تُعد الأوقاف في البحرين أحد مظاهر الهوية الإسلامية للمجتمع البحريني، وتشير الكتابات والشواهد التاريخية إلى أن الوقف في البحرين قديم، وقد نشأ مع بداية الفتح الإسلامي لها، ويعود صاحب أول وقف في البحرين إلى عهد الصحابي العلاء بن الحضرمي الذي فتح البحرين، فولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إمارتها، وكان من أعماله بعد الفتح إنشاء مسجد، الذي يُعد أول وقف إسلامي في البحرين. منذ ذلك التاريخ والأعمال الوقفية مستمرة ولم تتوقف إلى يومنا هذا. وقد تعددت مجالات الوقف في البحرين على مدى المراحل التاريخية التي مرت بها، وكان معظمها في مجال العقارات والمزارع والبيوت وبناء المساجد وغيرها.
في العصر الحديث، لم يكن الوقف غائباً عن اهتمامات أصحاب الخير في البحرين، وحرصهم الشديد على مواصلة البذل والعطاء انطلاقاً من مبادئ الدين الإسلامي. ولما كان الوقف تحكمه مبادئ وأحكام الشريعة الإسلامية؛ فكانت الأوقاف تدار من أصحابها أو النظار المعينين عليها من قبل الواقف نفسه تحت إشراف القضاة الشرعيين، ونظراً إلى أهمية المحافظة على الأوقاف، استشعر حاكم البحرين الشيخ حمد بن عيسى بن علي آل خليفة (1932 – 1942 م) أهمية الإشراف على الأوقاف خوفاً من تعرضها للضياع والتبديد، فأطلق مبادرته باتخاذ التدابير الاحترازية، الغرض منها حصر وتسجيل الأوقاف القائمة آنذاك، فأصدر الإعلان رقم 69/17 في 27 محرم سنة 1346 هـ - 1927م. وكان الهدف من ورائِه إنشاء إدارة تكون مهمتها تسجيل الأوقاف وتدبيرها أحسن تدبير وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية.
إن الهدف من مقالنا اليوم، ليس سرد تاريخ الأوقاف في البحرين، لكن تعمدنا كتابة هذه المقدمة لنؤكد حقيقة تاريخية هي: ان الوقف في البحرين قديم قدم هذه الأرض المعطاءة، وناسها الطيبين الذين كانوا - ولا يزالون - يقبلون على عمل البر والخير غايتهم في ذلك مرضاة الله واتباع هدي رسوله الكريم.
من هذا المنطلق، سار أهل الخير من البحرينيين في الوقت الحاضر على نهج آبائهم وأجدادهم في تخصيص جزء من ثرواتهم وممتلكاتهم لأعمال البر والإحسان. إن المتابع لأعمال الوقف في البحرين يلاحظ أن أغلب تلك الأعمال تتجه إلى بناء المساجد ومراكز تحفيظ القرآن الكريم، والمدارس الوقفية لتدريس الفقه والحديث، وهي لا شك أعمال جليلة يثابون عليها في الدينا والآخرة ويستحقون الشكر والثناء على ما يقدمونه، وهي أعمال مطلوبة ومستحبة، لكن في الجانب الآخر، نرى أن المجتمع البحريني في السنوات الأخيرة، قد تطور من حيث عدد سكانه، الأمر الذي أدى إلى تعدد حاجاته ومتطلباته، وبات في أمس الحاجة إلى مشاريع خيرية تسد تلك الحاجات ويمكن للوقف أن يسهم في توفيرها؛ لأنها أصبحت أكثر من ضرورية. نقول ذلك ليس من باب الترف، وإنما من باب الضرورات التي تتطلب البحث عن مشاريع خيرية جديدة لم يتصد لها الوقف حتى الآن مثل: التعليم والصحة ورعاية ذوي الاحتياجات الخاصة والسكن وغيرها التي بات المجتمع في أمس الحاجة إليها.
ولما كان الأصل في أغراض الوقف أن تتم عن طريق تلمس الواقف احتياجات المجتمع أو البيئة المحيطة به؛ فبالنتيجة لا بد أن يكون هناك تنوع في الوقف نظراً الى تنوع حاجات المجتمع، من هنا يمكن القول بأنه آن الأوان أن تنتقل البحرين من حقبة النمط الواحد في الوقف إلى التنوع في الوقف وأن تتحرر من النمطية في أعمال الوقف، لتصبح تجربتها رائدة يحتذى بها في مجال الوقف الإسلامي. فالوقف ليس مجرد عمل خيري وإنما بات ركيزة من ركائز عملية التنمية الشاملة.
من هذا المنطلق نؤكد الدور المهم والكبير الذي يضطلع به مجلس الأوقاف في الفترة الحالية، ونشد على أيدي أعضائه الكرام في إطلاق العديد من المبادرات التي من شأنها الارتقاء بالوقف وتنوعه بما يخدم المجتمع البحريني أولاً والمجتمعات الإسلامية الأخرى ثانياً.
في هذا السياق، فإننا نضع بين أيدي أعضاء المجلس باقة من الاقتراحات التي نراها ضرورية على طريق تحقيق أهداف الوقف، كما يأتي:
أولا: توسيع مفهوم الوقف، ويعني الانتقال من الأعمال الوقفية التقليدية التي تشبّع بها المجتمع إلى الأعمال الوقفية المرتبطة بالتنمية المستدامة في المجتمع، وبما يتوافق مع إرادات الواقفين، وتشجيعهم على طرق مصارف جديدة للوقف تسهم في تنمية المجتمع البحريني، هذا لا يعني إطلاقاً الاستغناء عن الأعمال الخيرية التقليدية كبناء المساجد ومراكز تحفيظ القرآن الكريم؛ فهذه أعمال جليلة ومطلوبة ولكن كل ما ندعو إليه هو أن تتم في إطار حاجات المجتمع.
وإذا كنا ندعو إلى توسيع مفهوم الوقف بحيث يكون متنوعا؛ فإن قدوتنا في هذا المجال هو: صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى ملك البلاد المعظم قائد مسيرتنا الخيرة الذي له قصب السبق في التفكير في مسألة تنويع مصارف الوقف من خلال مبادراته الخيرية التي تصب في هذا الاتجاه؛ فقد أمر جلالته بإنشاء وقف عيسى بن سلمان التعليمي، ووقف خليفة بن سلمان للأعمال الخيرية، ولا شك أن مثل هذه الأوقاف تتناغم مع توجهات الدولة في التنمية العلمية والاجتماعية للمجتمع البحريني.
ثانيا: البناء على التجارب البحرينية السابقة:
المتابع للأعمال الوقفية في البحرين سيكتشف أن للبحرين تجارب في مجال تنوع الوقف، من هذه التجارب التي يشار إليها بالبنان ما يلي:
التجربة الأولى: وقف عيسى بن سلمان التعليمي الذي انطلق عام 2013م، ويهدف إلى مساعدة الطلبة المتفوقين من الذكور والإناث غير القادرين على مواصلة دراساتهم الجامعية والعليا في داخل البحرين وخارجها. وقد استفاد من هذا الوقف منذ إنشائه حتى الآن أكثر من 400 طالب.
التجربة الثانية: وقف خليفة بن سلمان، وكان بدايته في عام 2021م، وما يميز هذا الوقف هو التنوع في أنشطته الخيرية التي تشمل احتياجات المجتمع البحريني من الخدمات، وتسهم في تنميته.
بالنظر إلى هذه التجارب، فإننا نرى أنها نجحت في تنويع الوقف وتعدد مجالاته، وقد حققت أهدافاً تنموية انعكست ايجاباً على المجتمع البحريني.
ثالثاً: دراسة التجارب الخليجية والاستفادة منها:
تُعد تجربة الكويت من التجارب الناجحة والرائدة في الأعمال الوقفية؛ نتيجة تميزها بتنويع أنشطتها الوقفية التي تلامس حاجات المجتمع الكويتي، وتسهم في تنمية المجتمع حضارياً وثقافياً واجتماعياً فضلا عن دورها المتميز في تقديم المساعدات الاغاثية في خارج الكويت. مثل هذه التجربة جديرة بالاطلاع عليها، والاستفادة في تطوير المشاريع الوقفية التي تسهم في النهوض بالمجتمع.
إن المبادرة في تنويع الوقف وتعدد مصارفه، باتت حاجة ضرورية وليست ترفاً، والكرة الآن في ملعب مجلس الأوقاف ليأخذ على عاتقه الانطلاق نحو استراتيجية جديدة للوقف تنقله من الصورة التقليدية إلى الصورة الابتكارية التي تصب في فائدة تنمية المجتمع وتطويره.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك