭ ‬وفي‭ ‬كيف‭ ‬نرى‭ ‬الطفولة‭ ‬أصلا‭: ‬هل‭ ‬نعتبرها‭ ‬مرحلة‭ ‬حرجة‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬وعي‭ ‬خاص،‭ ‬أم‭ ‬أنها‭ ‬تمرين‭ ‬مؤقت‭ ‬على‭ ‬النضج؟

‭ ‬في‭ ‬بلدٍ‭ ‬يسعى‭ ‬إلى‭ ‬تعزيز‭ ‬بيئة‭ ‬قانونية‭ ‬صديقة‭ ‬للطفل،‭ ‬جاءت‭ ‬التعديلات‭ ‬على‭ ‬قانون‭ ‬‮«‬العدالة‭ ‬الإصلاحية‭ ‬للأطفال‭ ‬وحمايتهم‭ ‬من‭ ‬سوء‭ ‬المعاملة‮»‬‭ ‬التي‭ ‬صادق‭ ‬عليها‭ ‬جلالة‭ ‬الملك،‭ ‬لتضيف‭ ‬أدوات‭ ‬جديدة‭ ‬لحماية‭ ‬الطفل‭ ‬وتوجيهه‭ ‬عند‭ ‬التعثر‭. ‬قرارات‭ ‬مثل‭ ‬الاختبار‭ ‬القضائي‭ ‬أو‭ ‬وضع‭ ‬قيود‭ ‬إلكترونية‭ ‬أو‭ ‬جغرافية‭ ‬لا‭ ‬تهدف‭ ‬إلى‭ ‬العقوبة،‭ ‬بل‭ ‬إلى‭ ‬الوقاية‭. ‬وهذا‭ ‬التوجه‭ ‬الإصلاحي‭ ‬يعكس‭ ‬فهما‭ ‬متقدما‭ ‬للواقع‭ ‬الذي‭ ‬يعيشه‭ ‬الأطفال‭ ‬اليوم،‭ ‬خصوصا‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬العالم‭ ‬الرقمي‭ ‬المعقّد‭.‬

‭ ‬لكن‭ ‬القانون،‭ ‬مهما‭ ‬بلغ‭ ‬من‭ ‬التقدم،‭ ‬يبقى‭ ‬خطوة‭ ‬أولى‭ ‬فقط‭. ‬المسؤولية‭ ‬الأوسع‭ ‬تظل‭ ‬في‭ ‬يد‭ ‬المجتمع‭. ‬فالقانون‭ ‬يوفر‭ ‬الإطار،‭ ‬بينما‭ ‬تشكل‭ ‬البيئات‭ ‬الاجتماعية‭ -‬من‭ ‬المنزل‭ ‬إلى‭ ‬المدرسة،‭ ‬ومن‭ ‬الإعلام‭ ‬إلى‭ ‬الشارع‭- ‬مضمون‭ ‬التجربة‭ ‬التي‭ ‬يعيشها‭ ‬الطفل‭. ‬لهذا‭ ‬فإن‭ ‬نجاح‭ ‬أي‭ ‬نظام‭ ‬لحماية‭ ‬الطفولة‭ ‬لا‭ ‬يقاس‭ ‬فقط‭ ‬بصرامة‭ ‬نصوصه،‭ ‬بل‭ ‬أيضا‭ ‬بمدى‭ ‬قدرتنا‭ ‬على‭ ‬تهيئة‭ ‬الظروف‭ ‬التي‭ ‬تغني‭ ‬عن‭ ‬استخدام‭ ‬تلك‭ ‬النصوص‭ ‬أصلا‭.‬

‭ ‬في‭ ‬عمق‭ ‬أي‭ ‬مجتمع،‭ ‬توجد‭ ‬منظومة‭ ‬غير‭ ‬مكتوبة‭ ‬من‭ ‬القيم‭ ‬التي‭ ‬تُشكّل‭ ‬نظرته‭ ‬للطفولة‭. ‬حين‭ ‬تُربط‭ ‬الطاعة‭ ‬بالصمت،‭ ‬يُصبح‭ ‬الطفل‭ ‬‮«‬المثالي‮»‬‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬يعترض‭ ‬ولا‭ ‬يُبدي‭ ‬رأيا‭. ‬وحين‭ ‬تختصر‭ ‬التربية‭ ‬في‭ ‬التوجيه‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬واحد،‭ ‬ينتج‭ ‬ذلك‭ ‬أجيالا‭ ‬لا‭ ‬تعرف‭ ‬كيف‭ ‬تعبر‭ ‬عن‭ ‬احتياجاتها،‭ ‬ولا‭ ‬كيف‭ ‬تفاوض‭ ‬على‭ ‬كرامتها‭. ‬إن‭ ‬إحدى‭ ‬التحديات‭ ‬الخفية‭ ‬التي‭ ‬تواجه‭ ‬حماية‭ ‬الطفل،‭ ‬ليست‭ ‬فقط‭ ‬في‭ ‬غياب‭ ‬القوانين‭ ‬أو‭ ‬ضعف‭ ‬الوعي،‭ ‬بل‭ ‬أحيانا‭ ‬في‭ ‬قناعات‭ ‬راسخة‭ ‬ترى‭ ‬في‭ ‬الانضباط‭ ‬غاية،‭ ‬وفي‭ ‬الاستقلالية‭ ‬خطرا‭. ‬وما‭ ‬لم‭ ‬نراجع‭ ‬هذه‭ ‬القيم‭ ‬المتوارثة،‭ ‬فإن‭ ‬كل‭ ‬محاولات‭ ‬الحماية‭ ‬ستظل‭ ‬سطحية،‭ ‬مهما‭ ‬كانت‭ ‬نيّاتنا‭ ‬حسنة‭.‬

‭ ‬ليس‭ ‬كل‭ ‬أذى‭ ‬يُرى‭. ‬وبعضه‭ ‬يعيش‭ ‬في‭ ‬تفاصيل‭ ‬لا‭ ‬ينتبه‭ ‬لها‭ ‬أحد‭. ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬يظهر‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الأذى‭ ‬لا‭ ‬يتحدث‭ ‬عنه‭ ‬الناس‭ ‬كثيرا،‭ ‬ربما‭ ‬لأنه‭ ‬لا‭ ‬يُرى‭ ‬ولا‭ ‬يُوثق‭ ‬بسهولة‭. ‬أذى‭ ‬لا‭ ‬يأتي‭ ‬على‭ ‬هيئة‭ ‬عنف‭ ‬مباشر،‭ ‬بل‭ ‬يتسلل‭ ‬في‭ ‬تفاصيل‭ ‬تبدو‭ ‬عادية‭: ‬مقارنة‭ ‬الطفل‭ ‬المستمرة‭ ‬بغيره،‭ ‬تعريضه‭ ‬المستمر‭ ‬للضغوط،‭ ‬تجاهل‭ ‬حاجاته‭ ‬النفسية‭ ‬الصغيرة‭ ‬لأنها‭ ‬‮«‬غير‭ ‬مهمة‮»‬،‭ ‬أو‭ ‬استخدامه‭ ‬في‭ ‬مواقف‭ ‬تفوق‭ ‬وعيه‭ ‬كوسيلة‭ ‬لإثبات‭ ‬شيء‭ ‬ما‭ ‬للكبار‭.‬

‭ ‬تظهر‭ ‬بعض‭ ‬الدراسات‭ ‬الحديثة‭ ‬أن‭ ‬الأطفال‭ ‬الذين‭ ‬ينشأون‭ ‬في‭ ‬بيئات‭ ‬لا‭ ‬تعترف‭ ‬بمشاعرهم‭ ‬أو‭ ‬تسخر‭ ‬منها،‭ ‬يعانون‭ ‬لاحقا‭ ‬من‭ ‬صعوبات‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬علاقات‭ ‬آمنة‭ ‬ومستقرة‭. ‬وهذا‭ ‬يدفعنا‭ ‬إلى‭ ‬طرح‭ ‬سؤال‭ ‬مهم‭: ‬هل‭ ‬نمتلك،‭ ‬كمجتمع،‭ ‬ما‭ ‬يكفي‭ ‬من‭ ‬الوعي‭ ‬لفهم‭ ‬الطفل‭ ‬ككائن‭ ‬مستقل،‭ ‬له‭ ‬حقوق‭ ‬تتجاوز‭ ‬الحماية‭ ‬الجسدية‭ ‬إلى‭ ‬الرعاية‭ ‬الفكرية‭ ‬والعاطفية؟

‭ ‬القضية‭ ‬ليست‭ ‬في‭ ‬حماية‭ ‬الطفل‭ ‬من‭ ‬الغرباء،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬حمايته‭ ‬من‭ ‬الأذى‭ ‬المقنّع‭ ‬الذي‭ ‬يأتي‭ ‬أحيانا‭ ‬من‭ ‬أقرب‭ ‬الناس‭ ‬إليه‭. ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى،‭ ‬يظل‭ ‬العالم‭ ‬الرقمي‭ ‬تحديا‭ ‬غير‭ ‬مسبوق‭. ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬البيئة‭ ‬الآمنة‭ ‬تتكوّن‭ ‬فقط‭ ‬من‭ ‬الحي‭ ‬والمدرسة،‭ ‬بل‭ ‬من‭ ‬المواقع‭ ‬التي‭ ‬يزورها‭ ‬الطفل،‭ ‬والمحتوى‭ ‬الذي‭ ‬يتفاعل‭ ‬معه‭. ‬وهنا‭ ‬تبرز‭ ‬أهمية‭ ‬التعديل‭ ‬الجديد،‭ ‬الذي‭ ‬يسمح‭ ‬بتقييد‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬بعض‭ ‬المنصات‭ ‬الضارة،‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬الرقابة،‭ ‬بل‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬الحماية‭ ‬الاستباقية‭. ‬ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬فإن‭ ‬نجاح‭ ‬هذه‭ ‬الإجراءات‭ ‬يعتمد‭ ‬أيضا‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬وعي‭ ‬الأسرة‭ ‬ومهاراتها‭ ‬في‭ ‬توجيه‭ ‬الطفل،‭ ‬لا‭ ‬فقط‭ ‬مراقبته‭.‬

‭ ‬جزء‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬حماية‭ ‬الطفل‭ ‬يبدأ‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يقع‭ ‬في‭ ‬الخطر،‭ ‬حين‭ ‬نُحسن‭ ‬تهيئة‭ ‬بيئة‭ ‬تمنحه‭ ‬أدوات‭ ‬الفهم‭ ‬والتعبير‭. ‬التربية‭ ‬اليوم‭ ‬لا‭ ‬يكفي‭ ‬أن‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬المحبة‭ ‬والرعاية،‭ ‬بل‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬تسميته‭ ‬بـ«التمكين‭ ‬الهادئ‮»‬‭: ‬أن‭ ‬نُعلّم‭ ‬الطفل‭ ‬كيف‭ ‬يميّز‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬يزعجه‭ ‬وما‭ ‬يؤذيه،‭ ‬كيف‭ ‬يقول‭ ‬‮«‬لا‮»‬‭ ‬بثقة‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يشعر‭ ‬بالذنب،‭ ‬وكيف‭ ‬يلجأ‭ ‬إلى‭ ‬من‭ ‬يثق‭ ‬بهم‭ ‬دون‭ ‬خوف‭ ‬من‭ ‬العقاب‭. ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬التربية‭ ‬لا‭ ‬يلغي‭ ‬سلطة‭ ‬الكبار،‭ ‬بل‭ ‬يجعلها‭ ‬أكثر‭ ‬نضجا،‭ ‬لأنها‭ ‬تُبنى‭ ‬على‭ ‬احترام‭ ‬الوعي‭ ‬لا‭ ‬على‭ ‬فرض‭ ‬الصمت‭.‬

‭ ‬ربما‭ ‬يكون‭ ‬أهم‭ ‬ما‭ ‬نحتاج‭ ‬إليه‭ ‬اليوم‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬ننتقل‭ ‬من‭ ‬ثقافة‭ ‬‮«‬ردّ‭ ‬الفعل‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬ثقافة‭ ‬‮«‬الاستباق‮»‬‭. ‬أن‭ ‬نحسن‭ ‬الإصغاء‭ ‬إلى‭ ‬الطفل‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يضطر‭ ‬إلى‭ ‬الصمت،‭ ‬وأن‭ ‬نتدخل‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تتفاقم‭ ‬المشكلة‭. ‬أن‭ ‬نسأل‭ ‬أنفسنا،‭ ‬ببساطة،‭ ‬لا‭ ‬من‭ ‬موقع‭ ‬المحاسبة‭ ‬بل‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬المسؤولية‭ ‬المشتركة‭: ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نفعله،‭ ‬نحن‭ ‬كمجتمع،‭ ‬كأفراد،‭ ‬كإعلام،‭ ‬كمربين،‭ ‬ليشعر‭ ‬كل‭ ‬طفل‭ ‬بأنه‭ ‬في‭ ‬مأمن،‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬الخطر‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬من‭ ‬سوء‭ ‬الفهم‭ ‬والتجاهل‭ ‬والإقصاء؟

‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬الأمر،‭ ‬لا‭ ‬تُبنى‭ ‬المجتمعات‭ ‬المتماسكة‭ ‬بالأنظمة‭ ‬وحدها،‭ ‬بل‭ ‬بالوعي‭ ‬المتبادل‭. ‬وطفل‭ ‬اليوم،‭ ‬هو‭ ‬مرآة‭ ‬ضميرنا‭. ‬فإن‭ ‬ربيناه‭ ‬على‭ ‬الأمن،‭ ‬أنشأنا‭ ‬مجتمعا‭ ‬آمنا‭. ‬وإن‭ ‬أهملناه،‭ ‬فلا‭ ‬قانون‭ - ‬مهما‭ ‬كان‭ ‬محكما‭- ‬يستطيع‭ ‬إصلاح‭ ‬ما‭ ‬فات‭. ‬ليس‭ ‬الطفل‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬من‭ ‬يحكم‭ ‬عليه،‭ ‬بل‭ ‬لمن‭ ‬يفهمه‭. ‬فهل‭ ‬نمنحه‭ ‬هذا‭ ‬الفهم‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يطلبه‭ ‬من‭ ‬خارج‭ ‬إطار‭ ‬الأسرة؟

‭ ‬rajabnabeela@gmail‭.‬com

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا