أحيا الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، المحادثات حول البرنامج النووي الإيراني، بعد مرور عشر سنوات على التوصل إلى الاتفاق النووي، الذي تفاوضت عليه إدارة الرئيس السابق باراك أوباما؛ بهدف تقليص حجم ونطاق برنامج طهران النووي. وكان ترامب، قد انسحب في وقت سابق من هذا الاتفاق، متبنّيًا سياسة الضغط الأقصى، التي استهدفت إيران بعقوبات اقتصادية صارمة وعزلة سياسية دولية.
وحتى الآن، انعقدت ثلاث جولات من المحادثات بين المسؤولين الأمريكيين والإيرانيين بوساطة سلطنة عُمان. ورغم ما اكتنف المباحثات من سرية، فقد أوضح كينيث كاتزمان، من مركز صوفان، بأن هذه الاجتماعات قد حققت اتفاقًا كافيًا؛ يمهد السبيل إلى مناقشة التفاصيل الفنية، لاتفاق جديد من شأنه الحد من تخصيب إيران لليورانيوم.
ونظرًا إلى أن إدارة ترامب، الأولى كانت هي من انسحبت بشكل مفاجئ من خطة العمل الشاملة المشتركة -في خطوة وصفها المعلقون الغربيون بأنها خطأ استراتيجي، وخاصة أن طهران صعّدت بعدها من أنشطتها النووية- فقد أشار لوك برودووتر، وديفيد سانجر، في صحيفة نيويورك تايمز، إلى أن أي اتفاق جديد ينبغي أن يحظى بدعم محلي أوسع لتمريره عبر الكونجرس، على أن يتجاوز في قبوله ما حصل عليه اتفاق أوباما، مع ضرورة معالجة الأسئلة العالقة بشأن نيَّات إيران الحقيقية وقدراتها الإقليمية المتنامية.
وبشكل واضح، ينقسم المراقبون الغربيون بين مؤيد ومعارض لاستئناف هذه المفاوضات. وبينما يشير المؤيدون إلى أنها أفضل طريقة لجعل طهران توافق على الحد من برنامج التخصيب، وتجنب احتمال نشوب صراع مدمر على مستوى المنطقة؛ فقد رفض الفريق الآخر أي مفاوضات، وحث البيت الأبيض على السماح بهجوم عسكري؛ قبل تملك إيران، رادعها النووي الخاص. وفي ضوء انتقاد إسرائيل لأي دبلوماسية أمريكية مع طهران، وشن هجماتها الخاصة على منشآتها النووية؛ فلا عجب أن تكون المؤسسات المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بجماعات الضغط المؤيدة لها في واشنطن هي أشد المعارضين لهذه المحادثات.
من جانبه، طرح ستيفن كوك، من مجلس العلاقات الخارجية، فرضية ما إذا كان عدم اتخاذ أي إجراء ناجع بالمفاوضات قد يبدو النهج الأفضل، في ضوء بعض الرؤى الغربية تجاه هذه القضية -والتي تنظر إلى الانهيار النهائي للنظام الإيراني نفسه باعتباره هدفاً رئيسياً لن يحل مشكلة البرنامج النووي فحسب، بل سينهي أيضا تقويضه للأمن والاستقرار الإقليميين في الشرق الأوسط- وهو ما يصب في مصلحة الولايات المتحدة وإسرائيل.
ومن بين الداعمين بشدة لاستئناف المفاوضات النووية، داريا دولزيكوفا، من المعهد الملكي للخدمات المتحدة، والتي رأتها تحمل تطورا إيجابيا، وتقدم بديلاً عن الديناميكيات التصعيدية، التي أثارها مسؤولون من الولايات المتحدة وإسرائيل وإيران على مدى أشهر. وإلى جانب تأكيد كاتزمان، أن هذه العملية الجارية ستكون بلا شك معقدة ومتقلبة، أشارت دولزيكوفا، إلى أن معالجة المخاوف الرئيسية بشأن البرنامج النووي الإيراني تقتضي الحصول على تنازلات من طهران لم تكن مستعدة لتقديمها في محاولات سابقة للدبلوماسية النووية، ولهذا السبب؛ حثت واشنطن، على وضع توقعات معقولة، بشأن الحوافز والضغوط التي ستستخدمها.
ويرى العديد من المراقبين الغربيين أن الحفاظ على توقعات واقعية بشأن أي اتفاق نووي جديد، يتطلب أن يتجاوز مجرد كبح البرنامج النووي، ليشمل أيضًا معالجة قضايا محورية أخرى، مثل برنامج إيران للصواريخ الباليستية، ودعمها المستمر لوكلائها الإقليميين في مختلف أنحاء الشرق الأوسط، وهي ملفات تعتبرها العديد من الدول الغربية ضرورية لضمان استقرار طويل الأمد في المنطقة. ورأى ماثيو ليفيت، من معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، أن إنهاء برنامج الأسلحة النووية، ليس كافيًا، وأنه حال استمرت المفاوضات على مسارها الحالي؛ فمن المؤكد أنها ستفشل أو تُسفر عن اتفاق دون المستوى المطلوب.
كما أن مسألة تخفيف العقوبات التي قد يقدمها البيت الأبيض، لإيران هي أيضًا مسألة وصفها كاتزمان، بأنها مستعصية، موضحًا أنه من المشكوك فيه موافقة واشنطن، على مطالب طهران بـحماية استخدامها للنظام المصرفي الأمريكي. ونظرًا لقوة الدعم من الحزبين في الكونجرس، لإصدار عقوبات جديدة ضدها؛ فمن الصعب رؤية كيف ستتمكن إدارة ترامب، من تهدئة الانتقادات العديدة التي وجهها الجمهوريون الذين سبق وعارضوا بشدة اتفاق أوباما في 2015.
علاوة على ذلك، فإن الغموض الذي يكتنف مواقف ترامب، وكبار مسؤولي سياسته الخارجية، لا يسهم في تحقيق تقدم على صعيد الملف الإيراني. وأشارت دولزيكوفا، إلى أن واشنطن لم تكن واضحة بشأن ما تأمل تحقيقه من إيران، خلال هذه المفاوضات. بينما أوضح كاتزمان، أن أي اتفاق جديد يجب أن يتجاوز خطة العمل الشاملة المشتركة، من حيث الحد من القدرات النووية الإيرانية. وفي هذا السياق، دعا مستشار الأمن القومي مايك والتز، إلى تفكيك كامل لبرنامجها النووي في حين طرح وزير الخارجية ماركو روبيو، مقترحًا مفاده أن تتوقف طهران عن تخصيب اليورانيوم محليًا، وتستورد المواد من دول أخرى، وهو ما رفضه المفاوضون الإيرانيون صراحة.
ومع إشارة كاتزمان، إلى أن تسوية العديد من النقاط الغامضة قد تستغرق عدة أشهر؛ يرى العديد من المعلقين أن الولايات المتحدة وإسرائيل، لا تملكان رفاهية الانتظار، وخاصة مع اقتراب إيران، من امتلاك رادع نووي خاص بها. وعلى سبيل المثال، اعتبرت أندريا ستريكر، من مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات -التي تؤيد حرب إسرائيل على غزة- أن هناك خطرًا حقيقيًا، يتمثل في أن يُدفع ترامب للتفاوض على اتفاق مؤقت، يُبقي لإيران القدرة على تجاوز العتبة النووية، مع جدول زمني قصير لإنتاج القنبلة.
وقد زاد الوضع تعقيدًا مع استئناف المحادثات، حيث وصفت دانييل بليتكا، من معهد أميركان إنتربرايز، هذه المرحلة بـالبداية المهينة، مشيرة إلى أن طهران لا تكاد تصدق الجائزة الكبرى التي حصدتها، في إشارة إلى تعيين ويتكوف، الذي قالت إن معرفته بإيران بالكاد تفوق معرفته بانتشار الأسلحة النووية، والتي وصفتها بأنها معدومة تمامًا.
وبالتزامن مع هذا المشهد، تصاعدت الدعوات في الأوساط السياسية والإعلامية الأمريكية لتوجيه ضربات عسكرية ضد إيران بالتعاون مع إسرائيل. واعتبر دانيال شابيرو، من المجلس الأطلسي، أن الوقت الحالي قد يكون الأنسب منذ عقود لتنفيذ هجوم ضدها، مشيرًا إلى أن مثل هذا الخيار أكثر واقعية الآن من أي وقت مضى. وعلى الرغم من أن ترامب، منع هجومًا إسرائيليًا كان مقررًا في مايو 2025؛ إلا أن تأثير الحكومة الإسرائيلية على السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط لا يزال كبيرًا، وهو ما يتجلى في حملة القصف الجوية الأمريكية التي استمرت ستة أسابيع على اليمن، والتي تفاخر الجيش الأمريكي خلالها بضرب أكثر من 800 هدف.
وفي سعيهم لتبرير الضربة العسكرية، قلل العديد من المعلقين الغربيين من المخاطر الأمنية التي قد تترتب على ذلك في أنحاء المنطقة، مما يُبرز مدى أولوية المصالح الإسرائيلية على حساب بقية دول الشرق الأوسط. وأشار شابيرو، إلى أن أي هجوم أمريكي إسرائيلي يحمل مخاطر على شركاء واشنطن الإقليميين، خصوصًا دول الخليج، واعترف بإمكانية رد إيران، من خلال استهداف القوات الأمريكية المتمركزة في المنطقة. ومع ذلك، أوصى بأن يتجاوز الهجوم حدود المنشآت النووية الإيرانية ليشمل أنظمة الصواريخ الباليستية والدفاعات الجوية؛ ما يعني الانخراط في حرب شاملة بين الولايات المتحدة وإسرائيل من جهة، وإيران من جهة أخرى، وهو ما قد يُفضي إلى عواقب وخيمة.
في هذا السياق، حاول البعض طرح مقاربات أقل تصعيدًا. وسلط كوك، الضوء على سلبيات الخيارين المتنازع عليهما –سواء التفاوض أو الضربة العسكرية– معتبرًا أن كليهما قد يمنح إيران شريان حياة، يُعزز من بقائها. ومن هنا، اقترح أن الخيار الأفضل للولايات المتحدة هو الاستمرار فيما كانت تقوم به أصلًا، من خلال فرض المزيد من العقوبات الاقتصادية والسياسية عليها.
ورغم أن هذا النهج لا يوقف تقدم البرنامج النووي الإيراني؛ إلا أن هدف كوك، يتمثل في خلق أفضل فرصة لانهيار النظام من الداخل، وبالتالي عودة السياسة الأمريكية إلى تركيزها الأساسي، وهو السعي لإسقاط الحكومة الإيرانية وعرقلة الثورة التي بدأت عام 1979.
وتنعكس حالة الانقسام داخل الرأي العام الأمريكي، بشأن كيفية التعامل مع الملف النووي الإيراني في مواقف ترامب نفسه؛ إذ أعلن من جهة تفاؤله بقدرته على إبرام صفقة مع إيران، مدعيًا أن لا أحد غيره يستطيع تحقيق ذلك، ومن جهة أخرى، هدّد مرارًا باستخدام القوة العسكرية، إذا لم تستجب لشروط جديدة، وكان آخر تصريح له لـمجلة تايم، قد أكد أن الخيار العسكري لا يزال مطروحًا لأن إيران لن تمتلك سلاحًا نوويًا.
وفي ظل هذا الوضع، من المتوقع أن تستمر التحليلات الغربية في تناول المفاوضات الجارية بتوقعات متباينة ومطالب متناقضة. فبينما ترى دولزيكوفا، أن أي مطلب أمريكي بتفكيك البرنامج النووي الإيراني بالكامل وبشكل دائم، لا يمكن أخذه على محمل الجد؛ فقد عبّرت بليتكا، عن استيائها من أن ترامب، يبدو في طريقه لـتنفيذ نسخة منقوصة من اتفاق أوباما مع إيران. في حين شدد شابيرو، على ضرورة أن تكون واشنطن مستعدة لتنفيذ تهديداتها، بضرب المنشآت الإيرانية، ولكن بوعي كامل بالمخاطر التكتيكية والاستراتيجية الكاملة التي ينطوي عليها هذا المسار.
على العموم، في ظل حكومة بنيامين نتنياهو المتطرفة في إسرائيل، وبدعم من جماعات الضغط والمؤسسات المؤيدة لها ذات النفوذ الكبير في دوائر صنع القرار داخل إدارة ترامب؛ برز احتمال تنفيذ هجمات واسعة النطاق ضد إيران كخطر حقيقي. وقد تكون أي عقبة أو فشل في المفاوضات الحالية هي الشرارة التي تدفع البيت الأبيض إلى التصعيد العسكري، وتوسيع رقعة الدمار في الشرق الأوسط، بما يحمله من تداعيات جسيمة على المنطقة بأسرها.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك