زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
صراع الأجيال
على مرّ الزمان والعصور ظل جيل الكبار يمارس الوصاية على جيل الشباب، بافتراض ان كل ما هو متعلق بأيام زمان جميل وبديع، وبأن الشباب - بالمقابل- ضائع وصائع، ومن هنا راجت مقولة «الزمن الجميل» الكاذبة لوصف سنوات غابرة، وعلى سبيل المثال فإن أبناء جيلي من محبي الموسيقى، يعتقدون ان جيل الشباب فاسد الذوق، لأنه يستمع الى الأغنية «الشبابية»، بينما واقع الأمر يقول انه لا توجد أغنية شبابية وأخرى شيخوخية، ولا أغنية هابطة وأخرى صاروخية، فالأغنية إما جيدة واما سيئة، من حيث الكلمات واللحن والأداء وما يراه زيد سيئا، قد يستسيغه عبيد، لأن للناس في ما يعشقون مذاهب، أنا مثلا لا يشدني غناء ام كلثوم وفريد الأطرش، ولكن ذوقي ليس مقياسا حاسما، وربما يكون فاسدا، لان الملايين يعتقدون ان الغناء بدأ وانتهى بأم كلثوم، بينما افضل طبق فول بالثوم على الاستماع الى غنائها، (وجيل الشباب الراهن يكاد لا يعرف أم كلثوم، ومن يعرفها منهم قد يحسب ان هيفاء وهبي أفضل منها موهبة). وبنفس المنطق، فإن الشاب الذي يرتدي قميصا واسعا صارخ الألوان، وبنطلونا يبدو كأنه جبيرة جبس ملونة لكسر في الفخذ والساق، ليس بالضرورة فالتا، بل قد يكون ابن ناس بمعنى «مهذب وخلوق»، ولكنه لا يجد نفسه إلا بالتمرد على الأزياء المتعارف عليها، فهناك جيل من الشباب لا تعجبه رتابة أزيائنا الوطنية: بلد بكاملها رجالها ونساؤها صورة طبق الأصل من بعضهم البعض من حيث المظهر؟ شيء رتيب وممل في نظر جيل متعولم، وإلى يومنا هذا فإنني متمرد على الجلابية السودانية خارج البيت لأنني لا أطيق لف العمامة، ولو حزت جنسيات وجوازات جميع دول مجلس التعاون الخليجي لما وضعت الغترة والعقال على رأسي لان الضغوط التي عليه تكفيه.
وفي قريتنا في شمال السودان كان الناس يشككون في رجولة أي «رجل» يرتدي البنطلون العادي من منطلق أنه «فاضح ومحزق» ويشبه أزياء نساء الخواجات، أما لو ارتدى أحدهم الشورتات، فقد كانت عقوبته النفي والتغريب والحرمان من الميراث. وكتبت مرارا عن أن أبي كان يمنعنني من الاستماع الى اغاني المطرب السوداني الراحل ابراهيم عوض لأنه استهل مسيرته الغنائية بأغنية تقول كلماتها «حبيبي جنني وغيَّر حالي»، وكان أبي مثل كثيرين من أبناء جيله يعتقد انه لا يليق برجل أن يقول إن الحبيب «جَنَّنه».
واذكر انني في بداية حياتي العملية والتحاقي بمهنة التدريس كنت لا أتعامل مع الحلاق إلا نحو ثلاث مرات في السنة، وكانت الموضة بين الشباب في ذلك الزمان هي الشعر المنفوش المنكوش المسمى «آفرو»، ولم أكن أترك شعري كثا وكثيفا وطويلا فقط مجاراة للموضة، بل بالأساس لضغط المنصرفات وترشيد الإنفاق بعدم التردد على دكان الحلاق كثيرا، وكانت المدرسة التي اعمل بها ملاصقة لوزارة التربية، فلجأ مدير المدرسة الى مدير التعليم الثانوي، وكان نوبيا «من عندنا»، كي يقنعني بقص شعري لأنه كلما حاول إرغام أحد الطلاب على قص شعره الكث الطويل قال له: أنا احلق لما أستاذ جعفر يحلق، والتقى بي المدير النوبي «المرحوم دهب عبدالجابر»، وقال لي: مدير مدرستكم حاقد عليك لأنه أصلع!! وصرت ابتز مدير المدرسة: انا لا أحلق إلا في فندق جراند هوتيل بخمسة جنيهات واذا دفعت لي أتعاب الحلاقة فإنني سأقص شعري كل شهر، وخضع للابتزاز ذات مرة وناولني ثلاثة جنيهات وكانت تكفي وقتها لشراء دكان حلاقة، وذهبت الى الحلاق وطلبت منه ان يشذب شعري (نظير رُبع جنيه) من دون أن يقصره كثيرا، ولما رآني بعدها مدير المدرسة صاح: مدرسين آخر زمن، ولم يعد يطالبني بتقصير شعري، وبعدها بسنوات قليلة كنت قد أصبحت مدرسا تقليديا قصير الشعر ويا ويل الطالب طويل الشعر من غضبتي النوبية التي تهتك حجاب الشمس أو تمطر الدما!!!
إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"
aak_news

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك