حين يتعلق الأمر بالأطفال، فالقضية لا تكون قانونية فقط، بل مجتمعية بامتياز. حماية الطفل لا تبدأ في نصوص التشريعات، بل في تفاصيل الحياة اليومية، في طريقة حديثنا معه، في نوع الأسئلة التي نطرحها عليه، وفي كيف نرى الطفولة أصلا: هل نعتبرها مرحلة حرجة تحتاج إلى وعي خاص، أم أنها تمرين مؤقت على النضج؟
في بلدٍ يسعى إلى تعزيز بيئة قانونية صديقة للطفل، جاءت التعديلات على قانون «العدالة الإصلاحية للأطفال وحمايتهم من سوء المعاملة» التي صادق عليها جلالة الملك، لتضيف أدوات جديدة لحماية الطفل وتوجيهه عند التعثر. قرارات مثل الاختبار القضائي أو وضع قيود إلكترونية أو جغرافية لا تهدف إلى العقوبة، بل إلى الوقاية. وهذا التوجه الإصلاحي يعكس فهما متقدما للواقع الذي يعيشه الأطفال اليوم، خصوصا في ظل العالم الرقمي المعقّد.
لكن القانون، مهما بلغ من التقدم، يبقى خطوة أولى فقط. المسؤولية الأوسع تظل في يد المجتمع. فالقانون يوفر الإطار، بينما تشكل البيئات الاجتماعية -من المنزل إلى المدرسة، ومن الإعلام إلى الشارع- مضمون التجربة التي يعيشها الطفل. لهذا فإن نجاح أي نظام لحماية الطفولة لا يقاس فقط بصرامة نصوصه، بل أيضا بمدى قدرتنا على تهيئة الظروف التي تغني عن استخدام تلك النصوص أصلا.
في عمق أي مجتمع، توجد منظومة غير مكتوبة من القيم التي تُشكّل نظرته للطفولة. حين تُربط الطاعة بالصمت، يُصبح الطفل «المثالي» هو من لا يعترض ولا يُبدي رأيا. وحين تختصر التربية في التوجيه من طرف واحد، ينتج ذلك أجيالا لا تعرف كيف تعبر عن احتياجاتها، ولا كيف تفاوض على كرامتها. إن إحدى التحديات الخفية التي تواجه حماية الطفل، ليست فقط في غياب القوانين أو ضعف الوعي، بل أحيانا في قناعات راسخة ترى في الانضباط غاية، وفي الاستقلالية خطرا. وما لم نراجع هذه القيم المتوارثة، فإن كل محاولات الحماية ستظل سطحية، مهما كانت نيّاتنا حسنة.
ليس كل أذى يُرى. وبعضه يعيش في تفاصيل لا ينتبه لها أحد. في هذا السياق، يظهر نوع من الأذى لا يتحدث عنه الناس كثيرا، ربما لأنه لا يُرى ولا يُوثق بسهولة. أذى لا يأتي على هيئة عنف مباشر، بل يتسلل في تفاصيل تبدو عادية: مقارنة الطفل المستمرة بغيره، تعريضه المستمر للضغوط، تجاهل حاجاته النفسية الصغيرة لأنها «غير مهمة»، أو استخدامه في مواقف تفوق وعيه كوسيلة لإثبات شيء ما للكبار.
تظهر بعض الدراسات الحديثة أن الأطفال الذين ينشأون في بيئات لا تعترف بمشاعرهم أو تسخر منها، يعانون لاحقا من صعوبات في بناء علاقات آمنة ومستقرة. وهذا يدفعنا إلى طرح سؤال مهم: هل نمتلك، كمجتمع، ما يكفي من الوعي لفهم الطفل ككائن مستقل، له حقوق تتجاوز الحماية الجسدية إلى الرعاية الفكرية والعاطفية؟
القضية ليست في حماية الطفل من الغرباء، بل في حمايته من الأذى المقنّع الذي يأتي أحيانا من أقرب الناس إليه. من جهة أخرى، يظل العالم الرقمي تحديا غير مسبوق. إذ لم تعد البيئة الآمنة تتكوّن فقط من الحي والمدرسة، بل من المواقع التي يزورها الطفل، والمحتوى الذي يتفاعل معه. وهنا تبرز أهمية التعديل الجديد، الذي يسمح بتقييد الوصول إلى بعض المنصات الضارة، ليس من باب الرقابة، بل من باب الحماية الاستباقية. ومع ذلك، فإن نجاح هذه الإجراءات يعتمد أيضا على مدى وعي الأسرة ومهاراتها في توجيه الطفل، لا فقط مراقبته.
جزء كبير من حماية الطفل يبدأ قبل أن يقع في الخطر، حين نُحسن تهيئة بيئة تمنحه أدوات الفهم والتعبير. التربية اليوم لا يكفي أن تقوم على المحبة والرعاية، بل تحتاج إلى ما يمكن تسميته بـ«التمكين الهادئ»: أن نُعلّم الطفل كيف يميّز بين ما يزعجه وما يؤذيه، كيف يقول «لا» بثقة دون أن يشعر بالذنب، وكيف يلجأ إلى من يثق بهم دون خوف من العقاب. هذا النوع من التربية لا يلغي سلطة الكبار، بل يجعلها أكثر نضجا، لأنها تُبنى على احترام الوعي لا على فرض الصمت.
ربما يكون أهم ما نحتاج إليه اليوم هو أن ننتقل من ثقافة «ردّ الفعل» إلى ثقافة «الاستباق». أن نحسن الإصغاء إلى الطفل قبل أن يضطر إلى الصمت، وأن نتدخل قبل أن تتفاقم المشكلة. أن نسأل أنفسنا، ببساطة، لا من موقع المحاسبة بل من باب المسؤولية المشتركة: ما الذي يمكن أن نفعله، نحن كمجتمع، كأفراد، كإعلام، كمربين، ليشعر كل طفل بأنه في مأمن، ليس من الخطر فقط، بل من سوء الفهم والتجاهل والإقصاء؟
في نهاية الأمر، لا تُبنى المجتمعات المتماسكة بالأنظمة وحدها، بل بالوعي المتبادل. وطفل اليوم، هو مرآة ضميرنا. فإن ربيناه على الأمن، أنشأنا مجتمعا آمنا. وإن أهملناه، فلا قانون - مهما كان محكما- يستطيع إصلاح ما فات. ليس الطفل بحاجة إلى من يحكم عليه، بل لمن يفهمه. فهل نمنحه هذا الفهم قبل أن يطلبه من خارج إطار الأسرة؟
rajabnabeela@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك