في خطاب تنصيبه الرئاسي الثاني في 20 يناير 2025، وعد «دونالد ترامب»، ببدء «عصر ذهبي» جديد للولايات المتحدة، حيث سيتم الثأر مما أسماه «الخيانات الرهيبة»، وإسقاط «المؤسسة الراديكالية والفاسدة في واشنطن»، و«ستبني أمريكا أقوى جيش شهده العالم على الإطلاق»؛ حتى «تحظى بالاحترام والإعجاب من جديد». وعلق «جيف غرينفيلد»، في مجلة «بوليتيكو»، بأن عودته إلى «البيت الأبيض»، جاءت «أكثر دراية بالسلطة، وكيفية استخدامها»، مع نية واضحة لتنفيذ برنامج سياسي جذري في وقت قصير.
ومع انقضاء المائة يوم الأولى من ولايته الثانية في السلطة، أشارت «برونوين مادوكس»، من «المعهد الملكي للشؤون الدولية»، إلى أن هذه الولاية «ليست كسابقتها». وأضاف «أندرو روث»، في صحيفة «الجارديان»، أنها كانت «أسابيع حملت أحداثًا تستوعبها عقود»، بالنظر إلى ما شهده الاقتصاد العالمي، والمشهد الجيوسياسي على يديه. وقال «جيمس ليندسي»، من «مجلس العلاقات الخارجية»، إنه «أقدم على فعل كل شيء دفعة واحدة وفي كل اتجاه»، حتى أنه خلال الأشهر الثلاثة الأولى فقط «غيّر تقريبًا كل جوانب السياسة الخارجية الأمريكية».
وعلى الرغم من وجود دعم داخلي لسياساته بين أعضاء حزبه الجمهوري؛ فإن رد الفعل على فترة المائة يوم الأولى حملت استياءً وإدانةً واسعة النطاق. وأعرب «مارك لاندلر»، و«أندرو كرامر»، في صحيفة «يويورك تايمز»، عن أسفهما لـ«تراجع أمريكا» كقوة عالمية. وأشار «ستيفن كوك»، من «مجلس العلاقات الخارجية»، إلى أنه في حين «تعهد في بداية ولايته الثانية بإحلال السلام في الشرق الأوسط وشرق أوروبا؛ فإنه «يبدو قد أخفق في إحداث زخم فعلي في القضايا التي تعهّد بمعالجتها».
وبالفعل، أحدثت ولايته الثانية اضطرابات واسعة على المستويين المحلي والدولي. فداخليا، أشارت «مادوكس»، إلى أن إدارته «تحدّت القيود الدستورية المفروضة على السلطة التنفيذية»، و«شنت هجومًا على مؤسسات الثقافة والتعليم والعلوم – المصنفة ضمن النخبة – مع بث الخوف بين المعارضين». ومن جهته، ندد «جوليان زيليزر»، من جامعة «برينستون»، بإصرار الرئيس على تنفيذ أجندته، إلى درجة استعداده «للمغامرة بدفع الاقتصاد نحو الفوضى»، لتحقيق تلك الغايات.
وخارجيا، شهدت علاقات «واشنطن»، تحولات جذرية طالت الحلفاء والخصوم على حد سواء. ووصف «إيفو دالدر»، من «مجلس شيكاغو للشؤون العالمية»، هذا «الاختلال» في علاقات الولايات المتحدة بالعالم منذ 20 يناير، بأنه «ثوري»، مؤكدًا أن «ترامب»، «قلب السياسة الخارجية رأسًا على عقب». واستشهدت «مادوكس»، بكيفية تخلّيه عن التزامات التجارة العالمية، وانسحابه من اتفاقيات المناخ، وزرعه الشكوك حول التزامه تجاه حلف شمال الأطلسي، إلى حد تهديد شركائه في الحلف بهجمات عسكرية، وهو ما تجلّى في إصراره على ضم جزيرة جرينلاند من الدنمارك».
وكشف استطلاع للرأي أجرته مجلة «ذي إيكونوميست»، للشعوب الأوروبية، عن تراجع حاد في الآراء الإيجابية تجاه الولايات المتحدة منذ عودة ترامب إلى الحكم. وأشار «دالدر»، إلى أن «أساس السلام الأمريكي كان الثقة»؛ إلا أن هذه الثقة تلاشت مع سحب الدعم الأمريكي لأوكرانيا في حربها ضد روسيا، ما جعل استعادتها مهمة «بالغة الصعوبة»، تتطلب وقتًا يتجاوز مدة بقائه في البيت الأبيض.
ورأى «ماثيو كرونيج»، من «المجلس الأطلسي»، أن تصرفات الرئيس الأمريكي «متوقعة تمامًا»، إذ تنطلق من شعار «أمريكا أولًا». ووفقًا له، فإن جوهر الخلاف بين «واشنطن»، وبقية الأطراف العالمية، يكمن في قناعته بأن «بلاده تعرضت للخداع»، ما يدفعه إلى «تصحيح هذه الأخطاء»، وتأمين «صفقة أفضل للشعب الأمريكي»، مضيفا أنه يؤمن بفكرة أن «التصعيد هو السبيل إلى التهدئة»، حيث يدفع الخصوم والمنافسين نحو طاولة المفاوضات من خلال إطلاق تهديدات صريحة، وفرض مطالب صارمة.
وفيما يخص المزايا المفترضة لتلك السياسات والحجج، اعتبر «ليندسي»، أن «الخطوات الخاطئة» في رئاسته الثانية، «كانت ناجمة عن تماهيه مع الفوضى، وافتقار فريقه للخبرة»، وهو ما تجلى بوضوح في سياساته التجارية. وفي أسابيعه الأولى، كرر تهديداته بفرض رسوم جمركية أعلى على الواردات الأجنبية إلى بلاده، وسرعان ما أقر تعريفة جمركية شاملة بنسبة 10% على جميع الواردات، إلى جانب رسوم أعلى على بلدان وأقاليم بعينها. وهي الخطوة التي وصفها «أندرو جاوثورب»، من «جامعة لايدن»، بأنها تمثل «تحولًا نحو الحمائية لم يشهده العالم منذ الكساد الكبير». في حين رأى «إدوارد ألدين»، من «جامعة غرب واشنطن»، أن نتائج هذه السياسات كانت «بالغة السوء»، وأدت إلى «اضطراب الأسواق، وتقويض ما تبقى من ثقة في القيادة الاقتصادية الأمريكية». وتوقعت «منظمة التجارة العالمية»، تراجع حجم التعاملات الخارجية بنسبة 0.2% في عام 2025، مع انخفاض الصادرات الأمريكية بنسبة 12.6%.
من جانبه، أوضح «ألدين»، أن «أخطر ضرر»، لهذه السياسات الاقتصادية قد لحق بالعلاقات الأمريكية – الصينية، حيث دخل البلدان فيما أسماه «دوامة موت اقتصادي»، تبادلا خلالها فرض رسوم وصلت إلى 245% على بعض السلع، ما زاد التوتر وأضر بالثقة المتبادلة. وأشار «أنتوني هوبكنز»، من جامعة «كامبريدج»، إلى أن إدارة ترامب أضرت باقتصادها عبر تقييد استثمارات الصين، خاصة في سندات الخزانة الأمريكية. وأكدت توقعات «صندوق النقد الدولي» هذا التأثير، بتخفيض توقعاته للنمو العالمي إلى 2.8%، ما يعكس الأثر السلبي الواسع لسياساته على الاقتصاد العالمي.
وفيما يتعلق بالشرق الأوسط، لفتت «ستيفاني علي»، من «المجلس الأطلسي»، إلى أن دول الخليج استُثنيت من أعلى الرسوم الجمركية في إجراءات ترامب، مرجعة ذلك إلى السياسات الأمريكية، وسعيها وراء الاستثمارات، مشيرة إلى استفادة السعودية، والإمارات من هذا النهج.
ومع اقتراب زيارته للخليج في منتصف مايو الجاري، أكد «جورجيو كافييرو»، من شركة «جلف ستيت أناليتيكس»، أن «ترامب»، يسعى لتعزيز علاقاته في المنطقة. ولفتت «هاوشير»، إلى أن إحدى القضايا الرئيسية التي تشغل دول الخليج هي احتمال منحها صفة «العملاء من الدرجة الأولى»؛ للحصول على رقائق أمريكية متقدمة، ما يوفر لها امتيازات تقنية، غير أن ذلك، يثير تساؤلات بشأن علاقاتها التقنية المتطورة مع الصين.
من جانب آخر، بعثت «إدارة ترامب»، خلال هذه الفترة برسائل متباينة بشأن إيران، إذ أعادت فرض العقوبات، وهددت بضرب مواقع نووية بالتنسيق مع إسرائيل؛ لكنها بدأت أيضًا اتصالات لاستئناف مفاوضات حول اتفاق نووي جديد. واعتبر «روس هاريسون»، و«أليكس فاتانكا»، أن ما كان يُعد سابقًا مستحيلًا في تحسين العلاقات الأمريكية – الإيرانية، بات ممكنًا لتعزيز الاستقرار الإقليمي.
ومع ذلك، لا يزال هذا التواصل المؤقت مع طهران هشًا للغاية. وأوضح «كوك»، أن ترامب قدّم منذ البداية قائمة مطالب؛ شملت «تفكيك برنامجها النووي، وتقليص قدراتها الصاروخية، ووقف دعمها للوكلاء الإقليميين»، وهي شروط طُرحت حتى خلال أول تواصل رسمي. كما أن تحديد مهلة لا تتجاوز شهرين للتوصل إلى اتفاق -بعد رسالته إلى المرشد الأعلى «علي خامنئي» في مارس – عكس نفاد صبر «واشنطن»، وتجاهلها للمفاوضات المكثفة التي يراها المراقبون الغربيون ضرورية. ورغم غياب «الرؤية الاستراتيجية»، الذي طغى على سياسة «واشنطن»، تجاه إيران، وأضعف موقعها المفترض كوسيط محتمل في الحرب الروسية الأوكرانية، يبدو أن «البيت الأبيض»، عازم على انتزاع اتفاق نهائي في كلا الملفين، سعيًا لتحقيق إنجاز دبلوماسي مزدوج يعزز مكانتها الدولية.
ومع ذلك، فإن هذا التصميم لا يشمل الحرب في غزة. وعلى الرغم من إعلان «ترامب»، قدرته على إنهاء الحرب منذ اليوم الأول لتوليه المنصب؛ فإن إدارته تخلت عمليًا عن دعم وقف إطلاق النار، و«سمحت لإسرائيل بتصعيد انتهاكاتها وهجماتها الوحشية على المدنيين الفلسطينيين، مما أسفر عن دمار وقتل وتشريد عشرات الالاف في صفوف الأبرياء معظمهم من النساء والأطفال. وبينما تذبذب موقفه من الحرب في أوكرانيا، مهاجمًا «زيلينسكي»، أحيانًا، ومشجعًا بوتين أحيانًا أخرى؛ فقد أظهرت أولوياته –عبر كبير مفاوضيه «ستيف ويتكوف» – تركيزًا أكبر على ملفات أخرى، مع تجاهل ملف السلام في الشرق الأوسط.
ومع إقرار «كوك»، بالدور الذي لعبه في اتفاق وقف إطلاق النار المؤقت في غزة في يناير 2025، فإنه لم يستثمر هذا الإنجاز. وكما أشارت «علي»، فقد ساهمت تهديداته بأن «الجحيم سيندلع»، إذا لم تطلق حماس سراح الرهائن المتبقين في «استئناف إسرائيل لمجازرها ضد المدنيين بكل وحشية، ومنع دخول المساعدات بشكل كامل منذ شهرين بدعم أمريكي واضح، تمثل في تعزيز المساعدات العسكرية لها؛ مما فاقم من معاناة الفلسطينيين، تزامن ذلك مع مزاعم عن خطة أمريكية للسيطرة على غزة، وتهجير سكانها، غذّتها مقاطع فيديو مصنوعة بالذكاء الاصطناعي، تُظهر القطاع وقد تحول إلى فنادق ومنتجعات».
ورغم أن «لاندلر»، و«كرامر»، أشارا إلى أنه «لم يتحدث كثيرًا عن تلك الخطة»، بعد رفضها عربيا، وإثارة الجدل حولها؛ فإن إعادة الإشارة إلى تسميته غزة بـ«منطقة الحرية» – بعد تنفيذ مخطط التهجير – خلال استقباله رئيس الوزراء الإسرائيلي مطلع أبريل، تؤكد أن هذه الرؤية، باتت تمثل سياسة أمريكية رسمية، وليست مناورة سياسية.
وفي هذا الإطار، أشارت «آنا جاكوبس»، من «معهد دول الخليج العربية»، إلى أن قادة الخليج سيبذلون جهودًا كبيرة للضغط على «ترامب»، لكبح تصعيد إسرائيل، ووقف عملياتها العسكرية المتصاعدة في المنطقة، والتي تساهم في تأجيج الأوضاع، وتعميق الأزمات الإنسانية، وتؤدي إلى مزيد من الفوضى والدمار؛ ما يهدد الأمن والاستقرار الإقليميين. إلا أن توجهات الإدارة الأمريكية خلال المائة يوم الأولى المنقضية؛ كشفت عن مسار واضح لسياستها في الشرق الأوسط، يتسم بدعم غير مشروط للمخططات الإسرائيلية، بما في ذلك التطهير العرقي للفلسطينيين، والضم الكامل لأراضيهم؛ ما يعكس التزامًا أمريكيًا فاضحًا، بتوسيع نفوذ إسرائيل على حساب حقوق الفلسطينيين، وهو ما ينذر بمرحلة جديدة من التوترات الإقليمية.
ومن منظور أوروبي، رأى السفير الألماني السابق لدى واشنطن «فولفغانغ إيشينغر»، أن حلفاء أمريكا يواجهون حالة من الغموض بشأن ما إذا كان نهج «الصدمة والرعب»، الذي يتبناه «البيت الأبيض»، سيتحول إلى سمة دائمة في سياسته الخارجية، أم أنه مجرد حالة طارئة، مشيرًا إلى أن التطورات منذ يناير دفعت الأوروبيين إلى تبني نهج وقائي، والاستعداد لمختلف السيناريوهات.
على العموم، مع انقضاء أول مائة يوم من ولاية ترامب الثانية، حدث تأثير عميق، يُضاهي سنوات من التحولات في العلاقات الدولية، فيما لا يزال أمام العالم الانتظار لمزيد من السياسات الأمريكية المليئة بالمفاجآت والتقلبات، في ظل رئيس جمهوري يصعب التنبؤ بخطواته، ويواصل فرض بصمته على المشهدين الاقتصادي والسياسي العالمي.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك