ليست القوانين وحدها من تحرر الكلمة، بل الكاتب الذي يعرف كيف يسكنها بمعنى يليق.
وقد أقر مجلس النواب مؤخرا التعديلات على قانون الصحافة والطباعة والنشر، وهي الآن في طور استكمال الإجراءات الدستورية لإقرارها النهائي.
تعديلات قانون الصحافة في البحرين، وعلى رأسها إلغاء الحبس في قضايا النشر، إنما جاءت لتكون بمثابة رفع لسقف تحمل المسؤولية الذاتية بشأن حرية التعبير. فالمساحة التي أتاحها القانون ليست مساحة للقول فقط، بل لاختبار الضمير والنية والمعنى.
أن يلغى الحبس، وأن تُنظَّم العلاقة مع الإعلام الإلكتروني، وأن يعاد توصيف التكليف، بحيث يتركز على الفعل لا على الصفة، فهذه ليست تفاصيل تقنية في نص قانوني، بل ملامح لتحول في فلسفة التشريع ذاته: من الجزاء إلى المحاسبة، ومن الضوابط إلى المشاركة الواعية.
ككاتبة تحمل خلفية قانونية، أستشعر في هذه التعديلات انتقالا ناضجا إلى وعي المساءلة، ومن النص الجامد إلى بيئة تشريعية تحترم دور الكلمة دون أن تغفل أثرها.
في القراءة الهادئة لهذا القانون، يتبين أنها لم تكتف بتخفيف القيود، بل أعادت ضبط العلاقة بين حرية النشر وحدودها. فالرقابة لم تعد تعني وجود أي نوع من العقوبات الجاهزة، بل إطلاق العنان لتحمل مسؤولية تبنى على الفعل الواضح. كما أن إدراج الإعلام الإلكتروني ضمن الإطار القانوني كان ضرورة، واعترافا بدوره وتأثيره، وهي إشارة إلى أن النص لم يَعد غافلا عن واقع جديد يتشكل فيه الرأي العام خارج الورق.
لكن هذا كله، على أهميته، لا يعفي الكاتب من سؤاله الأول: هل تستخدم هذه المساحة بما يعزز وعي الناس ويخدم وحدتهم، أم بما يربك رؤيتهم ويزيد انقسامهم؟
ومع أن الكاتب في واجهة الكلمة، إلا أن الضبط الأخلاقي للمضمون الإعلامي، لا ينحصر فيه وحده. فالمناخ الإعلامي السليم لا يبنى على ضمير فرد، بل على منظومة تدعم حرية التعبير وتضمن نزاهة المعلومة، وتفتح المجال لنقاش عام ناضج، لا لإثارة سطحية. وفي ظل قانونٍ جديد، تصبح الشراكة بين الكلمة والمؤسسة، وبين الحرية والمهنية، أكثر إلحاحا من أي وقت مضى.
لقد أتاح التعديل الجديد للقانون هامشا أوسع للكتابة، لكنه في المقابل ضيق مجال التهرب من الواجب القيمي والمهني. أصبح دور الكاتب، والناشر، ومدير التحرير في ظل هذه التعديلات أكثر وضوحا وتأثيرًا، باعتبارهم جميعا شركاء في مسؤولية الكلمة وأثرها.
في عهد الكلمة المسؤولة، لم يعد السؤال: من يكتب؟ بل: ماذا نكتب؟ ولأي غاية؟ وبأي أثر نسهم في المشهد العام؟
وهنا، تتضح القيمة الحقيقية لهذه التعديلات. فالقانون، كما يقرؤه الفقيه القانوني، يعيد ترتيب العلاقة بين النص والممارسة، بين الحبر والضمير. لقد انتقل مركز الثقل من الخارج إلى الداخل، من الرقابة إلى المحاسبة الذاتية، وإلى الالتزام بالمعنى.
لم تعد الساحة الإعلامية مساحة للطرح فقط، بل مجالا لاختبار الرؤية والنية. فكل عنوان ينشر هو خيار، وكل سطر يكتب هو موقف. لهذا، فإن الكاتب في هذه المرحلة لا يملك رفاهية الانفعال، ولا متعة التلميح المضلل، ولا ترف تغذية التوتر تحت مسمى التعبير. هو أمام عهد يتطلب صفاءً في المقصد، وصدقا في التعبير، ورقيا في الغاية.
قد يظن البعض أن غياب القيود هو لحظة تحرر، لكنه في الحقيقة لحظة امتحان. ففي ظل الرقابة، كان الكاتب يبحث عن الصيغة التي تمر، أما في ظل الحرية، فعليه أن يبحث عن الصيغة التي تستحق أن تقال. أن يكتب وهو يدرك أن القانون قد صمت، لكن القارئ لم يعد صامتا. وأن الأثر الحقيقي لا يقاس بما ينشر، بل بما يوقظ، ويصلح، ويضيء.
في هذا السياق، تكتسب الكلمة معناها الأسمى حين تستخدم لتقريب الناس، لا لتعميق شقوقهم. لا يحتاج الكاتب في البحرين إلى أن يكون طرفا في نزاع، بل أن يكون جسرا بين المختلفين. وأن يحسن استخدام حريته في زرع خطاب جامع، لا شعارات تستهلك على عجل.
فالمجتمع الذي تتاح فيه الكلمة، هو ذاته المجتمع الذي يستحق أن توجَّه له الكلمة النزيهة، العادلة، التي لا تقصي أحدا، ولا تلصق التهم، ولا تغذي تصنيفات خفية.
ليس مطلوبا من الكاتب أن يكون محايدا إلى حد الغياب، بل أن يكون عادلا إلى حد الإنصاف. أن يعرف أن حرية التعبير ليست ذريعة للتهور، بل فرصة للنبل. وأن يكون، دون أن يعلن ذلك، أشبه برسول صدق يحمل المعنى بأمانة، ويقدمه بلغة يفهمها الجميع، من دون أن يشعر أحد أنه مستثنى من الخطاب، أو مدان من بين السطور.
هكذا يمكن للقانون أن يثمر. لا حين يعلن فقط، بل حين يتحوّل إلى وعي يُضيء مسار الكلمة، ويمنحها معناها الأعمق.
في هذا العهد، تتسع أمام الكاتب فسحة التعبير، وتتعاظم معه مسؤولية الأثر. وما أسمى أن يُكتب النص بدافع الضمير، لا لملء الفراغ، وأن تمارس الحرية كأمانة تصان، لا كمساحة تستهلك.
في النهاية، لا تقاس القوانين بما تغيّره في الورق، بل بما تحييه في الوعي. والقانون الذي يحترم الكاتب، لا ينتظر منه أن يكافئه بالصمت، بل بأن يرد الأمانة بأمانة، والحرية بمسؤولية، والكلمة بمستوى يليق بها.
rajabnabeela@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك