العدد : ١٧٢٦٩ - الجمعة ٠٤ يوليو ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٩ محرّم ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٢٦٩ - الجمعة ٠٤ يوليو ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٩ محرّم ١٤٤٧هـ

قضايا و آراء

الغزّيون حين يعاندون أقدارهم

بقلم: د. هيا فريج

الأحد ٠٤ مايو ٢٠٢٥ - 02:00

لم‭ ‬تكن‭ ‬الهدنةُ‭ ‬القصيرةُ‭ ‬سوى‭ ‬فرصةٍ‭ ‬لِلَمْلَمَة‭ ‬شتاتِ‭ ‬النفوس‭ ‬التي‭ ‬أنهكتْها‭ ‬حربٌ‭ ‬لم‭ ‬تبقِ‭ ‬لهم‭ ‬حبيبًا‭ ‬ولا‭ ‬رفيقا،‭ ‬ولم‭ ‬تذرْ‭ ‬لهم‭ ‬بيتًا،‭ ‬ولا‭ ‬سقيفةً،‭ ‬ولا‭ ‬مأوىً،‭ ‬تَمَكنت‭ ‬جموعُ‭ ‬النازحين‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬الوصولِ‭ ‬إلى‭ ‬بقايا‭ ‬مساكنِهم؛‭ ‬يُفتشونَ‭ ‬فيها‭ ‬عن‭ ‬هياكلَ‭ ‬عظميةٍ‭ ‬لِشهدائِهم،‭ ‬الذينَ‭ ‬عَرَفوهم‭ ‬من‭ ‬كسورٍ‭ ‬في‭ ‬أسنانهم،‭ ‬ومن‭ ‬ملابسِهم‭ ‬الرثّة،‭ ‬وممّا‭ ‬تَبَقّى‭ ‬من‭ ‬أمتِعَتِهم،‭ ‬ومن‭ ‬خاتمِ‭ ‬زواجِهم‭ ‬المُعَلّق‭ ‬في‭ ‬أصابعهم‭ ‬حبًّا‭ ‬ووفاءً‭.‬

عاد‭ ‬فيها‭ ‬المشرَّدون‭ ‬من‭ ‬الشمال‭ ‬والجنوب،‭ ‬حاملينَ‭ ‬بحرقةٍ‭ ‬وصايا‭ ‬أحبّتهم،‭ ‬يقودُهُم‭ ‬الشوقُ‭ ‬إلى‭ ‬بيوتِهِم،‭ ‬يقبّلونَ‭ ‬ترابها،‭ ‬ويذرفون‭ ‬دموع‭ ‬الحسرةِ‭ ‬على‭ ‬أطلالها،‭ ‬لا‭ ‬أحدَ‭ ‬يشعرُ‭ ‬بلوعَتِهم،‭ ‬فما‭ ‬جرَبَ‭ ‬الإنسانُ‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬حروبِه‭ ‬فَقْدَ‭ ‬الأحبَّة‭ ‬بالجُمْلَة،‭ ‬وتبخُّرَ‭ ‬أجسادِهم،‭ ‬وتعذُّرَ‭ ‬العثورِ‭ ‬على‭ ‬جثث‭ ‬لدفنها،‭ ‬وما‭ ‬عَرَفوا‭ ‬تدميرَ‭ ‬المنازلِ‭ ‬بقذائفِ‭ ‬الميركافا،‭ ‬ولا‭ ‬البراميلِ‭ ‬المتفجِّرة،‭ ‬ولا‭ ‬الصواريخِ‭ ‬الانشطاريَّةِ‭ ‬الموَجَّهَةِ‭ ‬نحوَ‭ ‬الأجسادِ‭ ‬البشريّة‭.‬

ولأنَّ‭ ‬غزَّةَ‭ ‬مدينةٌ‭ ‬مسكونةٌ‭ ‬بالباحثينَ‭ ‬عن‭ ‬الحياةِ‭ ‬فوقَ‭ ‬جثثِ‭ ‬الأمواتِ،‭ ‬مارَسَ‭ ‬الغزيّ‭ ‬مَهامَه‭ ‬الشاقَّة،‭ ‬وأزاحَ‭ ‬أكوام‭ ‬الحجارة‭ ‬عن‭ ‬قلبِه‭ ‬قبل‭ ‬مسكنِه،‭ ‬وأشاحَ‭ ‬بنظَرِه‭ ‬عن‭ ‬ذكرياتِه‭ ‬وطيوفِ‭ ‬أحبابه،‭ ‬الذين‭ ‬عَمَروا‭ ‬المكان،‭ ‬وغادروا‭ ‬في‭ ‬غفلةٍ‭ ‬من‭ ‬الزمان،‭ ‬ثم‭ ‬فتَح‭ ‬عينيْه‭ ‬لينصبَ‭ ‬خيمتَه‭ ‬فوقَ‭ ‬الخراب،‭ ‬في‭ ‬محاولةٍ‭ ‬بائسةٍ‭ ‬لتحدي‭ ‬الطوفانِ‭ ‬الجارفِ‭ ‬الذي‭ ‬دمَّرَ‭ ‬واقعَهم،‭ ‬وحطَّمَ‭ ‬أحلامَهُم‭.‬

يعاندُ‭ ‬الغزيُّ‭ ‬أقدارَه‭ ‬التي‭ ‬خَطَّت‭ ‬الموتَ‭ ‬على‭ ‬جَبينِه،‭ ‬وعلّقَتِ‭ ‬الدمَ‭ ‬في‭ ‬رقبتِه،‭ ‬وَغَرَزت‭ ‬سيفَ‭ ‬الأحزانِ‭ ‬في‭ ‬قلبِه،‭ ‬وأورثتْهُ‭ ‬الحنينَ‭ ‬إلى‭ ‬كلِّ‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يمكنُ‭ ‬استرجاعُه‭.‬

يحاولُ‭ ‬تَطويعَ‭ ‬المُسْتَحيل؛‭ ‬ليصيرَ‭ ‬ممكنًا،‭ ‬تُفْرَضُ‭ ‬عليه‭ ‬القيودُ،‭ ‬فيكسرُها،‭ ‬معلنًا‭ ‬عصيانَه‭ ‬الدائم،‭ ‬يُغالب‭ ‬القوى‭ ‬التي‭ ‬تسجِّل‭ ‬عليه‭ ‬قوائم‭ ‬الممنوعات،‭ ‬فيحوّلها‭ ‬إلى‭ ‬مباحٍ‭ ‬ومتاحٍ‭.‬

يُقْتَلُ‭ ‬مرَّةً‭ ‬فينهضُ‭ ‬مَرَّةً‭ ‬أخرى؛‭ ‬ليتعجَّب‭ ‬قاتله‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬محمود‭ ‬درويش‭: ‬‮«‬هو‭ ‬أنت‭ ‬ثانيةً‭ ‬ألم‭ ‬أقتلك؟‭!‬‮»‬‭ ‬لا‭ ‬يعلمُ‭ ‬قَتَلَتُه‭ ‬أن‭ ‬مقتلَ‭ ‬الفلسطينيِّ‭ ‬لا‭ ‬يكونُ‭ ‬بتفوِّقِ‭ ‬السلاح،‭ ‬وتطوِّرِ‭ ‬التكنولوجيا،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬أملِه‭ ‬الخدّاع‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يجرُّ‭ ‬عليه‭ ‬سوى‭ ‬الخيبة،‭ ‬الأملُ‭ ‬ثعلبٌ‭ ‬راوغَ‭ ‬الحالمين‭ ‬بالراحة‭ ‬بعد‭ ‬المعركة،‭ ‬حتى‭ ‬انقضَّ‭ ‬على‭ ‬فرائسَ‭ ‬ثمينةٍ،‭ ‬تستحقُّ‭ ‬أن‭ ‬تُراق‭ ‬لأجلها‭ ‬دماءٌ،‭ ‬وتنقَضَ‭ ‬من‭ ‬أجلها‭ ‬مواثيق‭.‬

لم‭ ‬يلتقط‭ ‬الغزيّون‭ ‬أنفاسَهُم‭ ‬في‭ ‬الهدنة‭ ‬بعدُ‭ ‬حتى‭ ‬فاجأتْهُم‭ ‬الأغوالُ‭ ‬بأظافرها‭ ‬الطويلة،‭ ‬وأنيابِها‭ ‬الحادّة؛‭ ‬لتنْهَشَ‭ ‬بساديّتِها‭ ‬المعتادَةِ‭ ‬أجسادَ‭ ‬المُنْهَكين‭ ‬جوعًا‭ ‬وقهرًا‭ ‬وحزنًا‭ ‬وألما‭.‬

لم‭ ‬ننتَهِ‭ ‬بعدُ‭ ‬من‭ ‬طقوس‭ ‬البكاء،‭ ‬حتى‭ ‬تجدّدت‭ ‬مواسمُ‭ ‬النّحيب،‭ ‬وتفجَّرت‭ ‬ينابيعُ‭ ‬الدمعِ،‭ ‬وتساقطَ‭ ‬الهُطول‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬وتجهَّزَت‭ ‬القرابينُ‭ ‬للذبحِ،‭ ‬وصحَتْ‭ ‬في‭ ‬النفسِ‭ ‬أوجاعٌ‭ ‬أطفأتْها‭ ‬رغبةُ‭ ‬الإنسان‭ ‬الدائمةُ‭ ‬في‭ ‬النّجاة‭.‬

أيُّنا‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬وطّدَ‭ ‬نَفْسَه‭ ‬لأن‭ ‬يَسْتقبِلَ‭ ‬تكرارَ‭ ‬كلّ‭ ‬هذه‭ ‬الصدمات؟‭ ‬أينا‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬هيَّأ‭ ‬نفسه‭ ‬لأن‭ ‬يقدّم‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬التضحيات؟‭ ‬أيُّنا‭ ‬مستعدٌ‭ ‬الآنَ‭ ‬لأن‭ ‬يعيد‭ ‬التجارِبَ‭ ‬ذاتَها،‭ ‬من‭ ‬نزوحٍ،‭ ‬وفقدٍ،‭ ‬وعذابٍ،‭ ‬وجوعٍ،‭ ‬وخوفٍ؟‭!‬

لكنَّها‭ ‬الحروبُ،‭ ‬تقضمُ‭ ‬صدورَنا‭ ‬بنهَمٍ؛‭ ‬لتعلمَنا‭ ‬أن‭ ‬نسعدَ‭ ‬بكل‭ ‬لحظةٍ‭ ‬نعيشُها‭ ‬مطمئنين،‭ ‬وأن‭ ‬نغتنمَ‭ ‬كل‭ ‬فرصةٍ،‭ ‬وأن‭ ‬نفرحَ‭ ‬بكلّ‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬الكونِ‭ ‬من‭ ‬سعادةٍ،‭ ‬وأن‭ ‬نمتنَّ‭ ‬لكل‭ ‬لقمةٍ‭ ‬نأكلها‭ ‬هانئين،‭ ‬وأن‭ ‬نشكرَ‭ ‬كل‭ ‬جهدٍ‭ ‬ينتشلُنا‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬بأسٍ،‭ ‬وأن‭ ‬نمدَّ‭ ‬أيدينا‭ ‬سلامًا‭ ‬للعالم‭ ‬من‭ ‬أرضٍ‭ ‬تحنُّ‭ ‬إلى‭ ‬سلامٍ‭ ‬عادلٍ‭ ‬يحفظُ‭ ‬لأبنائها‭ ‬حقوقهم‭.‬

 

{ كاتبة‭ ‬وباحثة‭ ‬فلسطينية‭ ‬من‭ ‬غزة‭ ‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا