يعد ما يقوم به الأهل من مقارنة لأولادهم ببعضهم البعض أو بغيرهم من الأطفال، مثل: «شوف ولد خالتك، دايمًا يجيب الأول على الصف، وأنت دراستك كلها طايحة وشوف أخوك الصغير، كله +A وأنت بالكاد ناجح ويا ريت تتعلم من ولد عمك، شايل اسمه واسم أهله فوق ولماذا لا تكون مجتهدًا مثل أخيك؟ أو صديقك أفضل منك في الدراسة»، من أكبر الأخطاء التربوية.
ذلك أن هذه المقارنات قد تترك أثرًا نفسيًّا عميقًا يدوم مع الطفل مدى الحياة. عندما يسمع الطفل عبارات كهذه، يشعر بأنه غير محبوب أو غير كفء أو عديم القدرة، مما يؤدي إلى تحول الدافع الطبيعي للتطور إلى شعور بالدونية والنقص. وقد أثبتت الدراسات النفسية أن الأطفال الذين يتعرضون للمقارنات المستمرة هم أكثر عرضة للقلق الاجتماعي، وتدني احترام الذات، والانسحاب من التحديات خوفًا من الفشل.
إن خطورة هذه العبارات لا تكمن في محتواها المباشر فحسب، بل في الرسالة غير المعلنة التي تصل إلى عقل الطفل: «أنت لست جيدًا». هذا النوع من التوجيه، بدلًا من أن يكون محفزًا، يُشعر الطفل بأن حبه وتقديره مرهونان بتفوق الآخرين، ليس بجده واجتهاده. بل ويؤدي أحيانًا إلى كره الطفل للمقارَن به (مثل أخ أو ابن عم أو زميل)، مما يولد علاقات مشحونة داخل الأسرة أو المدرسة.
ومن جهة أخرى، قد يتحول الطفل إلى شخص دائم التوتر، يسعى إلى إرضاء الآخرين على حساب راحته النفسية، خوفًا من تكرار الإحباط أو الشعور بالخزي. والأسوأ من ذلك كله، أن الطفل قد يعتاد الشعور بالدونية لدرجة أنه لا يعود يطمح لتحسين نفسه، مقتنعًا بأن أي محاولة ستبوء بالفشل كما صُوّرت له مرارًا.
إن هذه المقارنات تُحدث شروخًا في ثقة الطفل بنفسه، وتعيد تشكيل نظرته لذاته بطريقة سلبية يصعب ترميمها أو إعادة بنائها لاحقًا. فبدلًا من أن تكون الأسرة بيئة آمنة ينمو فيها الطفل بحرية واطمئنان، تتحول إلى مساحة ضغط ومحاسبة مستمرة على أساس معايير ما أنزل الله بها من سلطان. لذا فإن إدراك الأهل لهذا الخطر هو الخطوة الأولى لحماية أطفالهم من ترسبات نفسية قد ترافقهم عقودا.
تؤثر هذه المقارنات بشكل مباشر في بناء الثقة بالنفس، حيث يبدأ الطفل بمقارنة نفسه بالآخرين بشكل دائم، مما يجعله يشكك في قدراته حتى في أبسط المواقف. بدلاً من أن يعتبر الاختلاف مصدر قوة وتفرد، يراه دليلاً على النقص والقصور يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة، ومع تكرار هذا النمط، خاصة في المراحل الأولية من النمو، قد يظهر لدى الطفل ميل إلى التقليد الأعمى للآخرين بدلاً من ابتكار أساليبه الخاصة، مما يقيد شخصيته ويكبت طموحه. والأسوأ من ذلك، أن هذه المشاعر السلبية قد ترافقه إلى مرحلة المراهقة والشباب، مما يجعله سجينًا للخوف من التقييم والنقد في مجالات الحياة المختلفة، سواء في الدراسة أو العمل أو العلاقات الاجتماعية.
تكمن خطورة هذه الحالة في أنها لا تتوقف عند ضعف الثقة، بل قد تتطور إلى انسحاب اجتماعي أو تبني مواقف دفاعية بشكل دائم، حيث يشعر الفرد بالحاجة المستمرة إلى إثبات ذاته للآخرين بدلاً من أن يكون فخورا بقدراته.
كما أن ضعف الشعور بالرضا الداخلي يجعل الشخص أكثر عرضة للتأثر بآراء الآخرين، مما يؤثر في استقراره النفسي ويحد من قدراته على مواجهة التحديات. إن المقارنة ليست مجرد سلاح يهدد نظرة الطفل لنفسه، بل هي أيضًا حاجز يمنعه من استكشاف إمكاناته بشغف وحرية.
لذا، يجب على الأهل تجنب الوقوع في فخ المقارنات الضارة بقدرات الأطفال. بدلاً من ذلك، ينبغي عليهم التركيز على متابعة التقدم الشخصي لكل طفل، وملاحظة جهوده وإنجازاته مهما كانت بسيطة. إن التشجيع الصادق، والتقدير العادل، وإتاحة الفرصة لكل طفل لاكتشاف قدراته في بيئة آمنة وداعمة هي عوامل أساسية لبناء شخصية واثقة قادرة على مواجهة التحديات. فالثقة بالنفس لا تُكتسب بالكلمات الكبيرة، بل تُزرع من خلال التعامل اليومي، والملاحظة الدقيقة، والاحترام العميق لما هو فريد في كل طفل. يجب أن نكون حذرين من العبارات التي قد نندم عليها لاحقًا، والتي قد تُفقد أطفالنا مستقبلًا واعدًا.
الأهل هم المرآة الأولى التي يرى الطفل من خلالها نفسه، فإذا كانت هذه المرآة مليئة بالانتقاص والمقارنة، فإن ذلك سينعكس سلبًا على صورته الداخلية. أما إذا كانت مليئة بالقبول والتقدير، فإن شخصية الطفل ستنمو بشكل متوازن، مما يجعله يدرك قيمته ويؤمن بقدراته.
من المهم أن يدرك الأهل أن كل طفل يسير في مسار مختلف من النمو والتطور، ولا توجد وصفة واحدة للنجاح تنطبق على الجميع. من خلال احترام هذا الاختلاف وتشجيع الطفل على التقدم وفقًا لإمكاناته الخاصة، يمكن بناء أساس نفسي متين يساعد الطفل على التوجه بثقة نحو المستقبل.
{ أستاذ مساعد، قسم الدراسات التربوية
كلية البحرين للمعلمين، جامعة البحرين
mmusah@uob.edu.bh
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك