في المقال السابق الموسوم بـ«الحوكمة.. الجسر نحو استدامة الأداء الحكومي وجودته»، استعرضنا ملامح الحوكمة كإطار وطني استراتيجي يرسخ العدالة المؤسسية ويرفع من كفاءة الأداء الحكومي.
وقد وردت بعد النشر العديد من التساؤلات من القرّاء الكرام عن مفهوم الحوكمة تحديداً، هل هي مجرد لوائح تنظيمية؟ ومدى ارتباطها بالممارسات اليومية، وهل تقتصر على الجوانب الرقابية والتنظيمية أم إنها رؤية شمولية تلامس مختلف مسارات العمل الإداري.
الحوكمة كما نؤكد هنا ليست مجرد قواعد ولوائح، بل هي فلسفة إدارية ومنظومة متكاملة تُعنى بتحقيق أفضل استثمار للموارد، وتعزيز العدالة بين الموظفين، وضمان كفاءة الإنفاق، ورفع جودة الخدمات الحكومية بما ينسجم مع التوجهات الوطنية ورؤية البحرين الاقتصادية 2030.
من هذا المنطلق، يهدف المقال الثاني في هذه السلسلة إلى توضيح مفهوم الحوكمة بصورة أعمق من خلال الانتقال من مرحلة المبادئ المجردة إلى التطبيق العملي، وإبراز كيف يمكن تحويل هذه المبادئ إلى سلوك يومي وثقافة مؤسسية تصنع بيئات عمل حكومية عادلة، شفافة، وقادرة على مواجهة التحديات.
عندما نتحدث عن الحوكمة في سياق الأداء الحكومي، فإننا لا نتحدث عن إطار نظري معزول أو جملة من المبادئ المجردة، بل نتحدث عن فلسفة إدارية عملية تنعكس بشكل مباشر على جودة الخدمات، ورضا المواطن، وفعالية مؤسسات الدولة. ولا يكتمل الحديث عن الحوكمة من دون التطرق إلى تحديات تطبيقها العملي، فالمبادئ المجردة لا تصنع تحولاً مؤسسياً ما لم تتحول إلى ممارسات راسخة ومتجذرة تتجلى في تفاصيل الأداء الحكومي اليومي. وهنا يكمن الرهان الحقيقي كيف نترجم الشفافية والمساءلة والعدالة المؤسسية إلى واقع ملموس يعيشه الموظف والمواطن معاً.
لقد أدركت مملكة البحرين مبكرا أن نجاح الحوكمة لا يتحقق بالإعلانات النظرية فحسب، بل بالالتزام العملي الصارم بتطوير البيئات المؤسسية وفق معايير حوكمة مدروسة. وقد تجسد ذلك عبر نماذج وطنية رائدة لا تزال تلهم مختلف القطاعات الحكومية.
أولا: الشفافية.. من الإفصاح إلى الشراكة المعلوماتية
الشفافية لم تعد ترفاً إدارياً، بل أصبحت ضرورة لضمان نزاهة القرار الحكومي وثقة الجمهور، فالشفافية الحقيقية تتجاوز حدود نشر البيانات إلى بناء ثقافة الإفصاح المؤسسي المستمر وبناء شراكة معلوماتية مع المجتمع. هذا ما جسدته بعض الجهات في مملكة البحرين، مثل مجلس المناقصات والمزايدات، عبر نشر نتائج العطاءات وتقرير الملاحظات الفنية بشفافية كاملة. وبذات النسق عززت وزارة الصحة هذا المبدأ بنشر تقارير دورية عن مؤشرات الأداء الصحي، مما أتاح للمواطن والمقيم تقييم الخدمة بشكل موضوعي.
ثانياً: المساءلة - آليات التصحيح والتطوير
المساءلة الإدارية ليست عملية عقابية.. المساءلة الناجحة تقوم على بناء أنظمة تقويم فعّالة لا تكتفي بتشخيص الأداء، بل تدفع نحو تصحيحه. وقد برزت تجربة ديوان الرقابة المالية والإدارية كنموذج ناجح هذا المجال، حيث يتم إصدار تقارير رقابية سنوية ترفع إلى السلطات العليا، متضمنة ملاحظات وتوصيات ملزمة تُحدث أثراً ملموساً في تحسين الأداء المؤسسي. لم تكتف تقاريره بتشخيص الأخطاء، بل قدمت توصيات بنّاءة لتحسين بيئة العمل وتصحيح الانحرافات الإدارية، وهو ما يعكس فهماً متقدّماً لدور الرقابة كأداة تطوير لا مجرد رصد.
ثالثاً: العدالة المؤسسية تتحقق حين يكون التكافؤ هو القاعدة، لا المجاملة، من أبرز التحديات التي تواجه بيئات العمل الحكومي هو ضمان تكافؤ الفرص والابتعاد عن التحيزات الشخصية، فالعدالة المؤسسية تتحقق حين يشعر الموظف أن جهده هو معيار تقييمه لا مجاملات أو انتماءات.
وتنعكس هذه العدالة داخل المؤسسة على جودة الأداء العام، كما تمتد آثارها إلى الخارج في شكل خدمات حكومية عادلة ومنصفة للمواطن. وقد عملت مملكة البحرين، عبر منظومة الحكومة الإلكترونية، على تعزيز هذا المفهوم من خلال تعميم الخدمات بالتساوي للمواطنين، بعيداً عن التدخلات الشخصية أو التحيزات المؤسسية، مما أسهم في بناء بيئة خدمية أكثر شفافية وثقة.
رابعاً: الحوكمة كمنظومة سلوك يومي
أحد الأخطاء الشائعة اختزال الحوكمة في برامج أو لجان مؤقتة، بينما جوهرها الحقيقي يكمن في تحولها إلى سلوك وظيفي يومي يوجه الأداء من أدنى هرم المؤسسة إلى أعلاه. فحين تصبح الشفافية جزءاً من الاجتماع اليومي، والمساءلة جزءاً من دورة العمل، والعدالة معياراً في كل قرار، حينها فقط نستطيع القول إن الحوكمة قد انتقلت من المفهوم إلى الممارسة.
فالحوكمة لا تكتمل بدون احترام القوانين واللوائح التنظيمية. وقد كان لمدونة قواعد السلوك الوظيفي في مملكة البحرين أثر كبير في ضبط الأداء العام وضمان عدم الخروج عن الأطر التشريعية المحددة.
خاتمة:
لقد أثبتت التجربة البحرينية أن الحوكمة ليست مشروعاً تنظيمياً محدود النطاق وليست خيارات انتقائية، بل هي رؤية إدارية استراتيجية قادرة على إحداث تحول نوعي في كفاءة مؤسسات الدولة وعدالة أدائها. وتحقيق هذه الرؤية يتطلب قيادة مؤمنة، وثقافة مؤسسية ناضجة، وإرادة تطبيق لا تكتفي برفع الشعارات، بل تُترجم المبادئ إلى واقع عملي كشروط لازمة لبقاء المؤسسة وتطورها.
وفي هذا المسار، تثبت مملكة البحرين أنها تسير بثقة نحو ترسيخ الحوكمة كأساس لنهضة مؤسساتها، وتحقيق تطلعات مواطنيها نحو حكومة كفوءة، عادلة، وشفافة.
وفي المقال القادم، بإذن الله، سننتقل إلى البعد الأعمق للحوكمة، حيث سأسلط الضوء على دور الموظف الحكومي كعنصر محوري في تعزيز الاستدامة المالية والإدارية، وكيف تبدأ كفاءة الإنفاق من ممارساته اليومية وسلوكياته الوظيفية، ليتحول بذلك إلى شريك رئيسي في تحقيق أهداف الحوكمة وتجسيدها واقعاً مؤسسياً فعالاً ومستداماً.
{ مهتمة بالحوكمة
وتطوير الأداء المؤسسي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك