من الناحية النظرية هناك «الأمم المتحدة» بمنظماتها التخصصية المتنوعة والمختلفة، حيث إنها من المفروض أن تسعى لتحقيق أهداف دولية عامة ومشتركة تخص كل دول العالم قاطبة، كما أنها من الناحية القانونية عليها أن تعمل على التصدي للقضايا الدولية المشتركة التي تهم كل دول العالم، ويتضرر، أو يستفيد منها الجميع، سواء أكانت سياسية، أو أمنية، أو اقتصادية، أو بيئية، أو اجتماعية، أو صحية. فكل منظمة أممية لها اختصاصاتها ومهماتها الدولية، فهناك منظمات لحماية البحار الدولية التي لا تقع تحت سيادة أية دولة، أي أنها تُعتبر موارد وثروات عامة مشتركة تنتفع منها جميع الدول، الفقيرة والغنية، المتنفذة والمستضعفة، المتقدمة والمتأخرة، وهناك منظمات لحماية بيئة الفضاء فوق الكرة الأرضية، إضافة إلى الكواكب والأجسام السماوية الأخرى.
ولكن الواقع مختلف جداً دائماً، والأحداث الدولية التي نشهدها أمامنا تؤكد أننا لا نعيش في عالم مثالي جميل يتم فيه العدل والمساواة بين الأمم والشعوب، فيساوي بينها في الحقوق والمنافع والمصالح المشتركة. فما نراه ونعيشه من تعديات من الدول الصناعية المتقدمة والمتنفذة على حرمات بيئاتنا المشتركة والعامة يتناقض مع أهداف وواجبات هذه المنظمات في الكثير من الحالات، فالنظريات في واد والواقع في واد آخر. فالقوي هو الذي يهيمن ويدير الثروات والخيرات المشتركة العامة بأسلوب يصب مباشرة في مصلحته، من دون أي اعتبار لمصالح الدول النامية والفقيرة التي لا حول لها ولا قوة، ولا كلمة مسموعة لها على الساحة الدولية، والمتنفذ من الدول هو الذي ينال حصة الأسد من هذه الموارد الطبيعية والخيرات الأرضية العامة، وما تبقى من فتات منها يوزع كصدقات ومِنَّة على الدول الضعيفة.
وأُقدم لكم مثالاً واقعياً حيوياً يقف أمامنا اليوم، ويثبت لنا هذه الحقيقة المرَّة التي نعيشها في هذا العالم غير العادل، وغير المتزن، الذي يسير على نهجٍ غير حضاري، وغير إنساني، فالقوي يلتهم الضعيف ويتعدى عليه، والمتنفذ يخالف الأنظمة والقوانين الدولية دون حسيب، أو رقيب، أو خوف من العقاب والتبعات القانونية الدولية.
فهناك في أعماق المحيطات المظلمة والشديدة البرودة والتي تقع خارج الحدود الجغرافية لجميع الدول، ولا تخضع لسلطة وسيادة أي دولة، توجد ثروات ضخمة لا حدود لها، وتجثم في تربة قاع هذه المحيطات خيرات كبيرة يحتاج إليها الإنسان بسرعة في هذه المرحلة التي تتجه نحو الاقتصاد الدائري، وتعتمد على مصادر الطاقة النظيفة والمتجددة، بدلاً من الوقود الأحفوري الناضب وغير المتجدد والملوث للبيئة، والمسبب لظاهرة التغير المناخي. فبطارية السيارات الكهربائية تحتاج إلى عناصر أرضية نادرة، وطاقة الرياح والطاقة الشمسية وغيرهما يحتاجون إلى هذه العناصر الموجودة في قاع المحيطات. ولذلك هناك سباق طويل محتدم وقوي وشرس بين الدول الصناعية المتقدمة، وهناك تنافس شديد على السيطرة على منابع ومصادر هذه العناصر الموجودة في مواقع مشتركة في قاع المحيطات، والسعي نحو تحقيق المرتبة الأولى في السباق، واحتكار جميع الصناعات القائمة عليها، سواء أكانت لأهداف مدنية أو عسكرية، دون إعطاء أي اعتبار للدول النامية التي من المفروض أن تكون لها حصة من هذه الثروات المشتركة.
ومن الدول المتقدمة التي لها تاريخ أسود طويل في احتلال واستغلال مصادر ثروات الشعوب الخاصة، ومصادر وخيرات الأرض المشتركة العامة هي الولايات المتحدة الأمريكية. وينكشف هذا جلياً اليوم في استباحة الولايات المتحدة لحرمات البيئة القاعية المشتركة في المحيطات من أجل استخراج مواردها من مختلف أنواع العناصر المطلوبة صناعياً، ليس فقط في المواقع التي تقع ضمن سيادتها وسيطرتها، وإنما في المواقع العامة المشتركة الأخرى الواقعة خارج حدود أمريكا. ومن أجل إعطاء الضوء الأخضر للبدء رسمياً في عملية التنقيب في قاع البحر عن المعادن في جميع مناطق محيطات الكرة الأرضية حتى من دون الحصول على رخص دولية رسمية معتمدة من وكالات الأمم المتحدة المعنية، ومن أجل التسريع في هذه الإجراءات للحاق بالصين المنافس الرئيس لأمريكا، فقد وقَّع ترامب على أمرٍ تنفيذي في 15 أبريل 2025 بشأن استخراج المعادن من تربة قاع المحيطات، كما وجه هذا الأمر التنفيذي كافة الأجهزة الحكومية الاتحادية، كوزارة الداخلية للاستعجال في تقديم الرخص اللازمة للبدء في العمليات.
فمثل هذا الأمر التنفيذي الرئاسي الأمريكي يخالف القوانين الدولية الخاصة بتقديم التراخيص للسماح في عملية استخراج هذه المعادن الموجودة في مواقع مشتركة في المياه الدولية في المحيطات، فهناك سلطة ومعاهدة دولية تحت مظلة الأمم المتحدة تحت مسمى: «السلطة الدولية لقاع البحر» (International Seabed Authority)، وهي مختصة بإدارة الثروات والخيرات العامة المشتركة لكل سكان الكرة الأرضية. ولكن هذه السلطة منذ تكوينها منذ أكثر من عشر سنوات لم تُجمع على قانون ومعايير دولية تقنن وتنظم عمليات الاستكشاف، والاستخراج، وتوزيع هذه الثروة من المعادن الصناعية، كما أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تعترف بهذه المنظمة الدولية والمنظمات الدولية الأخرى عامة، فهي ليست عضوا في هذه السلطة، كما هي ليست عضوا في قانون البحار لعام 1982 الذي أنشأ هذه السلطة.
والولايات المتحدة الأمريكية ستكون في المستقبل في المقدمة بالنسبة لاستخراج المعادن من أعماق المحيطات، حيث إنها زادت من مساحتها المتعلقة بالجرف القاري أكثر من مليون كيلومتر مربع، وبدون رخصة أو إذن من أحد. فقد أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية في 19 ديسمبر 2023 في المنشور الصادر تحت عنوان: «إعلان الحدود الخارجية الممتدة للجرف القاري للولايات المتحدة»، عن الحدود الخارجية للجرف القاري للولايات المتحدة في مناطق تتجاوز 200 ميل بحري من الساحل، ويُطلق عليها «الجرف القاري الممتد» (Extended Continental Shelf) . وهذه المساحة اللامتناهية التي ضمتها أمريكا إلى مساحتها تُقدر بنحو مليون كيلومتر مربع، أي أكبر من مساحة ولاياتها الكبيرة كولاية كاليفورنيا وتكساس. وتحتوي هذه المساحة العظيمة التي تطالب بها أمريكا والواقعة في القطب الشمالي وبحر برنج (Bering Sea) على ثروات بحرية فطرية كسرطان البحر، والشعاب المرجانية، إضافة إلى النفط والغاز، والموارد والثروات المعدنية التي هي أساس النجاح والتفوق في الثورة الصناعية في مجال مصادر الطاقة النظيفة المتجددة. وقد أَكدتْ على هذه الحقيقة وكالة «بلومبيرج» في 23 ديسمبر 2023 عن حصة الأسد التي تطالب بها أمريكا من خيرات قاع المحيطات والموارد المخزنة للبشرية جمعاء، حيث ورد هذا في المقال تحت عنوان: «الولايات المتحدة تطالب بجزء كبير من قاع البحر وسط دفعة استراتيجية للموارد». وجدير بالذكر أن الولايات المتحدة أخذت أيضاً مساحات إضافية في مناطق أخرى في المحيط الأطلسي وخليج مكسيكو تحت مبرر وحجة الجرف القاري.
ولذلك فالقوة والنفوذ والهيمنة العسكرية والسياسية هي التي تجعل أية دولة تتحكم في ثروات وخيرات الأرض والفضاء العامة والمشتركة، وهي التي تهيمن عليها وتحتكرها، وتستأثر بها، وتتحكم فيها، وتوجهها لمصالحها القومية، والولايات المتحدة اليوم هي التي تتميز بكل هذه الصفات، فلديها مساحة جغرافية عظيمة وواسعة جداً، وقوة عسكرية هائلة وفتاكة، ونفوذ سياسي قوي لا منافس له.
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك