العدد : ١٧٢٠٧ - السبت ٠٣ مايو ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٥ ذو القعدة ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٢٠٧ - السبت ٠٣ مايو ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٥ ذو القعدة ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

بمناسبة اليوم العالمي للصحافة..
في البدء كانت الكلمة.. وكانت حرة

بقلم: نبيلة رجب

السبت ٠٣ مايو ٢٠٢٥ - 02:00

في‭ ‬الثالث‭ ‬من‭ ‬مايو،‭ ‬نحتفي‭ ‬بالكلمة‭ ‬التي‭ ‬صنعت‭ ‬المعنى،‭ ‬وعبرت‭ ‬عن‭ ‬الإنسان،‭ ‬وكانت‭ ‬دوما‭ ‬جسرا‭ ‬بين‭ ‬القلوب‭ ‬والعقول‭. ‬الكلمة،‭ ‬ذلك‭ ‬النبض‭ ‬الهادئ‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يرى،‭ ‬لكنها‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تضيء‭ ‬الظلام،‭ ‬وتلملم‭ ‬الشروخ،‭ ‬وتزرع‭ ‬بذور‭ ‬الأمل‭ ‬في‭ ‬أرضٍ‭ ‬عطشى‭.‬

منذ‭ ‬زمن‭ ‬بعيد،‭ ‬والكلمة‭ ‬تصنع‭ ‬التاريخ‭. ‬تشعل‭ ‬ثورات‭ ‬الوعي،‭ ‬وتوقف‭ ‬نزيف‭ ‬الحروب،‭ ‬وتقرب‭ ‬المسافات‭ ‬بين‭ ‬الشعوب‭. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬القلم‭ ‬أداة‭ ‬نقل‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬شعلة‭ ‬تغيير‭. ‬تلك‭ ‬اللغة‭ ‬التي‭ ‬تسري‭ ‬في‭ ‬الروح‭ ‬كما‭ ‬ينساب‭ ‬النسيم‭ ‬بين‭ ‬سنابل‭ ‬الحقول،‭ ‬توقظ‭ ‬فينا‭ ‬ما‭ ‬نظن‭ ‬أنه‭ ‬خفت‭.‬

تغيّر‭ ‬العالم‭ ‬كثيرا‭. ‬من‭ ‬زمن‭ ‬كانت‭ ‬توزن‭ ‬فيه‭ ‬الكلمات‭ ‬كما‭ ‬توزن‭ ‬الأحجار‭ ‬الكريمة،‭ ‬إلى‭ ‬زمن‭ ‬يتسابق‭ ‬فيه‭ ‬الجميع‭ ‬على‭ ‬النشر،‭ ‬تزداد‭ ‬مسؤولية‭ ‬الكاتب‭ ‬الحقيقي‭. ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬الكتابة‭ ‬تعبيرا‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬أصبحت‭ ‬فعل‭ ‬تأثير‭. ‬فقد‭ ‬يصادف‭ ‬القارئ‭ ‬كلمة‭ ‬تغير‭ ‬يومه،‭ ‬أو‭ ‬تعيد‭ ‬ترتيب‭ ‬أفكاره،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يبحث‭ ‬عنها‭. ‬وهنا،‭ ‬يكمن‭ ‬سحر‭ ‬الكلمة‭ ‬الصادقة‭.‬

في‭ ‬هذا‭ ‬الزمن‭ ‬الرقمي،‭ ‬باتت‭ ‬المنصات‭ ‬كثيرة،‭ ‬وكل‭ ‬هاتف‭ ‬نافذة،‭ ‬وكل‭ ‬إنسان‭ ‬صحفيا‭ ‬بالقوة‭. ‬وبين‭ ‬هذا‭ ‬الزخم،‭ ‬يسطع‭ ‬دور‭ ‬الكلمة‭ ‬النزيهة‭. ‬ليست‭ ‬كل‭ ‬كتابة‭ ‬تنويرا،‭ ‬لكن‭ ‬كل‭ ‬تنوير‭ ‬يبدأ‭ ‬بكلمة‭ ‬صادقة‭. ‬فالكلمة‭ ‬قد‭ ‬تطمئن‭ ‬أو‭ ‬تقلق،‭ ‬تبني‭ ‬أو‭ ‬تهدم،‭ ‬توحد‭ ‬أو‭ ‬تُفرّق‭. ‬والكاتب‭ ‬الحقيقي‭ ‬يعرف‭ ‬هذه‭ ‬القوة،‭ ‬ويحسن‭ ‬استخدامها‭.‬

إنه‭ ‬لا‭ ‬يركض‭ ‬خلف‭ ‬الأضواء‭ ‬ولا‭ ‬خلف‭ ‬التصفيق،‭ ‬بل‭ ‬خلف‭ ‬الحقيقة‭ ‬والمعنى‭. ‬يكتب‭ ‬ليجمع،‭ ‬لا‭ ‬ليفرّق‭. ‬ينظر‭ ‬إلى‭ ‬الناس‭ ‬لا‭ ‬كأطراف‭ ‬متقابلة،‭ ‬بل‭ ‬كنسيج‭ ‬واحد‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬من‭ ‬ينصت‭ ‬له‭ ‬بلطف،‭ ‬ويخاطبه‭ ‬بلغة‭ ‬تشعره‭ ‬بأنه‭ ‬مرئي‭ ‬ومهم‭ ‬ومفهوم‭.‬

في‭ ‬لحظات‭ ‬الأزمات،‭ ‬حين‭ ‬يعجز‭ ‬الناس‭ ‬عن‭ ‬التعبير،‭ ‬تصبح‭ ‬الكلمة‭ ‬الملاذ‭. ‬ليست‭ ‬ترفا‭ ‬ولا‭ ‬رأيا،‭ ‬بل‭ ‬ضرورة‭. ‬ففي‭ ‬زمن‭ ‬الكوارث،‭ ‬والحروب،‭ ‬والانهيارات‭ ‬النفسية‭ ‬والاجتماعية،‭ ‬يبحث‭ ‬الناس‭ ‬عمن‭ ‬يقول‭ ‬ما‭ ‬يعجزون‭ ‬عن‭ ‬قوله،‭ ‬ويفهم‭ ‬ما‭ ‬يثقل‭ ‬صدورهم‭. ‬هنا‭ ‬تتجلى‭ ‬عظمة‭ ‬الصحافة‭ ‬الحرة،‭ ‬لا‭ ‬بوصفها‭ ‬وسيلة‭ ‬إخبار،‭ ‬بل‭ ‬بكونها‭ ‬وسيلة‭ ‬احتضان‭. ‬كلمة‭ ‬تواسي،‭ ‬أو‭ ‬تنذر،‭ ‬أو‭ ‬تنير‭ ‬طريقا‭ ‬وسط‭ ‬الركام‭. ‬في‭ ‬تلك‭ ‬اللحظات،‭ ‬لا‭ ‬يقاس‭ ‬الكاتب‭ ‬بعدد‭ ‬قرائه،‭ ‬بل‭ ‬بعدد‭ ‬من‭ ‬شعروا‭ ‬أنهم‭ ‬ليسوا‭ ‬وحدهم‭.‬

الكاتب‭ ‬النزيه‭ ‬لا‭ ‬يصنع‭ ‬جبهات،‭ ‬بل‭ ‬يبني‭ ‬جسورًا‭. ‬لا‭ ‬يكتب‭ ‬ليرضي‭ ‬جمهورًا،‭ ‬بل‭ ‬ليخدم‭ ‬ضميره‭. ‬لا‭ ‬يسأل‭ ‬من‭ ‬أين‭ ‬أتى‭ ‬القارئ،‭ ‬بل‭ ‬ماذا‭ ‬يحمل‭ ‬قلبه‭ ‬من‭ ‬حلم،‭ ‬من‭ ‬خوف،‭ ‬من‭ ‬تساؤل‭. ‬يكتب‭ ‬بما‭ ‬يشبه‭ ‬الناس‭ ‬جميعا،‭ ‬بما‭ ‬يوحدهم‭ ‬لا‭ ‬بما‭ ‬يُقسمهم‭. ‬فالكلمة‭ ‬الحرة‭ ‬لا‭ ‬تقصي‭ ‬أحدا،‭ ‬بل‭ ‬تحتضن،‭ ‬وتبحث‭ ‬عن‭ ‬اللغة‭ ‬التي‭ ‬نشترك‭ ‬فيها‭ ‬جميعا‭: ‬لغة‭ ‬الكرامة‭ ‬والعدل‭ ‬والرحمة‭.‬

ولهذا،‭ ‬فإن‭ ‬الدول‭ ‬التي‭ ‬تسعى‭ ‬لبناء‭ ‬أوطان‭ ‬مستقرة‭ ‬وآمنة،‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬تفسح‭ ‬المجال‭ ‬للكلمة‭ ‬الحرة،‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬تكتب‭ ‬بإخلاص‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الإنسان‭. ‬فحرية‭ ‬التعبير‭ ‬ليست‭ ‬فوضى،‭ ‬بل‭ ‬مساحة‭ ‬للنبل‭. ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تمنح‭ ‬الصوت‭ ‬لمن‭ ‬لا‭ ‬صوت‭ ‬له،‭ ‬وتجعل‭ ‬الحقيقة‭ ‬تنمو‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬اللحظات‭ ‬ظلمة‭.‬

قال‭ ‬الروائي‭ ‬جوزيه‭ ‬ساراماغو‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭: ‬‮«‬حرية‭ ‬الصحافة‭ ‬لا‭ ‬تعني‭ ‬أن‭ ‬تقول‭ ‬ما‭ ‬تشاء،‭ ‬بل‭ ‬أن‭ ‬تقول‭ ‬ما‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يقال‮»‬‭. ‬وهذه‭ ‬الـ‭ ‬‮«‬يجب‮»‬‭ ‬لا‭ ‬تفرض‭ ‬من‭ ‬سلطة،‭ ‬بل‭ ‬من‭ ‬ضمير‭ ‬حيّ،‭ ‬يحترم‭ ‬عقول‭ ‬الناس‭ ‬ويؤمن‭ ‬بكرامتهم‭.‬

اليوم‭ ‬العالمي‭ ‬لحرية‭ ‬الصحافة‭ ‬ليس‭ ‬احتفالا‭ ‬سنويا‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬لحظة‭ ‬نتوقف‭ ‬فيها‭ ‬لنعيد‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬معنى‭ ‬الكلمة،‭ ‬في‭ ‬أثرها،‭ ‬وفي‭ ‬مسؤوليتنا‭ ‬تجاهها‭. ‬مناسبة‭ ‬لنطرح‭ ‬الأسئلة‭: ‬هل‭ ‬نفتح‭ ‬النوافذ‭ ‬للأفكار‭ ‬الصادقة؟‭ ‬هل‭ ‬ننصت‭ ‬للأصوات‭ ‬النزيهة‭ ‬حتى‭ ‬إن‭ ‬خالفت‭ ‬المعتاد؟

بعض‭ ‬المجتمعات،‭ ‬للأسف،‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬ترى‭ ‬الكتّاب‭ ‬إما‭ ‬مؤيدين‭ ‬أو‭ ‬معارضين،‭ ‬وتنسى‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬يكتب‭ ‬لأنه‭ ‬يحب‭ ‬وطنه،‭ ‬لأنه‭ ‬لا‭ ‬يحتمل‭ ‬أن‭ ‬يرى‭ ‬الظلم‭ ‬صامتا،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬يمرّ‭ ‬الألم‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يُعبّر‭ ‬عنه‭. ‬هؤلاء‭ ‬الكتّاب‭ ‬هم‭ ‬من‭ ‬يحمون‭ ‬ذاكرتنا،‭ ‬ومن‭ ‬يصونون‭ ‬وعينا‭.‬

في‭ ‬النهاية،‭ ‬تبقى‭ ‬الكلمة‭ ‬النزيهة‭ ‬نورًا،‭ ‬وتبقى‭ ‬الصحافة‭ ‬الحرة‭ ‬صوت‭ ‬حياة‭. ‬وما‭ ‬أجمل‭ ‬أن‭ ‬نكتب‭ ‬لا‭ ‬لندافع‭ ‬عن‭ ‬جهة،‭ ‬بل‭ ‬لنخدم‭ ‬الحقيقة‭. ‬أن‭ ‬نختار‭ ‬كلماتنا‭ ‬كما‭ ‬يختار‭ ‬الماس،‭ ‬ونصغي‭ ‬لبعضنا‭ ‬كما‭ ‬يصغي‭ ‬المتعطش‭ ‬للماء‭.‬

في‭ ‬الثالث‭ ‬من‭ ‬مايو،‭ ‬لنحتفل‭ ‬بالكلمة‭ ‬التي‭ ‬تبني،‭ ‬ولنؤمن‭ ‬أن‭ ‬حرية‭ ‬الصحافة‭ ‬لا‭ ‬تقاس‭ ‬بما‭ ‬نشر،‭ ‬بل‭ ‬بما‭ ‬أُنير،‭ ‬وما‭ ‬تغيّر،‭ ‬وما‭ ‬أزهر‭ ‬في‭ ‬وجدان‭ ‬الناس‭.‬

 

rajabnabeela@gmail‭.‬com

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا