في الثالث من مايو، نحتفي بالكلمة التي صنعت المعنى، وعبرت عن الإنسان، وكانت دوما جسرا بين القلوب والعقول. الكلمة، ذلك النبض الهادئ الذي لا يرى، لكنها قادرة على أن تضيء الظلام، وتلملم الشروخ، وتزرع بذور الأمل في أرضٍ عطشى.
منذ زمن بعيد، والكلمة تصنع التاريخ. تشعل ثورات الوعي، وتوقف نزيف الحروب، وتقرب المسافات بين الشعوب. لم يكن القلم أداة نقل فقط، بل شعلة تغيير. تلك اللغة التي تسري في الروح كما ينساب النسيم بين سنابل الحقول، توقظ فينا ما نظن أنه خفت.
تغيّر العالم كثيرا. من زمن كانت توزن فيه الكلمات كما توزن الأحجار الكريمة، إلى زمن يتسابق فيه الجميع على النشر، تزداد مسؤولية الكاتب الحقيقي. لم تعد الكتابة تعبيرا فقط، بل أصبحت فعل تأثير. فقد يصادف القارئ كلمة تغير يومه، أو تعيد ترتيب أفكاره، من دون أن يبحث عنها. وهنا، يكمن سحر الكلمة الصادقة.
في هذا الزمن الرقمي، باتت المنصات كثيرة، وكل هاتف نافذة، وكل إنسان صحفيا بالقوة. وبين هذا الزخم، يسطع دور الكلمة النزيهة. ليست كل كتابة تنويرا، لكن كل تنوير يبدأ بكلمة صادقة. فالكلمة قد تطمئن أو تقلق، تبني أو تهدم، توحد أو تُفرّق. والكاتب الحقيقي يعرف هذه القوة، ويحسن استخدامها.
إنه لا يركض خلف الأضواء ولا خلف التصفيق، بل خلف الحقيقة والمعنى. يكتب ليجمع، لا ليفرّق. ينظر إلى الناس لا كأطراف متقابلة، بل كنسيج واحد يحتاج إلى من ينصت له بلطف، ويخاطبه بلغة تشعره بأنه مرئي ومهم ومفهوم.
في لحظات الأزمات، حين يعجز الناس عن التعبير، تصبح الكلمة الملاذ. ليست ترفا ولا رأيا، بل ضرورة. ففي زمن الكوارث، والحروب، والانهيارات النفسية والاجتماعية، يبحث الناس عمن يقول ما يعجزون عن قوله، ويفهم ما يثقل صدورهم. هنا تتجلى عظمة الصحافة الحرة، لا بوصفها وسيلة إخبار، بل بكونها وسيلة احتضان. كلمة تواسي، أو تنذر، أو تنير طريقا وسط الركام. في تلك اللحظات، لا يقاس الكاتب بعدد قرائه، بل بعدد من شعروا أنهم ليسوا وحدهم.
الكاتب النزيه لا يصنع جبهات، بل يبني جسورًا. لا يكتب ليرضي جمهورًا، بل ليخدم ضميره. لا يسأل من أين أتى القارئ، بل ماذا يحمل قلبه من حلم، من خوف، من تساؤل. يكتب بما يشبه الناس جميعا، بما يوحدهم لا بما يُقسمهم. فالكلمة الحرة لا تقصي أحدا، بل تحتضن، وتبحث عن اللغة التي نشترك فيها جميعا: لغة الكرامة والعدل والرحمة.
ولهذا، فإن الدول التي تسعى لبناء أوطان مستقرة وآمنة، لا بد أن تفسح المجال للكلمة الحرة، تلك التي تكتب بإخلاص من أجل الإنسان. فحرية التعبير ليست فوضى، بل مساحة للنبل. هي التي تمنح الصوت لمن لا صوت له، وتجعل الحقيقة تنمو حتى في أكثر اللحظات ظلمة.
قال الروائي جوزيه ساراماغو ذات يوم: «حرية الصحافة لا تعني أن تقول ما تشاء، بل أن تقول ما يجب أن يقال». وهذه الـ «يجب» لا تفرض من سلطة، بل من ضمير حيّ، يحترم عقول الناس ويؤمن بكرامتهم.
اليوم العالمي لحرية الصحافة ليس احتفالا سنويا فحسب، بل لحظة نتوقف فيها لنعيد التفكير في معنى الكلمة، في أثرها، وفي مسؤوليتنا تجاهها. مناسبة لنطرح الأسئلة: هل نفتح النوافذ للأفكار الصادقة؟ هل ننصت للأصوات النزيهة حتى إن خالفت المعتاد؟
بعض المجتمعات، للأسف، لا تزال ترى الكتّاب إما مؤيدين أو معارضين، وتنسى أن هناك من يكتب لأنه يحب وطنه، لأنه لا يحتمل أن يرى الظلم صامتا، أو أن يمرّ الألم من دون أن يُعبّر عنه. هؤلاء الكتّاب هم من يحمون ذاكرتنا، ومن يصونون وعينا.
في النهاية، تبقى الكلمة النزيهة نورًا، وتبقى الصحافة الحرة صوت حياة. وما أجمل أن نكتب لا لندافع عن جهة، بل لنخدم الحقيقة. أن نختار كلماتنا كما يختار الماس، ونصغي لبعضنا كما يصغي المتعطش للماء.
في الثالث من مايو، لنحتفل بالكلمة التي تبني، ولنؤمن أن حرية الصحافة لا تقاس بما نشر، بل بما أُنير، وما تغيّر، وما أزهر في وجدان الناس.
rajabnabeela@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك