العدد : ١٧٢٦٨ - الخميس ٠٣ يوليو ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٨ محرّم ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٢٦٨ - الخميس ٠٣ يوليو ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٨ محرّم ١٤٤٧هـ

قضايا و آراء

رسالة الكلمة بين الحرية والمسؤولية

بقلم: نبيلة رجب

الخميس ١٥ مايو ٢٠٢٥ - 02:00

ليست‭ ‬القوانين‭ ‬وحدها‭ ‬من‭ ‬تحرر‭ ‬الكلمة،‭ ‬بل‭ ‬الكاتب‭ ‬الذي‭ ‬يعرف‭ ‬كيف‭ ‬يسكنها‭ ‬بمعنى‭ ‬يليق‭.‬

وقد‭ ‬أقر‭ ‬مجلس‭ ‬النواب‭ ‬مؤخرا‭ ‬التعديلات‭ ‬على‭ ‬قانون‭ ‬الصحافة‭ ‬والطباعة‭ ‬والنشر،‭ ‬وهي‭ ‬الآن‭ ‬في‭ ‬طور‭ ‬استكمال‭ ‬الإجراءات‭ ‬الدستورية‭ ‬لإقرارها‭ ‬النهائي‭.‬

تعديلات‭ ‬قانون‭ ‬الصحافة‭ ‬في‭ ‬البحرين،‭ ‬وعلى‭ ‬رأسها‭ ‬إلغاء‭ ‬الحبس‭ ‬في‭ ‬قضايا‭ ‬النشر،‭ ‬إنما‭ ‬جاءت‭ ‬لتكون‭ ‬بمثابة‭ ‬رفع‭ ‬لسقف‭ ‬تحمل‭ ‬المسؤولية‭ ‬الذاتية‭ ‬بشأن‭ ‬حرية‭ ‬التعبير‭. ‬فالمساحة‭ ‬التي‭ ‬أتاحها‭ ‬القانون‭ ‬ليست‭ ‬مساحة‭ ‬للقول‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬لاختبار‭ ‬الضمير‭ ‬والنية‭ ‬والمعنى‭.‬

أن‭ ‬يلغى‭ ‬الحبس،‭ ‬وأن‭ ‬تُنظَّم‭ ‬العلاقة‭ ‬مع‭ ‬الإعلام‭ ‬الإلكتروني،‭ ‬وأن‭ ‬يعاد‭ ‬توصيف‭ ‬التكليف،‭ ‬بحيث‭ ‬يتركز‭ ‬على‭ ‬الفعل‭ ‬لا‭ ‬على‭ ‬الصفة،‭ ‬فهذه‭ ‬ليست‭ ‬تفاصيل‭ ‬تقنية‭ ‬في‭ ‬نص‭ ‬قانوني،‭ ‬بل‭ ‬ملامح‭ ‬لتحول‭ ‬في‭ ‬فلسفة‭ ‬التشريع‭ ‬ذاته‭: ‬من‭ ‬الجزاء‭ ‬إلى‭ ‬المحاسبة،‭ ‬ومن‭ ‬الضوابط‭ ‬إلى‭ ‬المشاركة‭ ‬الواعية‭.‬

ككاتبة‭ ‬تحمل‭ ‬خلفية‭ ‬قانونية،‭ ‬أستشعر‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬التعديلات‭ ‬انتقالا‭ ‬ناضجا‭ ‬إلى‭ ‬وعي‭ ‬المساءلة،‭ ‬ومن‭ ‬النص‭ ‬الجامد‭ ‬إلى‭ ‬بيئة‭ ‬تشريعية‭ ‬تحترم‭ ‬دور‭ ‬الكلمة‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تغفل‭ ‬أثرها‭.‬

في‭ ‬القراءة‭ ‬الهادئة‭ ‬لهذا‭ ‬القانون،‭ ‬يتبين‭ ‬أنها‭ ‬لم‭ ‬تكتف‭ ‬بتخفيف‭ ‬القيود،‭ ‬بل‭ ‬أعادت‭ ‬ضبط‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬حرية‭ ‬النشر‭ ‬وحدودها‭. ‬فالرقابة‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬تعني‭ ‬وجود‭ ‬أي‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬العقوبات‭ ‬الجاهزة،‭ ‬بل‭ ‬إطلاق‭ ‬العنان‭ ‬لتحمل‭ ‬مسؤولية‭ ‬تبنى‭ ‬على‭ ‬الفعل‭ ‬الواضح‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬إدراج‭ ‬الإعلام‭ ‬الإلكتروني‭ ‬ضمن‭ ‬الإطار‭ ‬القانوني‭ ‬كان‭ ‬ضرورة،‭ ‬واعترافا‭ ‬بدوره‭ ‬وتأثيره،‭ ‬وهي‭ ‬إشارة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬النص‭ ‬لم‭ ‬يَعد‭ ‬غافلا‭ ‬عن‭ ‬واقع‭ ‬جديد‭ ‬يتشكل‭ ‬فيه‭ ‬الرأي‭ ‬العام‭ ‬خارج‭ ‬الورق‭.‬

لكن‭ ‬هذا‭ ‬كله،‭ ‬على‭ ‬أهميته،‭ ‬لا‭ ‬يعفي‭ ‬الكاتب‭ ‬من‭ ‬سؤاله‭ ‬الأول‭: ‬هل‭ ‬تستخدم‭ ‬هذه‭ ‬المساحة‭ ‬بما‭ ‬يعزز‭ ‬وعي‭ ‬الناس‭ ‬ويخدم‭ ‬وحدتهم،‭ ‬أم‭ ‬بما‭ ‬يربك‭ ‬رؤيتهم‭ ‬ويزيد‭ ‬انقسامهم؟

ومع‭ ‬أن‭ ‬الكاتب‭ ‬في‭ ‬واجهة‭ ‬الكلمة،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬الضبط‭ ‬الأخلاقي‭ ‬للمضمون‭ ‬الإعلامي،‭ ‬لا‭ ‬ينحصر‭ ‬فيه‭ ‬وحده‭. ‬فالمناخ‭ ‬الإعلامي‭ ‬السليم‭ ‬لا‭ ‬يبنى‭ ‬على‭ ‬ضمير‭ ‬فرد،‭ ‬بل‭ ‬على‭ ‬منظومة‭ ‬تدعم‭ ‬حرية‭ ‬التعبير‭ ‬وتضمن‭ ‬نزاهة‭ ‬المعلومة،‭ ‬وتفتح‭ ‬المجال‭ ‬لنقاش‭ ‬عام‭ ‬ناضج،‭ ‬لا‭ ‬لإثارة‭ ‬سطحية‭. ‬وفي‭ ‬ظل‭ ‬قانونٍ‭ ‬جديد،‭ ‬تصبح‭ ‬الشراكة‭ ‬بين‭ ‬الكلمة‭ ‬والمؤسسة،‭ ‬وبين‭ ‬الحرية‭ ‬والمهنية،‭ ‬أكثر‭ ‬إلحاحا‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬وقت‭ ‬مضى‭.‬

لقد‭ ‬أتاح‭ ‬التعديل‭ ‬الجديد‭ ‬للقانون‭ ‬هامشا‭ ‬أوسع‭ ‬للكتابة،‭ ‬لكنه‭ ‬في‭ ‬المقابل‭ ‬ضيق‭ ‬مجال‭ ‬التهرب‭ ‬من‭ ‬الواجب‭ ‬القيمي‭ ‬والمهني‭. ‬أصبح‭ ‬دور‭ ‬الكاتب،‭ ‬والناشر،‭ ‬ومدير‭ ‬التحرير‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬هذه‭ ‬التعديلات‭ ‬أكثر‭ ‬وضوحا‭ ‬وتأثيرًا،‭ ‬باعتبارهم‭ ‬جميعا‭ ‬شركاء‭ ‬في‭ ‬مسؤولية‭ ‬الكلمة‭ ‬وأثرها‭.‬

في‭ ‬عهد‭ ‬الكلمة‭ ‬المسؤولة،‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬السؤال‭: ‬من‭ ‬يكتب؟‭ ‬بل‭: ‬ماذا‭ ‬نكتب؟‭ ‬ولأي‭ ‬غاية؟‭ ‬وبأي‭ ‬أثر‭ ‬نسهم‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬العام؟

وهنا،‭ ‬تتضح‭ ‬القيمة‭ ‬الحقيقية‭ ‬لهذه‭ ‬التعديلات‭. ‬فالقانون،‭ ‬كما‭ ‬يقرؤه‭ ‬الفقيه‭ ‬القانوني،‭ ‬يعيد‭ ‬ترتيب‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬النص‭ ‬والممارسة،‭ ‬بين‭ ‬الحبر‭ ‬والضمير‭. ‬لقد‭ ‬انتقل‭ ‬مركز‭ ‬الثقل‭ ‬من‭ ‬الخارج‭ ‬إلى‭ ‬الداخل،‭ ‬من‭ ‬الرقابة‭ ‬إلى‭ ‬المحاسبة‭ ‬الذاتية،‭ ‬وإلى‭ ‬الالتزام‭ ‬بالمعنى‭.‬

لم‭ ‬تعد‭ ‬الساحة‭ ‬الإعلامية‭ ‬مساحة‭ ‬للطرح‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬مجالا‭ ‬لاختبار‭ ‬الرؤية‭ ‬والنية‭. ‬فكل‭ ‬عنوان‭ ‬ينشر‭ ‬هو‭ ‬خيار،‭ ‬وكل‭ ‬سطر‭ ‬يكتب‭ ‬هو‭ ‬موقف‭. ‬لهذا،‭ ‬فإن‭ ‬الكاتب‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬لا‭ ‬يملك‭ ‬رفاهية‭ ‬الانفعال،‭ ‬ولا‭ ‬متعة‭ ‬التلميح‭ ‬المضلل،‭ ‬ولا‭ ‬ترف‭ ‬تغذية‭ ‬التوتر‭ ‬تحت‭ ‬مسمى‭ ‬التعبير‭. ‬هو‭ ‬أمام‭ ‬عهد‭ ‬يتطلب‭ ‬صفاءً‭ ‬في‭ ‬المقصد،‭ ‬وصدقا‭ ‬في‭ ‬التعبير،‭ ‬ورقيا‭ ‬في‭ ‬الغاية‭.‬

قد‭ ‬يظن‭ ‬البعض‭ ‬أن‭ ‬غياب‭ ‬القيود‭ ‬هو‭ ‬لحظة‭ ‬تحرر،‭ ‬لكنه‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬لحظة‭ ‬امتحان‭. ‬ففي‭ ‬ظل‭ ‬الرقابة،‭ ‬كان‭ ‬الكاتب‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬الصيغة‭ ‬التي‭ ‬تمر،‭ ‬أما‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬الحرية،‭ ‬فعليه‭ ‬أن‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬الصيغة‭ ‬التي‭ ‬تستحق‭ ‬أن‭ ‬تقال‭. ‬أن‭ ‬يكتب‭ ‬وهو‭ ‬يدرك‭ ‬أن‭ ‬القانون‭ ‬قد‭ ‬صمت،‭ ‬لكن‭ ‬القارئ‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬صامتا‭. ‬وأن‭ ‬الأثر‭ ‬الحقيقي‭ ‬لا‭ ‬يقاس‭ ‬بما‭ ‬ينشر،‭ ‬بل‭ ‬بما‭ ‬يوقظ،‭ ‬ويصلح،‭ ‬ويضيء‭.‬

في‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬تكتسب‭ ‬الكلمة‭ ‬معناها‭ ‬الأسمى‭ ‬حين‭ ‬تستخدم‭ ‬لتقريب‭ ‬الناس،‭ ‬لا‭ ‬لتعميق‭ ‬شقوقهم‭. ‬لا‭ ‬يحتاج‭ ‬الكاتب‭ ‬في‭ ‬البحرين‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬طرفا‭ ‬في‭ ‬نزاع،‭ ‬بل‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬جسرا‭ ‬بين‭ ‬المختلفين‭. ‬وأن‭ ‬يحسن‭ ‬استخدام‭ ‬حريته‭ ‬في‭ ‬زرع‭ ‬خطاب‭ ‬جامع،‭ ‬لا‭ ‬شعارات‭ ‬تستهلك‭ ‬على‭ ‬عجل‭.‬

‭ ‬فالمجتمع‭ ‬الذي‭ ‬تتاح‭ ‬فيه‭ ‬الكلمة،‭ ‬هو‭ ‬ذاته‭ ‬المجتمع‭ ‬الذي‭ ‬يستحق‭ ‬أن‭ ‬توجَّه‭ ‬له‭ ‬الكلمة‭ ‬النزيهة،‭ ‬العادلة،‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تقصي‭ ‬أحدا،‭ ‬ولا‭ ‬تلصق‭ ‬التهم،‭ ‬ولا‭ ‬تغذي‭ ‬تصنيفات‭ ‬خفية‭.‬

ليس‭ ‬مطلوبا‭ ‬من‭ ‬الكاتب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬محايدا‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬الغياب،‭ ‬بل‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬عادلا‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬الإنصاف‭. ‬أن‭ ‬يعرف‭ ‬أن‭ ‬حرية‭ ‬التعبير‭ ‬ليست‭ ‬ذريعة‭ ‬للتهور،‭ ‬بل‭ ‬فرصة‭ ‬للنبل‭. ‬وأن‭ ‬يكون،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يعلن‭ ‬ذلك،‭ ‬أشبه‭ ‬برسول‭ ‬صدق‭ ‬يحمل‭ ‬المعنى‭ ‬بأمانة،‭ ‬ويقدمه‭ ‬بلغة‭ ‬يفهمها‭ ‬الجميع،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يشعر‭ ‬أحد‭ ‬أنه‭ ‬مستثنى‭ ‬من‭ ‬الخطاب،‭ ‬أو‭ ‬مدان‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬السطور‭.‬

هكذا‭ ‬يمكن‭ ‬للقانون‭ ‬أن‭ ‬يثمر‭. ‬لا‭ ‬حين‭ ‬يعلن‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬حين‭ ‬يتحوّل‭ ‬إلى‭ ‬وعي‭ ‬يُضيء‭ ‬مسار‭ ‬الكلمة،‭ ‬ويمنحها‭ ‬معناها‭ ‬الأعمق‭.‬

‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العهد،‭ ‬تتسع‭ ‬أمام‭ ‬الكاتب‭ ‬فسحة‭ ‬التعبير،‭ ‬وتتعاظم‭ ‬معه‭ ‬مسؤولية‭ ‬الأثر‭. ‬وما‭ ‬أسمى‭ ‬أن‭ ‬يُكتب‭ ‬النص‭ ‬بدافع‭ ‬الضمير،‭ ‬لا‭ ‬لملء‭ ‬الفراغ،‭ ‬وأن‭ ‬تمارس‭ ‬الحرية‭ ‬كأمانة‭ ‬تصان،‭ ‬لا‭ ‬كمساحة‭ ‬تستهلك‭.‬

في‭ ‬النهاية،‭ ‬لا‭ ‬تقاس‭ ‬القوانين‭ ‬بما‭ ‬تغيّره‭ ‬في‭ ‬الورق،‭ ‬بل‭ ‬بما‭ ‬تحييه‭ ‬في‭ ‬الوعي‭. ‬والقانون‭ ‬الذي‭ ‬يحترم‭ ‬الكاتب،‭ ‬لا‭ ‬ينتظر‭ ‬منه‭ ‬أن‭ ‬يكافئه‭ ‬بالصمت،‭ ‬بل‭ ‬بأن‭ ‬يرد‭ ‬الأمانة‭ ‬بأمانة،‭ ‬والحرية‭ ‬بمسؤولية،‭ ‬والكلمة‭ ‬بمستوى‭ ‬يليق‭ ‬بها‭.‬

 

rajabnabeela@gmail‭.‬com

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا