الثامن من أبريل 2025 كان يوماً صعبا على كوكبنا، وكان يوماً كارثياً على الكرة الأرضية برمتها وعلى شعوب العالم أجمع. فقد وقَّع الرئيس الامريكي ترامب على أربعة أوامر تنفيذية قاسية أرجع فيها وقود الفحم المعروف بشدة تلويثه للهواء الجوي، والمتهم الرئيسي في وقوع قضية العصر، التغير المناخي، وتداعياتها المهلكة للأرض ومن عليها، إلى سابق عهده الغابر الذي أكل عليه الدهر وشرب وتجاوزه الزمن، فمكنَّه مرة ثانية ليكون المصدر الرئيس للوقود الأحفوري لتوليد الكهرباء في كل أنحاء الولايات المتحدة، إضافة إلى تشغيل المصانع بجميع أنواعها.
فقد هدفت هذه الأوامر التنفيذية الخارجة عن الاجماع الدولي إلى تعميق وتعزيز وتسريع استخراج، وإنتاج، واستخدام الفحم كعنصر أساسي في حماية الأمن القومي الأمريكي، وازدهار الاقتصاد الوطني، وتلبية الطلب المتزايد على الكهرباء من الشعب الأمريكي عامة، ومن مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي خاصة.
وهذه الأوامر المخالفة لقرارات الأمم المتحدة ستُطلق كلياً سراح الفحم، وتفتح أمامه الباب على مصراعيه، فلا قيود، ولا رقابة، ولا أنظمة بيئية، ولا تشريعات تعيق وتعرقل استخراجه واستخدامه. كما تضمنت الأوامر إهداء محطات توليد الكهرباء رخصة مجانية رسمية تتمثل في الإعفاء مدة سنتين من تلويث البيئة، وعدم الممانعة قانونياً من إفساد صحة الهواء الجوي، وبالتحديد بالنسبة إلى الزئبق المعروف بسميته القاتلة، والزرنيخ والبنزين وملوثات أخرى تسبب السرطان للإنسان. فلا مانع في عهد ترامب من تلويث وتدمير البيئة، وتعريض حياة الشعوب للأمراض المزمنة المستعصية، ولا ضير عند ترامب في قتل الناس قتلاً بطيئاً، وكأننا مازلنا في عصر التأخر والرجعية البيئية، في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، عندما كانت المصانع تُفسد البيئة بانبعاثاتها الغازية ومخلفاتها السائلة والصلبة، وكانت الحكومات في الوقت نفسه تغض الطرف عنها وتتجاهل ممارسات المصانع الرجعية. فأمريكا بمثل هذه الممارسات القديمة تقع ضمن الدول النامية المتأخرة بيئياً، والتي تنقصها التشريعات والأنظمة البيئية المقيدة لتلوث البيئة، فيمكن تصنيفها كدولة من دول العالم الثالث التي مازالت تحبو في سن وتنفيذ التشريعات والأنظمة البيئية التي تحمي صحة الإنسان وسلامة مكونات البيئة.
وعلاوة على ذلك، فالولايات المتحدة المتقدمة والمتطورة والمتحضرة في جميع المجالات والقطاعات التنموية والتي من المفروض أن تقود العالم في تشريعاتها وممارساتها، أصبحت اليوم في مؤخرة الركب مثل دول العالم الثالث المتأخرة، وفي آخر الصف بالنسبة إلى الهموم البيئية وموقعها ضمن أولويات الحكومة.
فمنذ اليوم الأول من دخول ترامب إلى البيت الأبيض، أعلن انسحابه من الإجماع الدولي في قضية التغير المناخي، وبالتحديد من تفاهمات باريس لعام 2014، وهو ما يعني أنه ضرب بعرض الحائط جهود دول العالم الماراثونية والمضنية التي استمرت أكثر من 33 عاماً بهدف التخلص تدريجياً من جميع مسببات ومصادر وقوع ظاهرة التغير المناخي التي رفعت حرارة وسخونة كوكبنا، وفي مقدمة هذه الأسباب حرق كافة أنواع الوقود الأحفوري، وخاصة الفحم الأشد وطأة والأكثر تنكيلاً بالهواء الجوي ونزول التغير المناخي على الأرض. فترامب اليوم أعاد الفحم إلى الحياة مرة ثانية، ونفخ فيه الروح بعد أن كاد يأفل نجمه ويلقى مصيره في الثرى، كما ألغى جميع المنح التي كانت تعطى لأبحاث التغير المناخي، إضافة إلى إلغاء الإدارات والبرامج التي تهدف إلى مواجهة تداعيات التغير المناخي. فعلى سبيل المثال، ألغى ترامب التعاقد مع «برنامج الولايات المتحدة حول أبحاث التغيرات الدولية»، والذي كان يقدم تقارير دورية للكونجرس عن التغير المناخي. وكل هذا يؤكد أن ترامب رجع إلى الوراء عقوداً طويلة من الزمن، فتحولت أمريكا إلى دولة متأخرة ورجعية من الناحية البيئية.
وعلاوة على التأخر البيئي، فقد أكدت أمريكا تأخرها أيضاً كغيرها من الدول النامية في جانب الحقوق المدنية والحريات العامة، حيث فرضت إجراءات تؤدي إلى تسييس حرية الرأي والتعبير، وأكدت عدوانيتها الشرسة لكل فكر، أو رأي، أو موقف مخالف لسياسة ترامب. وقد أظهرت تأخرها في التسامح مع الآراء الأخرى، وعدم تعايشها وتحملها للأفكار المختلفة من عدة طرق.
الأول الضغط العلني الشديد على الجامعات الأمريكية المرموقة لكبح جماح كل متظاهر، أو محتج على الإبادة الجماعية الشاملة للشعب الفلسطيني بحجة معاداة السامية والصهيونية. فعلى سبيل المثال، قررت قاضية أمريكية في 12 أبريل إمكانية طرد الناشط الأمريكي محمود خليل لآرائه المختلفة حول القضية الفلسطينية، واتهم ترامب هذا الشاب البسيط بأنه يشكل تهديداً للأمن القومي لأعظم وأقوى دولة على وجه الأرض وللسياسة الخارجية الأمريكية! وفي حالة رفض الجامعة تغيير سياساتها فستتوقف عنها جميع المنح والمساعدات المالية الاتحادية التي يقدمها البيت الأبيض. كما ألزمت الجامعات تغيير سياساتها وقوانينها لتتوافق مع رؤى وسياسات ترامب.
والثاني فهو أسلوب القمع المتبع في بعض دول العالم الثالث المتأخرة بالنسبة الى كل من يحتج ويبدي رأيا وموقفاً مخالفاً للحكومة الأمريكية، حتى لو كان أمريكياً مقيماً، من خلال الاعتقال والمحاكمة والطرد من الولايات المتحدة. كذلك فإن ديمقراطية الولايات المتحدة في خطر، كبعض الدول النامية الدكتاتورية التي يحكمها إلى الأبد مستبد، حيث إن ترامب صرح في عدة مناسبات بأنه يعتزم تغيير الدستور الأمريكي، كما فعلت بعض الدول النامية، ليفسح لنفسه المجال، ويفتح أمامه الباب لولاية ثالثة.
كذلك من الجانب المالي، فإن أمريكا تعتبر من أكثر دول العالم التي تعاني من ثقل الديون والعبء المالي الذي تحمله على ظهرها سنة بعد سنة، حتى أن ديونها في عام 2024 قُدرت بنحو 36.2 تريليون دولار، ولكن أمريكا بقوتها العسكرية العظيمة التي تطول أي دولة مهما كانت بعيدة عنها، وبامتلاكها الآلاف من أسلحة الدمار الشامل، فهي تهدد كل دول العالم بالدمار الشامل إذا لم تسمع لها وترضخ لشروطها ومواقفها السياسية والمالية. فهي بصفة خاصة تبتز دول العالم الضعيفة عسكرياً والفقيرة من ناحية النفوذ الدولي، فتنهب ثرواتها وخيراتها علانية ومن دون أي خجل، أو تردد، أو دبلوماسية متحضرة. فتسرق موارد الدول الاقتصادية تحت مسميات متعددة، وبطريقة مباشرة أو غير مباشرة، إما عن طريق القوة الناعمة من خلال الترحيب باستثمار الدول الغنية في أمريكا بمبالغ تصل إلى تريليونات الدولارات، وإما عن طريق نهب الثروات بشكل مباشر، كما يحصل الآن في أوكرانيا، أو بالقوة والاحتلال العسكري والضغط الاقتصادي، كما هي النية اليوم بالنسبة الى جزيرة جرينلاند التي تنعم بموقع استراتيجي وتزدهر بخيرات الأرض كالنفط، والمعادن النادرة والثمينة، إضافة إلى كندا، وبنما، وغيرها.
فسلوك الولايات المتحدة الأمريكية وتصرفاتها المستبدة، وممارساتها غير الدبلوماسية وغير المتحضرة والخالية من الأعراف الدولية في الكثير من القضايا الدولية المشتركة من الناحية البيئية، والحقوق المدنية، والمالية، والسياسية، كلها تشير إلى أنها قد نزلت إلى الحضيض وإلى مستوى بعض دول العالم الثالث المتأخرة والرجعية.
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك