ينتابني شعور مخيف، ويراودني إحساس غريب بأنني أصبحت أعاني نوعا من الإدمان على استخدام الهاتف النقال الذكي وبرامج ووسائل التواصل الاجتماعي الكثيرة التي بداخل هذا الجهاز الصغير والبسيط في هيئته، والكبير والمعقد في مضمونه ومحتواه، بحيث إن هذا الهاتف يرافقني في أي وقت، وفي أي مكان أوجد فيه. فهذا الهاتف أصبح منذ سنوات رفيقي وصديقي ومؤنسي أينما كُنت، في السفر والحضر، فهو يلازمني وفي متناول يدي منذ الدقيقة الأولى من استيقاظي من النوم، حتى آخر دقيقة قبل الخلود إلى النوم. فهذا الواقع المقلق والمخيف في الوقت نفسه الذي أنا فيه، والملايين من البشر في كل أنحاء العالم، جعلني أفكر في مدى تأثيره على صحتي العضوية، والنفسية، والعقلية.
ولكن الانطباع العام لدي منذ سنوات عدة، وعند كثير من الناس، أن هذا الهاتف الذكي ووسائل التواصل الاجتماعي الكثيرة والمتنوعة يقع تأثيرها في الأطفال، وصغار السن من المراهقين والشباب فقط، وأما الكبار فهم بمنأى عنها، فهم أكثر خبرة في الحياة، وأشد نضوجاً، وأكبر عقلاً وفكراً من أن يسقطوا ضحية، وفريسة سهلة لسلبيات وتهديدات وسائل التواصل الاجتماعي.
وتغير هذا الانطباع السائد عندما اطلعتُ على مقابلة شخصية مع أحد الخبراء والاختصاصيين أجرتها صحيفة «التايمز» البريطانية في 2 مايو 2025 مع طبيبة خبيرة في شؤون وشجون وسائل التواصل الاجتماعي، وتأثيراتها في الفرد والمجتمع. فقد أكدت وحذرت هذه الخبيرة البريطانية بأن ظاهرة الإدمان على الهاتف النقال الذكي ووسائل الاتصال الاجتماعي لا يقع فيها الأطفال فحسب، وليست لصغار السن والمراهقين، وإنما يقع الكبار أيضاً فريسة سهلة لمغريات هذه الوسائل، وبعض المحتويات الضارة، فتأثيراتها السلبية الخطرة يتعرض لها الصغار والكبار، والأطفال والشباب والشيوخ معاً.
أما الأطفال وصغار السن فتهديدات وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت واقعية منذ سنوات عدة، والإدمان عليها تحول إلى ظاهرة اجتماعية لها تداعيات صحية تضرب بشدة الجانب العقلي والنفسي للمراهقين، فتعرضهم للإصابة بالقلق، والاكتئاب، والعزلة، والذي مع الوقت يتحول إلى مرض عضوي مزمن يصعب علاجه، ويؤدي إلى الانتحار. وكل هذه التهديدات والمخاطر تقع ضمن مصطلح جديد وشامل وعام هو التوتر، أو «الاضطراب الرقمي» (Digital Disorders)، وهو مرض عقلي ونفسي يصيب الذين يُفرطون في استخدام الإنترنت، والكمبيوتر، والهواتف الذكية، ووسائل التواصل الاجتماعي ساعات طويلة من اليوم والليلة لسنوت طويلة. فلهذا «الاضطراب الرقمي» أوجه كثيرة وأنواع مختلفة، منها المتعلق بالإدمان على ألعاب الفيديو، ومنها الإدمان على الإنترنت، ومنها الهاتف الذكي وما يحتويه من وسائل للتواصل الاجتماعي. ومن أقدم الأنواع هو الإدمان على ألعاب الفيديو، واعتراف المجتمع الطبي رسميا بوجود مرض عقلي ونفسي تحت مسمى مرض «اضطراب الألعاب» (Gaming Disorder)، حيث اعتمدت منظمة الصحة العالمية رسميا في عام 2022 هذا التوتر والاضطراب كمرض خاص ضمن التصنيف الدولي للأمراض.
والدراسات والأبحاث المنشورة تؤكد هذا الواقع الحالي المتعلق بالإفراط في الاعتماد على الوسائل الرقمية بمختلف أنواعها وأشكالها، وتعرض الجميع من صغار وكبار لأمراض عقلية ونفسية نتيجة لهذا الإدمان. فهناك دراسة منشورة في 28 أبريل 2025 في «مجلة جمعية الأطباء الأمريكيين» ( Journal of the American Medical Association) تحت عنوان: «نحو تعريف أنماط استخدام وسائل التواصل عند المراهقين». وقد أكدت هذه الدراسة الانتشار الواسع للاستخدام المفرط والسيء وغير الصحي لهذه الوسائل، حيث إن 15% من الأطفال والمراهقين في الولايات المتحدة الأمريكية يقضون ويمضون قرابة 9 ساعات يومياً على أجهزة رقمية، مثل الهاتف النقال، والآي باد، والكمبيوتر، كما أن أكثر من 95% من مراهقي أمريكا من الذين تتراوح أعمارهم بين 13 إلى 17 استخدموا نوعا من أنواع وسائل التواصل. ونظراً لشدة تفاقم هذه الأزمة الصحية والاجتماعية في المجتمعات عامة، وفي المجتمعات الأمريكية والغربية المتقدمة والثرية خاصة، فإن جمعية الأطباء الأمريكية قارنت هذا النوع من الإدمان الرقمي بالإدمان على شرب الكحوليات.
وفي تحقيق نُشر في المحطة الإخبارية الأمريكية «سي إن إن» في 22 أبريل 2025 تحت عنوان: «المراهقون، وسائل التواصل والصحة العقلية»، فقد أفاد التحقيق بأن نسبة مرتفعة من المستخدمين يقولون إن وسائل التواصل تضر بصحتهم العقلية، وهذه النسبة في ارتفاع مستمر مع الوقت، مما اضطر الجراح العام الأمريكي السابق «فيفك ميرثي» (Vivek Murthy) إلى وصف هذه الحالة المتعاظمة بالأزمة الصحية القومية الواقعية التي تهدد الأمن الصحي للأطفال والمراهقين الأمريكيين. فقد نشر في 17 يونيو 2024 مقالاً صحيفة النيويورك تايمز الأمريكية، إضافة إلى التقرير الاستشاري الصحي الموجه للشعب الأمريكي تحت عنوان: «التواصل الاجتماعي والصحة العقلية للشباب»، حيث دعا المسؤول الأول عن الصحة العامة الكونجرس الأمريكي إلى التدخل سريعاً في تنظيم هذه الوسائل من خلال سن قانون يلزم شركات التكنولوجيا الكبرى المنتجة لهذه الأدوات الحديثة، مثل جوجل، وفيس بوك، ومنصة أكس، وغيرها إلى إصدار ووضع علامات تحذيرية، وملصقات توجيهية على هذه الوسائل والتطبيقات، ومنصات وسائل التواصل الاجتماعي. ومن العبارات التحذيرية التي يقترحها (الجراح العام) المسؤول الأول عن صحة الشعب الأمريكي هي: «التواصل الاجتماعي له علاقة بوقوع أضرار جسيمة على الصحة العقلية للمراهقين». فوجود مثل هذه العبارات التي تدق ناقوس الخطر، تُلفت عناية ورعاية المجتمع الأمريكي برمته، وتوقظ الآباء، وأوليا الأمور، والمسؤولين في المدارس والجامعات وغيرهما وترفع من إدراكهم ووعيهم على ضرورة أن تكون هناك هبَّة جماعية مجتمعية لمكافحة هذا الوباء الجديد الذي ولج إلى بيوت كل مواطن، وخلق أزمة صحية كبيرة وطارئة تتمثل في تدهور الصحة العقلية والنفسية للأطفال والشباب والمراهقين، بل وكبار السن على حدٍ سواء.
وعلاوة على ذلك فقد دخل «المنتدى الاقتصادي العالمي» المهتم عادة بالجانب الاقتصادي والتنموي على خط تأثيرات وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل التقنية الرقمية الكثيرة، ونَظَّم عدة حلقات نقاش وحوار في عدة دورات منها الاجتماع الذي عقد في الفترة من 15 إلى 19 يناير 2024، حيث طرح عدة أسئلة منها: ما أهم العوامل الأكثر تأثيراً على الصحة العامة، حيث كانت وسائل التواصل الاجتماعي في مقدمة هذه العوامل التي تسبب اضطراباً وتوتراً صحياً واجتماعياً على الفرد والأسرة.
فالأزمة الصحية العقلية، والنفسية، والجسدية التي تنجم عن الاستخدام المفرط وغير المسؤول للهاتف الذكي ووسائل التواصل الاجتماعي تعاني منها كل المجتمعات حول العالم، ولكن التأثيرات السلبية انكشفت أولاً على المجتمعات الغربية والمجتمعات المتقدمة الغنية التي تستطيع تحمل تكاليف شراء الهواتف الذكية، وتمتلك بنية تحتية تقنية رقمية متطورة وثابتة ومستقرة، ولكن عدوى هذه التأثيرات بلغت اليوم كل دول العالم دون استثناء، مما يعني أنها تحولت إلى قضية دولية عامة ومشتركة تستدعي جهوداً جماعية مشتركة، وتتطلب في الوقت نفسه حلولاً مشتركة أيضاً.
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك