في نظر المسيحيين الكاثوليك في الولايات المتحدة الأمريكية، فقد تم انتخاب البابا فرانسيس لقيادة الكنيسة الكاثوليكية الرومانية في وقت أزمة، سواء بالنسبة للمؤسسة أو لأتباعها على حد سواء.
كانت الكنيسة في الولايات المتحدة تعاني من الهزات الارتدادية الناجمة عن استمرار الكشف عن الاعتداءات الجنسية الواسعة النطاق التي يرتكبها الكهنة، فضلاً عن الخلاف المتزايد الذي يفصل قيادة الكنيسة عن قطاعات كبيرة من الكاثوليك الشباب.
لقد أصبح العديد من الأعضاء الأصغر سنا محبطين من المؤسسة التي رأوها متحجرة، ومنفصلة عن واقعهم، وغير ذات صلة بحياتهم، أو في بعض الحالات معادين لها.
لطالما كانت الكنيسة الكاثوليكية الأمريكية كنيسةً عرقيةً مهاجرة. ومع قدوم ملايين المهاجرين من دول أوروبية ذات أغلبية كاثوليكية إلى أمريكا، جلبوا معهم ثقافاتهم ودينهم، وبنوا كنائس ومدارس أسهمت في ترسيخ مجتمعاتهم وتقدمها والحفاظ على تقاليدهم.
وبمرور الوقت، ومع نمو هذه المجتمعات وازدهارها، اندمج أطفالهم في الحياة التي وجدوها في الولايات المتحدة الأمريكية، وتزوجوا، وانتقلوا إلى أحياء ضواحي.
كان لتلك التحولات تأثيرٌ عميقٌ على الكنيسة الكاثوليكية. فما كان في السابق مزيجًا من الكنائس الكاثوليكية الإيطالية والإيرلندية والبولندية وغيرها من الكنائس الأوروبية، اندمج في النهاية ليشكل الكنيسة الكاثوليكية الأمريكية.
شهد الكاثوليك، مثل معظم الأمريكيين، تحولاتٍ سياسيةً واجتماعيةً وثقافيةً عصفت بالولايات المتحدة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. انقسم الأمريكيون حول قضايا العرق وحرب فيتنام والثورة الجنسية، فيما أصبح بعضهم أكثر ليبرالية، بينما أصبح آخرون أكثر محافظة.
أظهر استطلاع للرأي أُجري في خمسينيات القرن الماضي أن غالبية الأمريكيين أعربوا عن رفضهم القاطع لزواج أبنائهم من شخص من دين مختلف. وبعد خمسين عامًا، لم يعد هذا الأمر يُزعجهم، لكنهم قالوا إن زواج أبنائهم من شخص ينتمي إلى حزب سياسي مختلف سيُقلقهم.
وفيما انقسم الكاثوليك فإن الأساقفة لم ينقسموا مع استثناءات قليلة، بل إنهم أصبحوا أكثر تحفظًا، ووجدوا ملجأً في تركيزٍ ضيقٍ على قضايا مثل الإجهاض، وتنظيم النسل، والطلاق.
لا يزال البعض يتحدث عن الحرب والعنصرية وحقوق العمال والفقر - وأصدروا تصريحاتٍ بشأن هذه المسائل - لكن مسائل حقوق الإنجاب تفوقت على كل شيء آخر.
ثم كانت القنبلة الحقيقة التي هزت الكنيسة الكاثوليكية في الولايات المتحدة الأمريكية.
لطالما سرت شائعات عن اعتداءات جنسية من قِبل كهنة مختلفين على أطفال كانوا تحت سلطتهم، لكن لم يكن أحد يتصور تلك الصدمة التي أعقبت ذلك عندما أصدرت أبرشية بوسطن عام 2002 تقريرًا يُفصّل حجم المشكلة. كان هناك مئات من رجال الدين المخالفين وآلاف الضحايا على مدى عقود من الاعتداءات. لقد هزّ ذلك التقرير الكنيسة وأصابها في الصميم.
كُلِّف أخي، جون زغبي، في تلك الفترة من قِبَل مؤتمر الأساقفة الكاثوليك في الولايات المتحدة باستطلاع آراء الكاثوليك الأمريكيين تجاه هذه الفضيحة. وكانت ردود الفعل متوقعة: غضب واشمئزاز.
وبينما تعهّد الأساقفة بمعالجة مخاوف أتباعهم، اتضح أن العديد منهم كان مهتمًا بحماية مؤسستهم أكثر من معالجة المشكلة، ولم يُسفر ذلك إلا عن مزيد من خيبة الأمل. لذلك فقد تفاقمت المشكلة مع إصدار أبرشيات وولايات أخرى تقاريرَ مُدانةً بنفس القدر.
ازدادت حدة خيبة أتباع الكنيسة الكاثوليكية. فقد انخفضت نسبة الحضور في الكنيسة وتقلصت التبرعات، وأصبح يُنظر إلى «الكاثوليكية» على أنها مُعرّف ديموغرافي يُميز أحفاد المهاجرين الأوروبيين الأوائل عن الجماعات «الدينية» الأخرى أكثر من كونها إيمانًا بالكنيسة وتعاليمها.
وفي تجاهلٍ شبه تام للأزمة التي كانوا يواجهونها، كثّف الأساقفة جهودهم بشأن الإجهاض وغيره من المسائل الجنسية، جاعلين من هذه الأمور اختباراً حاسماً لأتباعهم، كما رأوا مستقبل الكنيسة في موجات المهاجرين الجدد إلى الولايات المتحدة من أمريكا اللاتينية وإفريقيا، الذين بدوا أكثر تقليدية.
وبعد أن أوضح العديد من الأساقفة تفضيلهم لمرشحي الحزب الجمهوري للرئاسة في عامي 2008 و2012، كتب بعض الساسة الكاثوليك البارزين الذين يمثلون الحزب الديمقراطي رسالة إلى الأساقفة يذكرونهم فيها بأن بيان الأساقفة بشأن المخاوف السياسية تضمن 25 مسألة.
لقد قالوا آنذاك في ذلك البيان: «نتفق معكم في أربعة وعشرين من هذه المسائل ونختلف في واحدة (الإجهاض). ومع ذلك نفضل المرشحين الذين يتفقون معكم في مسألة واحدة ويختلفون معكم في الأربعة والعشرين الأخرى».
في قلب هذه الكنيسة المنقسمة على نفسها، بدأ البابا فرنسيس حبريته عام 2013. كان تأثيره عميقًا، وإن كان خفيًا. لم يتحدَّ البابا قط المواقف المحافظة بشأن الإجهاض، أو المثلية الجنسية، أو دور المرأة في الكنيسة. ومع ذلك، كان له تأثير فوري من خلال مواقف تنمّ عن نهجٍ ألطف وأكثر رقةً تجاه أتباع الكنيسة الكاثوليكية.
أظهر البابا فرنسيس تواضعًا كبيرا، متخليًا عن مظاهر التباهي البابوية. فقد كان يغسل أقدام السجناء، ويزور اللاجئين، مُظهرًا الاحترام والتعاطف، كما التقى بضحايا الاعتداءات الكهنوتية طالبًا الصفح والمغفرة.
كما عقد البابا فرنسيس لقاءات مع المثليين الكاثوليك لإظهار قبولهم. وأصبحت المواضيع المحظورة مسائل للنقاش، وأوضح أن من نبذهم التقليديون يجب أن يُعاملوا باحترام.
كانت مواقفه معبرةً للغاية. بالنسبة للعديد من الأمريكيين العرب – كما هو الحال في معظم أنحاء العالم العربي – تبرز أربعة من هذه المواقف. لن ينسى معظمهم أبدًا أنه خلال زيارته لبيت لحم، أوقف موكبه وسار نحو الجدار العازل الإسرائيلي سيئ السمعة، واضعًا رأسه على الحاجز الخرساني، يدعو قائلاً: «نحن بحاجة إلى جسور، لا جدران».
كما صلى البابا فرنسيس في عيد الميلاد الماضي أمام مشهد المذود الذي ظهر فيه الطفل يسوع مستلقيا على كوفية فلسطينية، وكان طوال العام الماضي يُجري مكالمةً ليليةً عبر فيس تايم مع الكنيسة المسيحية الفلسطينية في غزة ليتحدث مع أهالي القطاع الذين تفاقمت معاناتهم.
وأخيراً، كان لقاؤه التاريخي والمؤثر للغاية مع الدكتور أحمد الطيب، الإمام الأكبر شيخ الأزهر، في دولة الإمارات العربية المتحدة، والإعلان المشترك بين الأديان الذي وقعاه، الذي يعزز التفاهم والاحترام المتبادل بين المسلمين والكاثوليك.
أثارت تصرفات البابا فرنسيس غضب المحافظين الذين سعوا لتقويض مساعيه في كل مناسبة. وبالمقابل، فقد شعر بعض الليبراليين بالاستياء لعدم تحرك البابا فرنسيس لتغيير تعاليم الكنيسة وممارساتها.
في الواقع، لا تزال الكنيسة الكاثوليكية التي تركها البابا فرنسيس منقسمة كما كانت عند توليه بابويته، لكن إرث البابا الراحل يتمثل في أنه، لأكثر من عقد، جلب الأمل والرحمة والاحترام ودعوةً للحوار. قد لا يكون هذا كافيًا لإنقاذ الكنيسة الكاثوليكية في أمريكا، ولكنه قد يكون أنار الطريق لأعضائها.
{ رئيس المعهد العربي الأمريكي.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك