العدد : ١٧٢١٣ - الجمعة ٠٩ مايو ٢٠٢٥ م، الموافق ١١ ذو القعدة ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٢١٣ - الجمعة ٠٩ مايو ٢٠٢٥ م، الموافق ١١ ذو القعدة ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

صراع الأجيال

على‭ ‬مرّ‭ ‬الزمان‭ ‬والعصور‭ ‬ظل‭ ‬جيل‭ ‬الكبار‭ ‬يمارس‭ ‬الوصاية‭ ‬على‭ ‬جيل‭ ‬الشباب،‭ ‬بافتراض‭ ‬ان‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬متعلق‭ ‬بأيام‭ ‬زمان‭ ‬جميل‭ ‬وبديع،‭ ‬وبأن‭ ‬الشباب‭ - ‬بالمقابل‭- ‬ضائع‭ ‬وصائع،‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬راجت‭ ‬مقولة‭ ‬‮«‬الزمن‭ ‬الجميل‮»‬‭ ‬الكاذبة‭ ‬لوصف‭ ‬سنوات‭ ‬غابرة،‭ ‬وعلى‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬فإن‭ ‬أبناء‭ ‬جيلي‭ ‬من‭ ‬محبي‭ ‬الموسيقى،‭ ‬يعتقدون‭ ‬ان‭ ‬جيل‭ ‬الشباب‭ ‬فاسد‭ ‬الذوق،‭ ‬لأنه‭ ‬يستمع‭ ‬الى‭ ‬الأغنية‭ ‬‮«‬الشبابية‮»‬،‭ ‬بينما‭ ‬واقع‭ ‬الأمر‭ ‬يقول‭ ‬انه‭ ‬لا‭ ‬توجد‭ ‬أغنية‭ ‬شبابية‭ ‬وأخرى‭ ‬شيخوخية،‭ ‬ولا‭ ‬أغنية‭ ‬هابطة‭ ‬وأخرى‭ ‬صاروخية،‭ ‬فالأغنية‭ ‬إما‭ ‬جيدة‭ ‬واما‭ ‬سيئة،‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الكلمات‭ ‬واللحن‭ ‬والأداء‭ ‬وما‭ ‬يراه‭ ‬زيد‭ ‬سيئا،‭ ‬قد‭ ‬يستسيغه‭ ‬عبيد،‭ ‬لأن‭ ‬للناس‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يعشقون‭ ‬مذاهب،‭ ‬أنا‭ ‬مثلا‭ ‬لا‭ ‬يشدني‭ ‬غناء‭ ‬ام‭ ‬كلثوم‭ ‬وفريد‭ ‬الأطرش،‭ ‬ولكن‭ ‬ذوقي‭ ‬ليس‭ ‬مقياسا‭ ‬حاسما،‭ ‬وربما‭ ‬يكون‭ ‬فاسدا،‭ ‬لان‭ ‬الملايين‭ ‬يعتقدون‭ ‬ان‭ ‬الغناء‭ ‬بدأ‭ ‬وانتهى‭ ‬بأم‭ ‬كلثوم،‭ ‬بينما‭ ‬افضل‭ ‬طبق‭ ‬فول‭ ‬بالثوم‭ ‬على‭ ‬الاستماع‭ ‬الى‭ ‬غنائها،‭ (‬وجيل‭ ‬الشباب‭ ‬الراهن‭ ‬يكاد‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬أم‭ ‬كلثوم،‭ ‬ومن‭ ‬يعرفها‭ ‬منهم‭ ‬قد‭ ‬يحسب‭ ‬ان‭ ‬هيفاء‭ ‬وهبي‭ ‬أفضل‭ ‬منها‭ ‬موهبة‭). ‬وبنفس‭ ‬المنطق،‭ ‬فإن‭ ‬الشاب‭ ‬الذي‭ ‬يرتدي‭ ‬قميصا‭ ‬واسعا‭ ‬صارخ‭ ‬الألوان،‭ ‬وبنطلونا‭ ‬يبدو‭ ‬كأنه‭ ‬جبيرة‭ ‬جبس‭ ‬ملونة‭ ‬لكسر‭ ‬في‭ ‬الفخذ‭ ‬والساق،‭ ‬ليس‭ ‬بالضرورة‭ ‬فالتا،‭ ‬بل‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬ابن‭ ‬ناس‭ ‬بمعنى‭ ‬‮«‬مهذب‭ ‬وخلوق‮»‬،‭ ‬ولكنه‭ ‬لا‭ ‬يجد‭ ‬نفسه‭ ‬إلا‭ ‬بالتمرد‭ ‬على‭ ‬الأزياء‭ ‬المتعارف‭ ‬عليها،‭ ‬فهناك‭ ‬جيل‭ ‬من‭ ‬الشباب‭ ‬لا‭ ‬تعجبه‭ ‬رتابة‭ ‬أزيائنا‭ ‬الوطنية‭: ‬بلد‭ ‬بكاملها‭ ‬رجالها‭ ‬ونساؤها‭ ‬صورة‭ ‬طبق‭ ‬الأصل‭ ‬من‭ ‬بعضهم‭ ‬البعض‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬المظهر؟‭ ‬شيء‭ ‬رتيب‭ ‬وممل‭ ‬في‭ ‬نظر‭ ‬جيل‭ ‬متعولم،‭ ‬وإلى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا‭ ‬فإنني‭ ‬متمرد‭ ‬على‭ ‬الجلابية‭ ‬السودانية‭ ‬خارج‭ ‬البيت‭ ‬لأنني‭ ‬لا‭ ‬أطيق‭ ‬لف‭ ‬العمامة،‭ ‬ولو‭ ‬حزت‭ ‬جنسيات‭ ‬وجوازات‭ ‬جميع‭ ‬دول‭ ‬مجلس‭ ‬التعاون‭ ‬الخليجي‭ ‬لما‭ ‬وضعت‭ ‬الغترة‭ ‬والعقال‭ ‬على‭ ‬رأسي‭ ‬لان‭ ‬الضغوط‭ ‬التي‭ ‬عليه‭ ‬تكفيه‭.‬

وفي‭ ‬قريتنا‭ ‬في‭ ‬شمال‭ ‬السودان‭ ‬كان‭ ‬الناس‭ ‬يشككون‭ ‬في‭ ‬رجولة‭ ‬أي‭ ‬‮«‬رجل‮»‬‭ ‬يرتدي‭ ‬البنطلون‭ ‬العادي‭ ‬من‭ ‬منطلق‭ ‬أنه‭ ‬‮«‬فاضح‭ ‬ومحزق‮»‬‭ ‬ويشبه‭ ‬أزياء‭ ‬نساء‭ ‬الخواجات،‭ ‬أما‭ ‬لو‭ ‬ارتدى‭ ‬أحدهم‭ ‬الشورتات،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬عقوبته‭ ‬النفي‭ ‬والتغريب‭ ‬والحرمان‭ ‬من‭ ‬الميراث‭. ‬وكتبت‭ ‬مرارا‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬أبي‭ ‬كان‭ ‬يمنعنني‭ ‬من‭ ‬الاستماع‭ ‬الى‭ ‬اغاني‭ ‬المطرب‭ ‬السوداني‭ ‬الراحل‭ ‬ابراهيم‭ ‬عوض‭ ‬لأنه‭ ‬استهل‭ ‬مسيرته‭ ‬الغنائية‭ ‬بأغنية‭ ‬تقول‭ ‬كلماتها‭ ‬‮«‬حبيبي‭ ‬جنني‭ ‬وغيَّر‭ ‬حالي‮»‬،‭ ‬وكان‭ ‬أبي‭ ‬مثل‭ ‬كثيرين‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬جيله‭ ‬يعتقد‭ ‬انه‭ ‬لا‭ ‬يليق‭ ‬برجل‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬إن‭ ‬الحبيب‭ ‬‮«‬جَنَّنه‮»‬‭.‬

واذكر‭ ‬انني‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬حياتي‭ ‬العملية‭ ‬والتحاقي‭ ‬بمهنة‭ ‬التدريس‭ ‬كنت‭ ‬لا‭ ‬أتعامل‭ ‬مع‭ ‬الحلاق‭ ‬إلا‭ ‬نحو‭ ‬ثلاث‭ ‬مرات‭ ‬في‭ ‬السنة،‭ ‬وكانت‭ ‬الموضة‭ ‬بين‭ ‬الشباب‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الزمان‭ ‬هي‭ ‬الشعر‭ ‬المنفوش‭ ‬المنكوش‭ ‬المسمى‭ ‬‮«‬آفرو‮»‬،‭ ‬ولم‭ ‬أكن‭ ‬أترك‭ ‬شعري‭ ‬كثا‭ ‬وكثيفا‭ ‬وطويلا‭ ‬فقط‭ ‬مجاراة‭ ‬للموضة،‭ ‬بل‭ ‬بالأساس‭ ‬لضغط‭ ‬المنصرفات‭ ‬وترشيد‭ ‬الإنفاق‭ ‬بعدم‭ ‬التردد‭ ‬على‭ ‬دكان‭ ‬الحلاق‭ ‬كثيرا،‭ ‬وكانت‭ ‬المدرسة‭ ‬التي‭ ‬اعمل‭ ‬بها‭ ‬ملاصقة‭ ‬لوزارة‭ ‬التربية،‭ ‬فلجأ‭ ‬مدير‭ ‬المدرسة‭ ‬الى‭ ‬مدير‭ ‬التعليم‭ ‬الثانوي،‭ ‬وكان‭ ‬نوبيا‭ ‬‮«‬من‭ ‬عندنا‮»‬،‭ ‬كي‭ ‬يقنعني‭ ‬بقص‭ ‬شعري‭ ‬لأنه‭ ‬كلما‭ ‬حاول‭ ‬إرغام‭ ‬أحد‭ ‬الطلاب‭ ‬على‭ ‬قص‭ ‬شعره‭ ‬الكث‭ ‬الطويل‭ ‬قال‭ ‬له‭: ‬أنا‭ ‬احلق‭ ‬لما‭ ‬أستاذ‭ ‬جعفر‭ ‬يحلق،‭ ‬والتقى‭ ‬بي‭ ‬المدير‭ ‬النوبي‭ ‬‮«‬المرحوم‭ ‬دهب‭ ‬عبدالجابر‮»‬،‭ ‬وقال‭ ‬لي‭: ‬مدير‭ ‬مدرستكم‭ ‬حاقد‭ ‬عليك‭ ‬لأنه‭ ‬أصلع‭!! ‬وصرت‭ ‬ابتز‭ ‬مدير‭ ‬المدرسة‭: ‬انا‭ ‬لا‭ ‬أحلق‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬فندق‭ ‬جراند‭ ‬هوتيل‭ ‬بخمسة‭ ‬جنيهات‭ ‬واذا‭ ‬دفعت‭ ‬لي‭ ‬أتعاب‭ ‬الحلاقة‭ ‬فإنني‭ ‬سأقص‭ ‬شعري‭ ‬كل‭ ‬شهر،‭ ‬وخضع‭ ‬للابتزاز‭ ‬ذات‭ ‬مرة‭ ‬وناولني‭ ‬ثلاثة‭ ‬جنيهات‭ ‬وكانت‭ ‬تكفي‭ ‬وقتها‭ ‬لشراء‭ ‬دكان‭ ‬حلاقة،‭ ‬وذهبت‭ ‬الى‭ ‬الحلاق‭ ‬وطلبت‭ ‬منه‭ ‬ان‭ ‬يشذب‭ ‬شعري‭ (‬نظير‭ ‬رُبع‭ ‬جنيه‭) ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يقصره‭ ‬كثيرا،‭ ‬ولما‭ ‬رآني‭ ‬بعدها‭ ‬مدير‭ ‬المدرسة‭ ‬صاح‭: ‬مدرسين‭ ‬آخر‭ ‬زمن،‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬يطالبني‭ ‬بتقصير‭ ‬شعري،‭ ‬وبعدها‭ ‬بسنوات‭ ‬قليلة‭ ‬كنت‭ ‬قد‭ ‬أصبحت‭ ‬مدرسا‭ ‬تقليديا‭ ‬قصير‭ ‬الشعر‭ ‬ويا‭ ‬ويل‭ ‬الطالب‭ ‬طويل‭ ‬الشعر‭ ‬من‭ ‬غضبتي‭ ‬النوبية‭ ‬التي‭ ‬تهتك‭ ‬حجاب‭ ‬الشمس‭ ‬أو‭ ‬تمطر‭ ‬الدما‭!!!‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا