في خطاب تنصيبه يوم 20 يناير2025، تحدث ترامب عن القومية الأمريكية الجريحة، وتحدث عن الخيانة، وتحدث عن رؤية أكثر راديكالية، وكرس ترامب جزءا من خطابه الافتتاحي لفكرة «المصير الواضح»، وأن «التوسع الأمريكي هو حقنا الإلهي».
أعلن ترامب، في خطاب تنصيبه، «ستعتبر الولايات المتحدة نفسها مرة أخرى أمة متنامية، دولة تزيد ثروتنا، وتوسع أراضينا، وتبني مدننا، وترفع سقف توقعاتنا، وتحمل علمنا إلى آفاق جديدة وجميلة». في غضون ذلك، قال مرارًا وتكرارًا إنه يعتزم استعادة السيطرة على قناة بنما، وأن كندا يجب أن تصبح ولاية أمريكية، وأنه يجب شراء جزيرة جرينلاند التابعة لدولة الدنمارك، الدولة العضو بحلف الناتو.
استحضر ترامب فكرة عظمة أمريكا وضرورة استعادة هيبتها، رابطًا ذلك بشكل صريح بالدعوة إلى التوسع الإقليمي. ورغم أن للولايات المتحدة تاريخًا طويلا في التوسع فإن هذا التاريخ لا يشكل سابقة تُبرر تصريحات ترامب الأخيرة، إذ لم يشمل التوسع الأمريكي في الماضي ضم دول مستقلة مجاورة بالقوة.
يرجع تاريخ آخر حديث لرئيس أمريكي بهذه الطريقة إلى عهد «جيمس بولك» الرئيس الحادي عشر للولايات المتحدة (1845-1849)، الذي ركز على ضرورة ضم أراضٍ خارجية، إلا أنها لم تكن دول مستقلة ذات سيادة، وضم بولك ولاية تكساس وأجزاء من السواحل الغربية للولايات المتحدة في ولايات (أوريجون، كاليفورنيا)، وهناك كذلك الرئيس ويليام ماكينلي (1897-1901)، والذي يستدعيه ترامب كثيرًا في خطاباته، وحاول ماكينلي بعد الانتصار في الحرب على إسبانيا الاستيلاء على (كوبا، الفلبين) بالقوة، لكنه فشل.
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، كان حظر التوسع الإقليمي القسري سمة مركزية لكل من: القانون الدولي، والسياسة الخارجية للولايات المتحدة، بعد أن عمل الرئيس وودرو ويلسون -لأول مرة- على حظر الغزو عبر عصبة الأمم عقب الحرب العالمية الأولى، جعل الرئيسان (فرانكلين روزفلت، وهاري ترومان) السلامة الإقليمية مبدأ أساسيا لمنظومة الأمم المتحدة عقب الحرب العالمية الثانية. منذ ذلك الحين، قادت الولايات المتحدة جهودا لردع ومعاقبة الغزاة الساعين لضم أراضٍ دول مجاورة بالقوة، مثل: حالة العراق مع الكويت، وحالة روسيا مع أوكرانيا.
أوضح ترامب أن رغبته في ضم هذه الأراضي تنبع من منطلقات اقتصادية بما توفره من موارد ضخمة (مادية، ومعدنية، وبيئية) ومنطلقات عسكرية؛ حيث تعد جرينلاند موطنًا لمنشأة فضائية أمريكية كبيرة، وقال إنها «ضرورية للجهود العسكرية لتعقب السفن الصينية والروسية المنتشرة في كل مكان» مؤكدا «أنا أتحدث عن حماية العالم الحر».
ينظر ترامب للعديد من قضايا العلاقات الدولية منطلقا من كونه مطورا عقاريا يؤمن بصفقات البيع والشراء حتى بين أراضي الدول المستقلة ذات السيادة، ولا يُعد ترامب استثناء بين الرؤساء الأمريكيين من حيث رغبته في شراء المزيد من الأراضي لضمها للاتحاد الأمريكي. دائمًا ما واجهت هذه العمليات الضخمة جدلا مجتمعيا وقانونيا واسعا، وأبرزها في عام 1803، اشترى الرئيس الراحل توماس جيفرسون ولاية لويزيانا مما ضاعف حجم البلاد، وكان عليه أن يتجاهل بعض البنود الدستورية المعرقلة لمثل هذه الصفقة. ثم في عام 1867، اشترى وليام سيوارد ووزير الخارجية حينها، أراضي ألاسكا من روسيا مقابل 7.2 ملايين دولار (162 مليون دولار بأسعار اليوم) واعتبر الكثيرون هذه العملية بمثابة حماقة كبيرة. بعد الانتقادات الأولية، يُنظر اليوم إلى الصفقتين على أنهما من الإنجازات العظيمة.
منذ وصوله إلى الحكم للمرة الثانية في 2025، يبدو أن ترامب يتبنى سياسة خارجية قومية يراها أكثر إنصافا للمصالح الأمريكية المادية التي تجاهلتها الإدارات السابقة، ولا يريد ترامب أن تنفق واشنطن على تكلفة وجود قواعد عسكرية لحماية بعض الدول خاصة الغنية منها، ولا ينتظر أن تغير الإدارات القادمة في عصر ما بعد ترامب من هذا النهج الذي يلقى دعمًا من الجمهوريين والديمقراطيين. وربما تدشن قومية السياسات الخارجية في عهد ترامب مبدأ أو عقيدة سياسية جديدة ينتهجها حكام البيت الأبيض في المستقبل.
أظهرت السياسات الخارجية التي اتبعها ترامب حتى الآن التزاما جادا بشعبوية أمريكية جديدة، إلا أن ما يرتبط بالتوسع والتدخل الخارجي، لا يتسق مع نهج ترامب العام المتعلق بـ«أمريكا أولًا». وبلا شك يمكن للعديد من العقبات أن تمنع أفكار ترامب التوسعية من التبلور بشكل عملي، وتتميز إدارة ترامب بصنع سياساتها بطرق فوضوية ومسرحية؛ حيث تعطي الأولوية للمكاسب السياسية قصيرة الأجل على الإستراتيجية طويلة الأجل، ويقوض عدم الاستقرار هذا أي جهود متواصلة للتوسع. وستكون الخطوة الأولى لأي تحركات مضادة من قبل خصوم ترامب الأجانب هي رؤية مخططات نظامه على حقيقتها: فوضوية، ربما، ولكن توسعية خطيرة.
لخطاب ترامب التوسعي عدة عواقب، من أهمها:
أولًا: يوفر حديث ترامب مادة خصبة للقوى الساعية للتوسع الإقليمي غير الشرعي والمخالف للقانون الدولي وسيادة الدول الأخرى، مثل: روسيا في أراضي أوكرانيا، وربما الصين في أراض حدودية مع الهند وفيتنام، والحدود البحرية مع إندونيسيا والفلبين.
ثانيًا: يقوض خطاب ترامب التوسعي الأمن القومي للولايات المتحدة من خلال إضعاف تحالفاتها الأمنية حول العالم خاصة مع دول أوروبا الغربية، ودول جنوب وشرق آسيا، ويسهم خطاب ترامب في تشكيك الدول الحليفة لواشنطن في الاعتماد على دولة لا يستبعد رئيسها والقائد الأعلى لقواتها المسلحة استخدام القوة لغزو أراضي دولة حليفة عضو بحلف شمال الأطلسي - الناتو.
وربما يقول ترامب هذه الأشياء كتكتيك تفاوضي للاستفادة من التنازلات في ملفات مثل: الصفقات التجارية ورفع الإنفاق الدفاعي لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، وضبط الحدود والتشدد في مواجهة الصين.
ويرى بعض المراقبين أن ما يكرره ترامب من رغبته في توسيع بقعة الأراضي الأمريكية يعكس هدفين مشتركين: الأول، طموح شعبوي لتوسيع حدود البلاد. والثاني، طموح شخصي لزيادة الأراضي الأمريكية كجزء من إرثه الرئاسي. ويرى آخرون أنه إذا تمسك ترامب بالادعاءات التوسعية فستصبح حتما جزءا من أجندة الإدارة، لكن كبار مستشاريه بالسياسة الخارجية لا بد من أن يفكروا في هذا على أنه جنون رئاسي مع فرصة محدودة للنجاح.
{كاتب صحفي مختص
في الشؤون الأمريكية
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك