في العادة، نُحمِّل الألوان ما لا تحتمله، فنربط الأحمر بالغضب، والأزرق بالهدوء، والأبيض بالسلام. أما البرتقالي، فهو لونٌ متردد بين دفء الشمس ونضج الثمار، لا يستقر في خانة واحدة. لكنه اليوم لم يعد لونا جماليا فحسب، بل بات اسما لاقتصاد عالمي جديد، اسمه الاقتصاد البرتقالي، حيث يصبح الإبداع عملة، والخيال مشروعا، واللوحة سندا للهوية.
أن تعلن البحرين انطلاق «عام الاقتصاد البرتقالي»، فذلك لا يعني فقط إطلاق مبادرة فنية، بل هو اختيارٌ واعٍ لوضع الثقافة في قلب التنمية. هذه خطوة تتجاوز الدعم الرمزي، نحو الإيمان الحقيقي بأن الفنون ليست زينة، بل رافدا اقتصاديا، وجسرا نحو المستقبل.
الفكرة ليست وليدة اللحظة. العالم من حولنا يعيد اكتشاف قيمة الصناعات الإبداعية: الأفلام، التصميم، الموسيقى، الحرف، ألعاب الفيديو، التراث، وصناعة المحتوى. كل ما ينبع من الإنسان، ويصاغ بذائقته ووعيه وخياله، أصبح يحسب اليوم بالأرقام، ويدرّب عليه في الجامعات، وتبنى له الحاضنات، ويتداول في سوق عالمي حقيقي.
لكن في البحرين، للفكرة وقع مختلف. لأنها ليست تقليدا لما يحدث في الخارج فحسب، بل استجابة حقيقية لما تكتنزه هذه الأرض من طاقة فنية دفينة، ومواهب تبحث عن نافذة. ليست لدينا غابات، لكن لدينا قصائد. ليست لدينا جبال شاهقة، لكن لدينا سردٌ طويلٌ عن البحر واللؤلؤ والحنين. الثقافة هنا ليست استيرادًا، بل ذاكرة ممتدة.
من خلال الشراكة بين مكتب اليونيدو ومؤسسة راشد آل خليفة للفنون، تأخذ هذه الرؤية بعدا مؤسسيا ناضجا. لا نتحدث عن معرض عابر أو مهرجان موسمي، بل عن منظومة جديدة تبنى، تتلاقى فيها الفنون مع الاقتصاد، والموهبة مع التدريب، والخيال مع الإدارة. إن تحويل «المحطة الفنية» إلى منصة تطوير ودعم وتمكين للمبدعين، هو نوع من الاستثمار الذي لا يقاس بالمتر، بل يقاس بالأثر الثقافي والوطني والإنساني.
وهنا، تبرز المرأة البحرينية بوصفها إحدى أكبر المستفيدات من هذا التحول.
لعقود، ظلت مشاركة المرأة محكومة بإطار العمل التقليدي، وغالبا ما كان الإبداع بالنسبة إليها حيزا شخصيا أو ثانويا. لكن الاقتصاد البرتقالي، بطبيعته المرنة وغير النمطية، يفتح لها أبوابا لا تحتاج إلى إذنٍ للدخول. فمن الرسم إلى تصميم الأزياء، ومن الحرف اليدوية إلى صناعة المحتوى الرقمي، تجد المرأة اليوم مساحات واسعة للتعبير والإنتاج، في بيئة لا تشترط سوى الموهبة والاجتهاد.
هذا النوع من الاقتصاد لا يساوي فقط بين المرأة والرجل، بل يساوي بين من يملك رأس المال ومن يملك الفكرة. بين من ورث مصنعا، ومن ورث حكاية. بين من يملك مبنى، ومن يملك خيالا.
لعل أجمل ما في هذه المبادرة، أنها لا تقف عند حدود المسابقة أو الفعاليات، بل تحمل وعودًا أبعد: أن يكون للثقافة وزن في الناتج المحلي، وأن يكون للفنان مسار مهني واضح، وأن تُعامل الموهبة كما تُعامل الحرفة.
إن فتح الباب أمام الإبداع ليصبح موردًا حقيقيا، ليس رفاهية، بل ضرورة تنموية، خاصة في مجتمعات صغيرة تسعى إلى تنويع مواردها وتعزيز حضورها العالمي.
قد يكون النفط قد عرّف العالم بنا ذات يوم، لكن الفن هو من سيبقي صورتنا حية في ذاكرة العالم. فالصورة، واللحن، والقصة، والشكل، واللون، جميعها قادرة على أن تقول: «هذه البحرين»، دون أن ترفع صوتها.
في «عام الاقتصاد البرتقالي»، لا نحتفي بلون جديد، بل بطريقة جديدة للتفكير. بطريقة تعترف بأن الوطن لا يبنى فقط بمواد البناء والخرسانة، بل أيضا بالقصيدة. ولا يُعرّف فقط بالخريطة، بل أيضا بالخط العربي، والنقش على الصدف، والضوء في الصورة.
اللون البرتقالي، إذًا، ليس للزينة. إنه مرآة لهويتنا حين تصاغ بالفن، وخطوة نحو مستقبل ترسم ملامحه بأنامل أبنائنا.
rajabnabeela@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك