العدد : ١٧٢١٧ - الثلاثاء ١٣ مايو ٢٠٢٥ م، الموافق ١٥ ذو القعدة ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٢١٧ - الثلاثاء ١٣ مايو ٢٠٢٥ م، الموافق ١٥ ذو القعدة ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

«الظاهرة البرتقالية».. حين يتحول الفن إلى اقتصاد

بقلم: نبيلة رجب

الاثنين ١٢ مايو ٢٠٢٥ - 02:00

في‭ ‬العادة،‭ ‬نُحمِّل‭ ‬الألوان‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬تحتمله،‭ ‬فنربط‭ ‬الأحمر‭ ‬بالغضب،‭ ‬والأزرق‭ ‬بالهدوء،‭ ‬والأبيض‭ ‬بالسلام‭. ‬أما‭ ‬البرتقالي،‭ ‬فهو‭ ‬لونٌ‭ ‬متردد‭ ‬بين‭ ‬دفء‭ ‬الشمس‭ ‬ونضج‭ ‬الثمار،‭ ‬لا‭ ‬يستقر‭ ‬في‭ ‬خانة‭ ‬واحدة‭. ‬لكنه‭ ‬اليوم‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬لونا‭ ‬جماليا‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬بات‭ ‬اسما‭ ‬لاقتصاد‭ ‬عالمي‭ ‬جديد،‭ ‬اسمه‭ ‬الاقتصاد‭ ‬البرتقالي،‭ ‬حيث‭ ‬يصبح‭ ‬الإبداع‭ ‬عملة،‭ ‬والخيال‭ ‬مشروعا،‭ ‬واللوحة‭ ‬سندا‭ ‬للهوية‭.‬

أن‭ ‬تعلن‭ ‬البحرين‭ ‬انطلاق‭ ‬‮«‬عام‭ ‬الاقتصاد‭ ‬البرتقالي‮»‬،‭ ‬فذلك‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬فقط‭ ‬إطلاق‭ ‬مبادرة‭ ‬فنية،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬اختيارٌ‭ ‬واعٍ‭ ‬لوضع‭ ‬الثقافة‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬التنمية‭. ‬هذه‭ ‬خطوة‭ ‬تتجاوز‭ ‬الدعم‭ ‬الرمزي،‭ ‬نحو‭ ‬الإيمان‭ ‬الحقيقي‭ ‬بأن‭ ‬الفنون‭ ‬ليست‭ ‬زينة،‭ ‬بل‭ ‬رافدا‭ ‬اقتصاديا،‭ ‬وجسرا‭ ‬نحو‭ ‬المستقبل‭.‬

الفكرة‭ ‬ليست‭ ‬وليدة‭ ‬اللحظة‭. ‬العالم‭ ‬من‭ ‬حولنا‭ ‬يعيد‭ ‬اكتشاف‭ ‬قيمة‭ ‬الصناعات‭ ‬الإبداعية‭: ‬الأفلام،‭ ‬التصميم،‭ ‬الموسيقى،‭ ‬الحرف،‭ ‬ألعاب‭ ‬الفيديو،‭ ‬التراث،‭ ‬وصناعة‭ ‬المحتوى‭. ‬كل‭ ‬ما‭ ‬ينبع‭ ‬من‭ ‬الإنسان،‭ ‬ويصاغ‭ ‬بذائقته‭ ‬ووعيه‭ ‬وخياله،‭ ‬أصبح‭ ‬يحسب‭ ‬اليوم‭ ‬بالأرقام،‭ ‬ويدرّب‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬الجامعات،‭ ‬وتبنى‭ ‬له‭ ‬الحاضنات،‭ ‬ويتداول‭ ‬في‭ ‬سوق‭ ‬عالمي‭ ‬حقيقي‭.‬

لكن‭ ‬في‭ ‬البحرين،‭ ‬للفكرة‭ ‬وقع‭ ‬مختلف‭. ‬لأنها‭ ‬ليست‭ ‬تقليدا‭ ‬لما‭ ‬يحدث‭ ‬في‭ ‬الخارج‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬استجابة‭ ‬حقيقية‭ ‬لما‭ ‬تكتنزه‭ ‬هذه‭ ‬الأرض‭ ‬من‭ ‬طاقة‭ ‬فنية‭ ‬دفينة،‭ ‬ومواهب‭ ‬تبحث‭ ‬عن‭ ‬نافذة‭. ‬ليست‭ ‬لدينا‭ ‬غابات،‭ ‬لكن‭ ‬لدينا‭ ‬قصائد‭. ‬ليست‭ ‬لدينا‭ ‬جبال‭ ‬شاهقة،‭ ‬لكن‭ ‬لدينا‭ ‬سردٌ‭ ‬طويلٌ‭ ‬عن‭ ‬البحر‭ ‬واللؤلؤ‭ ‬والحنين‭. ‬الثقافة‭ ‬هنا‭ ‬ليست‭ ‬استيرادًا،‭ ‬بل‭ ‬ذاكرة‭ ‬ممتدة‭.‬

من‭ ‬خلال‭ ‬الشراكة‭ ‬بين‭ ‬مكتب‭ ‬اليونيدو‭ ‬ومؤسسة‭ ‬راشد‭ ‬آل‭ ‬خليفة‭ ‬للفنون،‭ ‬تأخذ‭ ‬هذه‭ ‬الرؤية‭ ‬بعدا‭ ‬مؤسسيا‭ ‬ناضجا‭. ‬لا‭ ‬نتحدث‭ ‬عن‭ ‬معرض‭ ‬عابر‭ ‬أو‭ ‬مهرجان‭ ‬موسمي،‭ ‬بل‭ ‬عن‭ ‬منظومة‭ ‬جديدة‭ ‬تبنى،‭ ‬تتلاقى‭ ‬فيها‭ ‬الفنون‭ ‬مع‭ ‬الاقتصاد،‭ ‬والموهبة‭ ‬مع‭ ‬التدريب،‭ ‬والخيال‭ ‬مع‭ ‬الإدارة‭. ‬إن‭ ‬تحويل‭ ‬‮«‬المحطة‭ ‬الفنية‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬منصة‭ ‬تطوير‭ ‬ودعم‭ ‬وتمكين‭ ‬للمبدعين،‭ ‬هو‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الاستثمار‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يقاس‭ ‬بالمتر،‭ ‬بل‭ ‬يقاس‭ ‬بالأثر‭ ‬الثقافي‭ ‬والوطني‭ ‬والإنساني‭.‬

وهنا،‭ ‬تبرز‭ ‬المرأة‭ ‬البحرينية‭ ‬بوصفها‭ ‬إحدى‭ ‬أكبر‭ ‬المستفيدات‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬التحول‭. ‬

لعقود،‭ ‬ظلت‭ ‬مشاركة‭ ‬المرأة‭ ‬محكومة‭ ‬بإطار‭ ‬العمل‭ ‬التقليدي،‭ ‬وغالبا‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬الإبداع‭ ‬بالنسبة‭ ‬إليها‭ ‬حيزا‭ ‬شخصيا‭ ‬أو‭ ‬ثانويا‭. ‬لكن‭ ‬الاقتصاد‭ ‬البرتقالي،‭ ‬بطبيعته‭ ‬المرنة‭ ‬وغير‭ ‬النمطية،‭ ‬يفتح‭ ‬لها‭ ‬أبوابا‭ ‬لا‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬إذنٍ‭ ‬للدخول‭. ‬فمن‭ ‬الرسم‭ ‬إلى‭ ‬تصميم‭ ‬الأزياء،‭ ‬ومن‭ ‬الحرف‭ ‬اليدوية‭ ‬إلى‭ ‬صناعة‭ ‬المحتوى‭ ‬الرقمي،‭ ‬تجد‭ ‬المرأة‭ ‬اليوم‭ ‬مساحات‭ ‬واسعة‭ ‬للتعبير‭ ‬والإنتاج،‭ ‬في‭ ‬بيئة‭ ‬لا‭ ‬تشترط‭ ‬سوى‭ ‬الموهبة‭ ‬والاجتهاد‭.‬

هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬الاقتصاد‭ ‬لا‭ ‬يساوي‭ ‬فقط‭ ‬بين‭ ‬المرأة‭ ‬والرجل،‭ ‬بل‭ ‬يساوي‭ ‬بين‭ ‬من‭ ‬يملك‭ ‬رأس‭ ‬المال‭ ‬ومن‭ ‬يملك‭ ‬الفكرة‭. ‬بين‭ ‬من‭ ‬ورث‭ ‬مصنعا،‭ ‬ومن‭ ‬ورث‭ ‬حكاية‭. ‬بين‭ ‬من‭ ‬يملك‭ ‬مبنى،‭ ‬ومن‭ ‬يملك‭ ‬خيالا‭.‬

لعل‭ ‬أجمل‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المبادرة،‭ ‬أنها‭ ‬لا‭ ‬تقف‭ ‬عند‭ ‬حدود‭ ‬المسابقة‭ ‬أو‭ ‬الفعاليات،‭ ‬بل‭ ‬تحمل‭ ‬وعودًا‭ ‬أبعد‭: ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬للثقافة‭ ‬وزن‭ ‬في‭ ‬الناتج‭ ‬المحلي،‭ ‬وأن‭ ‬يكون‭ ‬للفنان‭ ‬مسار‭ ‬مهني‭ ‬واضح،‭ ‬وأن‭ ‬تُعامل‭ ‬الموهبة‭ ‬كما‭ ‬تُعامل‭ ‬الحرفة‭.‬

إن‭ ‬فتح‭ ‬الباب‭ ‬أمام‭ ‬الإبداع‭ ‬ليصبح‭ ‬موردًا‭ ‬حقيقيا،‭ ‬ليس‭ ‬رفاهية،‭ ‬بل‭ ‬ضرورة‭ ‬تنموية،‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬مجتمعات‭ ‬صغيرة‭ ‬تسعى‭ ‬إلى‭ ‬تنويع‭ ‬مواردها‭ ‬وتعزيز‭ ‬حضورها‭ ‬العالمي‭.‬

قد‭ ‬يكون‭ ‬النفط‭ ‬قد‭ ‬عرّف‭ ‬العالم‭ ‬بنا‭ ‬ذات‭ ‬يوم،‭ ‬لكن‭ ‬الفن‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬سيبقي‭ ‬صورتنا‭ ‬حية‭ ‬في‭ ‬ذاكرة‭ ‬العالم‭. ‬فالصورة،‭ ‬واللحن،‭ ‬والقصة،‭ ‬والشكل،‭ ‬واللون،‭ ‬جميعها‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تقول‭: ‬‮«‬هذه‭ ‬البحرين‮»‬،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬ترفع‭ ‬صوتها‭.‬

في‭ ‬‮«‬عام‭ ‬الاقتصاد‭ ‬البرتقالي‮»‬،‭ ‬لا‭ ‬نحتفي‭ ‬بلون‭ ‬جديد،‭ ‬بل‭ ‬بطريقة‭ ‬جديدة‭ ‬للتفكير‭. ‬بطريقة‭ ‬تعترف‭ ‬بأن‭ ‬الوطن‭ ‬لا‭ ‬يبنى‭ ‬فقط‭ ‬بمواد‭ ‬البناء‭ ‬والخرسانة،‭ ‬بل‭ ‬أيضا‭ ‬بالقصيدة‭. ‬ولا‭ ‬يُعرّف‭ ‬فقط‭ ‬بالخريطة،‭ ‬بل‭ ‬أيضا‭ ‬بالخط‭ ‬العربي،‭ ‬والنقش‭ ‬على‭ ‬الصدف،‭ ‬والضوء‭ ‬في‭ ‬الصورة‭.‬

اللون‭ ‬البرتقالي،‭ ‬إذًا،‭ ‬ليس‭ ‬للزينة‭. ‬إنه‭ ‬مرآة‭ ‬لهويتنا‭ ‬حين‭ ‬تصاغ‭ ‬بالفن،‭ ‬وخطوة‭ ‬نحو‭ ‬مستقبل‭ ‬ترسم‭ ‬ملامحه‭ ‬بأنامل‭ ‬أبنائنا‭.‬

 

rajabnabeela@gmail‭.‬com

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا