العدد : ١٧٢١١ - الأربعاء ٠٧ مايو ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٩ ذو القعدة ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٢١١ - الأربعاء ٠٧ مايو ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٩ ذو القعدة ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

الثقافة غير «السقافة»

من‭ ‬يرى‭ ‬حال‭ ‬السودان‭ ‬اليوم،‭ ‬وما‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬مآس‭ ‬بسبب‭ ‬الحرب‭ ‬التي‭ ‬تدور‭ ‬رحاها‭ ‬منذ‭ ‬ابريل‭ ‬2023،‭ ‬يعجب‭ ‬كيف‭ ‬لأول‭ ‬بلد‭ ‬إفريقي‭ ‬نال‭ ‬استقلاله‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬أكثر‭ ‬بلدان‭ ‬إفريقيا‭ ‬اضطرابا‭ (‬شهد‭ ‬السودان‭ ‬18‭ ‬انقلابا‭ ‬أو‭ ‬محاولة‭ ‬انقلابية‭ ‬منذ‭ ‬استقلاله‭ ‬عام‭ ‬1956‭)‬،‭ ‬ثم‭ ‬يزول‭ ‬العجب‭ ‬عندما‭ ‬تسمع‭ ‬ما‭ ‬يقوله‭ ‬من‭ ‬يسمّون‭ ‬أنفسهم‭ ‬خبراء‭ ‬استراتيجيين‭ ‬من‭ ‬غثاء‭ ‬لتبرير‭ ‬هذا‭ ‬الموقف‭ ‬أو‭ ‬ذاك،‭ ‬وعموما‭ ‬ما‭ ‬إن‭ ‬يشهد‭ ‬البلد‭ ‬أزمة‭ ‬سياسية‭ ‬حتى‭ ‬يتحول‭ ‬نصف‭ ‬السكان‭ ‬الى‭ ‬خبراء‭ ‬في‭ ‬شؤون‭ ‬الحكم‭ ‬والاستراتيجية،‭ ‬ويزداد‭ ‬عدد‭ ‬العالمين‭ ‬ببواطن‭ ‬الأمور‭ ‬وتكثر‭ ‬النوعية‭ ‬التي‭ ‬تتحدث‭ ‬بلغة‭: ‬أمس‭ ‬كنا‭ ‬في‭ ‬الغداء‭ ‬عند‭ ‬الوزير‭ ‬فلان‭ ‬وانفرد‭ ‬بي‭ ‬وقال‭ ‬لي‭ ‬كذا‭ ‬وكذا‭! ‬ويمضي‭ ‬في‭ ‬الكلام‭ ‬بما‭ ‬يوحي‭ ‬لك‭ ‬أن‭ ‬الوزير‭ ‬فلان‭ ‬ذاك‭ ‬يخصه‭ ‬بأسرار‭ ‬البلاد‭ ‬والعباد‭! ‬وكان‭ ‬لي‭ ‬فيما‭ ‬مضى‭ ‬صديق‭ ‬‮«‬شلاخ‮»‬‭ ‬يكذب‭ ‬كما‭ ‬يتنفس،‭ ‬والتقى‭ ‬في‭ ‬السبعينات‭ ‬بصديق‭ ‬مشترك‭ ‬وبدأ‭ ‬يحدثه‭ ‬عما‭ ‬قاله‭ ‬له‭ ‬جعفر‭ ‬والنكتة‭ ‬التي‭ ‬رواها‭ ‬له،‭ ‬وكيف‭ ‬أنه‭ ‬استدعى‭ ‬سيارة‭ ‬فارهة‭ ‬لتوصيله‭ ‬الى‭ ‬بيته‭! ‬فحسب‭ ‬الصديق‭ ‬المشترك‭ ‬أن‭ ‬جعفر‭ ‬عباس‭ ‬بلغ‭ ‬مرتبة‭ ‬من‭ ‬الثراء‭ ‬جعلته‭ ‬مصدر‭ ‬فخر‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬يعرفه،‭ ‬ولكن‭ ‬الشلاخ‭ ‬انفجر‭ ‬في‭ ‬وجهه‭ ‬قائلا‭: ‬جعفر‭ ‬عباس‭ ‬بتاع‭ ‬مين‭ ‬يا‭ ‬متخلف؟‭ ‬انا‭ ‬بكلمك‭ ‬عن‭ ‬جعفر‭ ‬نميري‭ (‬الرئيس‭ ‬السوداني‭ ‬1969‭-‬1985‭) ‬وانت‭ ‬بالك‭ ‬يروح‭ ‬لهذا‭ ‬البربري‭ ‬المبهدل‭! ‬هذه‭ ‬النوعية‭ ‬انا‭ ‬قاطعتها‭! (‬خيرا‭ ‬فعلت‭ ‬يا‭ ‬ابن‭ ‬قراد‭ ‬الخيل‭).‬

عموما‭ ‬من‭ ‬أمتع‭ ‬الأشياء‭ ‬عندي‭ ‬ان‭ ‬أجالس‭ ‬أدعياء‭ ‬المعرفة‭ ‬والثقافة،‭ ‬لأنهم‭ ‬يعطونني‭ ‬الاحساس‭ ‬بأنني‭ ‬‮«‬فهمان‮»‬‭! ‬وكان‭ ‬من‭ ‬بينهم‭ ‬صديق‭ ‬لصديقي‭ ‬الراحل‭ ‬العزيز‭ ‬خالد‭ ‬الكِد،‭ ‬فكان‭ ‬كلما‭ ‬ناكفه‭ ‬خالد‭ ‬حول‭ ‬تخريجاته‭ ‬وتهويماته‭ ‬السياسية‭ ‬هدده‭ ‬بقوله‭: ‬اصبر‭ ‬يا‭ ‬خالد،‭ ‬الأيام‭ ‬بينما‭ (‬بالميم‭)! ‬وبالتأكيد‭ ‬فإن‭ ‬الفوران‭ ‬السياسي‭ ‬الذي‭ ‬يشهده‭ ‬السودان‭ ‬حاليا‭ ‬سيكون‭ ‬فرصة‭ ‬ذهبية‭ ‬للخبراء‭ ‬الذين‭ ‬يعتقدون‭ ‬أن‭ ‬البنكرياس‭ ‬مصرف‭ ‬يوناني‭ ‬اغلق‭ ‬أبوابه‭ ‬في‭ ‬الخرطوم‭ ‬بعد‭ ‬تطبيق‭ ‬نميري‭ ‬لاشتراكيته‭ ‬العشوائية،‭ ‬وأن‭ ‬الأجسام‭ ‬المضادة‭ ‬هي‭ ‬الشيوعيون‭ ‬والبعثيين،‭ ‬وأن‭ ‬الحجاب‭ ‬الحاجز‭ ‬تعويذة‭ ‬تمنع‭ ‬دخول‭ ‬الكرة‭ ‬شباك‭ ‬من‭ ‬دفع‭ ‬ثمن‭ ‬التعويذة‭. ‬وأن‭ ‬هنغاريا‭ ‬هو‭ ‬الاسم‭ ‬اللاتيني‭ ‬للمجاعة‭ ‬وأن‭ ‬الشين‭ ‬بيت‭ ‬هو‭ ‬اسم‭ ‬حي‭ ‬سيئ‭ ‬السمعة‭ ‬في‭ ‬تل‭ ‬أبيب‭ ‬وأن‭ ‬الهستامين‭ ‬هو‭ ‬اتحاد‭ ‬العمال‭ ‬الإسرائيلي‭!‬

على‭ ‬كل‭ ‬حال‭ ‬عزاء‭ ‬السودانيين‭ ‬أن‭ ‬إخوتهم‭ ‬العرب‭ ‬ليسوا‭ ‬أفضل‭ ‬حالا‭. ‬فقد‭ ‬أثبتت‭ ‬استطلاعات‭ ‬للرأي‭ ‬في‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬ان‭ ‬الجماعة‭ ‬لديهم‭ ‬‮«‬سقافة‮»‬‭ ‬عالية‭ ‬فهناك‭ ‬من‭ ‬قال‭ ‬إن‭ ‬جمال‭ ‬عبدالناصر‭ ‬هو‭ ‬الجناح‭ ‬الأيمن‭ ‬لنادي‭ ‬الزمالك‭ ‬وأن‭ ‬ميشيل‭ ‬عفلق‭ ‬مطرب‭ ‬لبناني‭ ‬صاعد‭ ‬وأن‭ ‬ديغول‭ ‬هي‭ ‬الكلمة‭ ‬الفرنسية‭ ‬لـ«حارس‭ ‬المرمى‮»‬‭ ‬وأن‭ ‬كاسترو‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬زيت‭ ‬الخروع‭ ‬وان‭ ‬كارتر‭ ‬شركة‭ ‬طيران‭ ‬أمريكية‭ ‬وأن‭ ‬رابعة‭ ‬العدوية‭ ‬هي‭ ‬أول‭ ‬امرأة‭ ‬تشغل‭ ‬منصبا‭ ‬وزاريا‭ ‬في‭ ‬اليمن‭! ‬وسئلت‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الشباب‭ ‬عن‭ ‬الشيخ‭ ‬محمد‭ ‬عبده‭ ‬فأجابوا‭ ‬في‭ ‬دهشة‭: ‬منذ‭ ‬متى‭ ‬صار‭ ‬المطربون‭ ‬شيوخا؟‭ ‬ويحكي‭ ‬أن‭ ‬سودانيا‭ ‬كان‭ ‬ملطوعا‭ ‬في‭ ‬الشارع‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬الليل‭ ‬في‭ ‬الرياض‭ ‬وتوقفت‭ ‬سيارة‭ ‬فارهة‭ ‬وعرض‭ ‬عليه‭ ‬صاحبها،‭ ‬وكان‭ ‬خالد‭ ‬ابن‭ ‬الملياردير‭ ‬الوليد‭ ‬بن‭ ‬طلال‭. ‬المهم‭ ‬اثناء‭ ‬الحديث‭ ‬سأل‭ ‬الزول‭ ‬صاحب‭ ‬العربة‭ ‬عن‭ ‬اسمه‭ ‬فقال‭: ‬خالد‭ ‬بن‭ ‬الوليد،‭ ‬فرد‭ ‬السوداني‭: ‬وأنا‭ ‬عمر‭ ‬بن‭ ‬الخطاب‭.‬

ومنذ‭ ‬أن‭ ‬قرأت‭ ‬نتائج‭ ‬تلك‭ ‬الاستطلاعات‭ ‬لم‭ ‬أعد‭ ‬أضحك‭ ‬كلما‭ ‬تذكرت‭ ‬ذلك‭ ‬التلميذ‭ ‬في‭ ‬السنة‭ ‬الأولى‭ ‬بمدرسة‭ ‬ابتدائية‭ ‬في‭ ‬دولة‭ ‬خليجية،‭ ‬الذي‭ ‬طلبوا‭ ‬منه‭ ‬ان‭ ‬يؤدي‭ ‬مقطعا‭ ‬من‭ ‬النشيد‭ ‬الوطني‭ ‬السوداني‭ ‬فوقف‭ ‬منشدا‭: ‬كده‭ ‬كده‭ ‬يا‭ ‬التريللا‭! ‬وأذكر‭ ‬ان‭ ‬تلفزيون‭ ‬ام‭ ‬درمان‭ ‬أوفدني‭ ‬الى‭ ‬إقليم‭ ‬دارفور‭ ‬ذات‭ ‬عام‭ ‬لإعداد‭ ‬بعض‭ ‬الافلام‭ ‬واثناء‭ ‬تجوالي‭ ‬شهدت‭ ‬اجتماعا‭ ‬للمحافظ‭ ‬مع‭ ‬عدد‭ ‬المزارعين‭ ‬فشل‭ ‬خلاله‭ ‬المحافظ‭ ‬في‭ ‬اقناعهم‭ ‬بإقامة‭ ‬مشروع‭ ‬زراعي‭ ‬حديث‭ ‬وكان‭ ‬واضحا‭ ‬انهم‭ ‬يسيئون‭ ‬الظن‭ ‬بالحكومة‭ ‬ووقف‭ ‬كبير‭ ‬المزارعين‭ ‬قائلا‭: ‬نحن‭ ‬مش‭ ‬عاوزين‭ ‬المشروع‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬الرئيس‭ ‬أزهري‭ ‬ذاته‭ ‬أعطانا‭ ‬كل‭ ‬الضمانات‭! ‬وهنا‭ ‬قاطعه‭ ‬مزارع‭ ‬مثقف‭: ‬انت‭ ‬من‭ ‬زمن‭ ‬أزهري؟‭ ‬هسع‭ (‬الآن‭) ‬الحكومة‭ ‬عبود‭! ‬وكانت‭ ‬حكومة‭ ‬عبود‭ ‬قد‭ ‬رحلت‭ ‬قبلها‭ ‬بسنوات‭ ‬طوال‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا