زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
الثقافة غير «السقافة»
من يرى حال السودان اليوم، وما فيه من مآس بسبب الحرب التي تدور رحاها منذ ابريل 2023، يعجب كيف لأول بلد إفريقي نال استقلاله أن يكون أكثر بلدان إفريقيا اضطرابا (شهد السودان 18 انقلابا أو محاولة انقلابية منذ استقلاله عام 1956)، ثم يزول العجب عندما تسمع ما يقوله من يسمّون أنفسهم خبراء استراتيجيين من غثاء لتبرير هذا الموقف أو ذاك، وعموما ما إن يشهد البلد أزمة سياسية حتى يتحول نصف السكان الى خبراء في شؤون الحكم والاستراتيجية، ويزداد عدد العالمين ببواطن الأمور وتكثر النوعية التي تتحدث بلغة: أمس كنا في الغداء عند الوزير فلان وانفرد بي وقال لي كذا وكذا! ويمضي في الكلام بما يوحي لك أن الوزير فلان ذاك يخصه بأسرار البلاد والعباد! وكان لي فيما مضى صديق «شلاخ» يكذب كما يتنفس، والتقى في السبعينات بصديق مشترك وبدأ يحدثه عما قاله له جعفر والنكتة التي رواها له، وكيف أنه استدعى سيارة فارهة لتوصيله الى بيته! فحسب الصديق المشترك أن جعفر عباس بلغ مرتبة من الثراء جعلته مصدر فخر لكل من يعرفه، ولكن الشلاخ انفجر في وجهه قائلا: جعفر عباس بتاع مين يا متخلف؟ انا بكلمك عن جعفر نميري (الرئيس السوداني 1969-1985) وانت بالك يروح لهذا البربري المبهدل! هذه النوعية انا قاطعتها! (خيرا فعلت يا ابن قراد الخيل).
عموما من أمتع الأشياء عندي ان أجالس أدعياء المعرفة والثقافة، لأنهم يعطونني الاحساس بأنني «فهمان»! وكان من بينهم صديق لصديقي الراحل العزيز خالد الكِد، فكان كلما ناكفه خالد حول تخريجاته وتهويماته السياسية هدده بقوله: اصبر يا خالد، الأيام بينما (بالميم)! وبالتأكيد فإن الفوران السياسي الذي يشهده السودان حاليا سيكون فرصة ذهبية للخبراء الذين يعتقدون أن البنكرياس مصرف يوناني اغلق أبوابه في الخرطوم بعد تطبيق نميري لاشتراكيته العشوائية، وأن الأجسام المضادة هي الشيوعيون والبعثيين، وأن الحجاب الحاجز تعويذة تمنع دخول الكرة شباك من دفع ثمن التعويذة. وأن هنغاريا هو الاسم اللاتيني للمجاعة وأن الشين بيت هو اسم حي سيئ السمعة في تل أبيب وأن الهستامين هو اتحاد العمال الإسرائيلي!
على كل حال عزاء السودانيين أن إخوتهم العرب ليسوا أفضل حالا. فقد أثبتت استطلاعات للرأي في عدد من الدول العربية ان الجماعة لديهم «سقافة» عالية فهناك من قال إن جمال عبدالناصر هو الجناح الأيمن لنادي الزمالك وأن ميشيل عفلق مطرب لبناني صاعد وأن ديغول هي الكلمة الفرنسية لـ«حارس المرمى» وأن كاسترو نوع من زيت الخروع وان كارتر شركة طيران أمريكية وأن رابعة العدوية هي أول امرأة تشغل منصبا وزاريا في اليمن! وسئلت مجموعة من الشباب عن الشيخ محمد عبده فأجابوا في دهشة: منذ متى صار المطربون شيوخا؟ ويحكي أن سودانيا كان ملطوعا في الشارع في منتصف الليل في الرياض وتوقفت سيارة فارهة وعرض عليه صاحبها، وكان خالد ابن الملياردير الوليد بن طلال. المهم اثناء الحديث سأل الزول صاحب العربة عن اسمه فقال: خالد بن الوليد، فرد السوداني: وأنا عمر بن الخطاب.
ومنذ أن قرأت نتائج تلك الاستطلاعات لم أعد أضحك كلما تذكرت ذلك التلميذ في السنة الأولى بمدرسة ابتدائية في دولة خليجية، الذي طلبوا منه ان يؤدي مقطعا من النشيد الوطني السوداني فوقف منشدا: كده كده يا التريللا! وأذكر ان تلفزيون ام درمان أوفدني الى إقليم دارفور ذات عام لإعداد بعض الافلام واثناء تجوالي شهدت اجتماعا للمحافظ مع عدد المزارعين فشل خلاله المحافظ في اقناعهم بإقامة مشروع زراعي حديث وكان واضحا انهم يسيئون الظن بالحكومة ووقف كبير المزارعين قائلا: نحن مش عاوزين المشروع حتى لو الرئيس أزهري ذاته أعطانا كل الضمانات! وهنا قاطعه مزارع مثقف: انت من زمن أزهري؟ هسع (الآن) الحكومة عبود! وكانت حكومة عبود قد رحلت قبلها بسنوات طوال.
إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"
aak_news

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك