العدد : ١٧٢٠٥ - الخميس ٠١ مايو ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٣ ذو القعدة ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٢٠٥ - الخميس ٠١ مايو ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٣ ذو القعدة ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

حين يصبح القانون بوصلة السلوك.. يزدهر المجتمع

بقلم: نبيلة رجب

الأربعاء ٣٠ أبريل ٢٠٢٥ - 02:00

في‭ ‬شارع‭ ‬جانبي‭ ‬من‭ ‬شوارعنا،‭ ‬توقفت‭ ‬سيارة‭ ‬فجأة‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬الطريق،‭ ‬ترجل‭ ‬منها‭ ‬السائق‭ ‬ليزيح‭ ‬جذع‭ ‬شجرة‭ ‬صغير‭ ‬سقط‭ ‬بسبب‭ ‬الرياح‭ ‬وكان‭ ‬يعيق‭ ‬مرور‭ ‬السيارات‭. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ينتظر‭ ‬شكرا‭ ‬من‭ ‬أحد،‭ ‬فقط‭ ‬تصرف‭ ‬كما‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬الواجب‭ ‬يقتضي‭. ‬مشهد‭ ‬بسيط،‭ ‬لكنه‭ ‬يحمل‭ ‬دلالة‭ ‬عميقة‭: ‬حين‭ ‬تتجذر‭ ‬القيم‭ ‬في‭ ‬سلوك‭ ‬الأفراد،‭ ‬يصبح‭ ‬النظام‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية،‭ ‬ويزدهر‭ ‬المجتمع‭.‬

منذ‭ ‬أن‭ ‬شرع‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬الحضارات،‭ ‬نشأت‭ ‬القوانين‭ ‬لا‭ ‬كقيد،‭ ‬بل‭ ‬كبوصلة‭ ‬تحفظ‭ ‬التوازن‭ ‬بين‭ ‬الحقوق‭ ‬والواجبات،‭ ‬وتضمن‭ ‬أن‭ ‬يسير‭ ‬الجميع‭ ‬في‭ ‬درب‭ ‬العدالة،‭ ‬حيث‭ ‬يحصل‭ ‬كل‭ ‬فرد‭ ‬على‭ ‬حقوقه‭ ‬ويلتزم‭ ‬بواجباته‭. ‬عندما‭ ‬يصبح‭ ‬احترام‭ ‬القانون‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬الوعي‭ ‬الجمعي،‭ ‬لا‭ ‬يعود‭ ‬الامتثال‭ ‬له‭ ‬فعلا‭ ‬مفروضا،‭ ‬بل‭ ‬يتحول‭ ‬إلى‭ ‬نهج‭ ‬حياة‭ ‬يعزز‭ ‬الأمن،‭ ‬ويصنع‭ ‬مجتمعات‭ ‬أكثر‭ ‬تطورًا‭ ‬وتماسكا‭.‬

القوانين‭ ‬لا‭ ‬تقف‭ ‬عند‭ ‬بوابات‭ ‬المحاكم،‭ ‬بل‭ ‬تتجلى‭ ‬في‭ ‬تفاصيل‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية‭. ‬احترام‭ ‬إشارات‭ ‬المرور،‭ ‬الاصطفاف‭ ‬الصحيح،‭ ‬الالتزام‭ ‬بالنظام‭ ‬في‭ ‬الطوابير،‭ ‬والحفاظ‭ ‬على‭ ‬الممتلكات‭ ‬العامة،‭ ‬جميعها‭ ‬سلوكيات‭ ‬تعكس‭ ‬عمق‭ ‬إدراك‭ ‬المجتمع‭ ‬لأهمية‭ ‬القانون‭. ‬ففي‭ ‬بعض‭ ‬المجتمعات،‭ ‬تغدو‭ ‬هذه‭ ‬التصرفات‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬الروتين‭ ‬اليومي،‭ ‬بينما‭ ‬قد‭ ‬تواجهها‭ ‬مجتمعات‭ ‬أخرى‭ ‬بعوائق‭ ‬ثقافية‭ ‬أو‭ ‬اجتماعية‭ ‬تجعل‭ ‬تطبيق‭ ‬القانون‭ ‬أكثر‭ ‬صعوبة‭.‬

إن‭ ‬احترام‭ ‬القانون‭ ‬لا‭ ‬يرتبط‭ ‬بالخوف‭ ‬من‭ ‬العقوبة،‭ ‬بل‭ ‬يعكس‭ ‬مستوى‭ ‬الوعي‭ ‬وتحمل‭ ‬المسؤولية‭. ‬حين‭ ‬يلتزم‭ ‬الإنسان‭ ‬بالنظام‭ ‬في‭ ‬غياب‭ ‬الرقابة،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬سلوكياته‭ ‬اليومية‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬أداء‭ ‬واجباته‭ ‬الوظيفية،‭ ‬فإنه‭ ‬يرسخ‭ ‬مفهوما‭ ‬جوهريا‭: ‬أن‭ ‬القوانين‭ ‬ليست‭ ‬أدوات‭ ‬للردع،‭ ‬بل‭ ‬ضمانات‭ ‬لحماية‭ ‬الجميع‭.‬

‭ ‬في‭ ‬المقابل،‭ ‬فإن‭ ‬التراخي‭ ‬في‭ ‬تطبيق‭ ‬القوانين‭ ‬يخلق‭ ‬بيئة‭ ‬هشة،‭ ‬تُقوض‭ ‬الثقة‭ ‬بين‭ ‬الأفراد‭ ‬والمؤسسات،‭ ‬وتفتح‭ ‬المجال‭ ‬للفوضى‭. ‬تجاهل‭ ‬قواعد‭ ‬السلامة،‭ ‬مثلا،‭ ‬لا‭ ‬يعرقل‭ ‬الخدمات‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬قد‭ ‬يقود‭ ‬إلى‭ ‬نتائج‭ ‬مأساوية‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬تفاديها،‭ ‬ويضعف‭ ‬الإحساس‭ ‬الجمعي‭ ‬بالعدالة‭ ‬والإنصاف‭.‬

يروي‭ ‬أحد‭ ‬الأصدقاء‭ ‬موقفا‭ ‬واجهه‭ ‬حين‭ ‬قرر‭ ‬أحد‭ ‬جيرانه‭ ‬تحويل‭ ‬فناء‭ ‬منزله‭ ‬إلى‭ ‬مزرعة‭ ‬دواجن،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬مراعاة‭ ‬لما‭ ‬قد‭ ‬يسببه‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬إزعاج‭ ‬للجيران‭. ‬ورغم‭ ‬محاولات‭ ‬التفاهم‭ ‬الودية،‭ ‬لم‭ ‬يُبدِ‭ ‬الجار‭ ‬أي‭ ‬تجاوب،‭ ‬ما‭ ‬اضطرهم‭ ‬إلى‭ ‬اللجوء‭ ‬إلى‭ ‬الجهات‭ ‬المعنية‭ ‬التي‭ ‬باشرت‭ ‬بدورها‭ ‬متابعة‭ ‬الموضوع،‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬الإجراءات‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬جارية‭. ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬المواقف‭ ‬تبرز‭ ‬أهمية‭ ‬وجود‭ ‬آليات‭ ‬واضحة‭ ‬وفعالة‭ ‬لتطبيق‭ ‬القوانين،‭ ‬بما‭ ‬يضمن‭ ‬حماية‭ ‬خصوصية‭ ‬الأفراد‭ ‬وراحتهم‭. ‬فالقانون‭ ‬ليس‭ ‬حكرا‭ ‬على‭ ‬الجرائم‭ ‬الكبرى،‭ ‬بل‭ ‬يشمل‭ ‬أيضا‭ ‬تفاصيل‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية‭ ‬التي‭ ‬تشكل‭ ‬في‭ ‬مجملها‭ ‬أساس‭ ‬الاستقرار‭ ‬الاجتماعي‭ ‬وجودة‭ ‬العيش‭.‬

في‭ ‬مجتمعات‭ ‬متقدمة‭ ‬مثل‭ ‬سنغافورة،‭ ‬أصبح‭ ‬احترام‭ ‬القوانين‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬الهوية‭ ‬الوطنية‭. ‬لا‭ ‬يعود‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬صرامة‭ ‬النظام‭ ‬وحده،‭ ‬بل‭ ‬إلى‭ ‬ترسيخ‭ ‬القناعة‭ ‬بأن‭ ‬القانون‭ ‬يحمي‭ ‬الجميع‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬استثناء‭. ‬ووفقا‭ ‬لتقرير‭ ‬التنافسية‭ ‬العالمية‭ ‬لعام‭ ‬2023،‭ ‬احتلت‭ ‬سنغافورة‭ ‬المرتبة‭ ‬الأولى‭ ‬عالميا‭ ‬في‭ ‬جودة‭ ‬المؤسسات‭ ‬والامتثال‭ ‬للتشريعات،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يعكس‭ ‬بيئة‭ ‬مستقرة‭ ‬تتيح‭ ‬للإبداع‭ ‬والنمو‭ ‬أن‭ ‬يزدهرا‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تهدد‭ ‬بالفوضى‭ ‬أو‭ ‬الظلم‭.‬

القوانين‭ ‬وحدها‭ ‬لا‭ ‬تكفي،‭ ‬بل‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬بيئة‭ ‬تنشر‭ ‬الوعي‭ ‬بها،‭ ‬وتقنع‭ ‬الناس‭ ‬بأن‭ ‬الامتثال‭ ‬ليس‭ ‬إذعانا‭ ‬بل‭ ‬شراكة‭. ‬التعليم‭ ‬هو‭ ‬الخطوة‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الطريق،‭ ‬حين‭ ‬تشرح‭ ‬المناهج‭ ‬الحقوق‭ ‬والواجبات‭ ‬لا‭ ‬نظريا‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬أنشطة‭ ‬وسلوكيات‭ ‬يومية‭. ‬كما‭ ‬يلعب‭ ‬الإعلام‭ ‬دورًا‭ ‬محوريا،‭ ‬حين‭ ‬يقدّم‭ ‬محتوى‭ ‬يبرز‭ ‬قيمة‭ ‬النظام‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬العامة‭. ‬حتى‭ ‬الفنون،‭ ‬حين‭ ‬تطرح‭ ‬قصصا‭ ‬واقعية‭ ‬عن‭ ‬العدالة‭ ‬والحقوق،‭ ‬يمكنها‭ ‬أن‭ ‬تغرس‭ ‬احترام‭ ‬القانون‭ ‬في‭ ‬الوجدان‭ ‬العام‭.‬

ولعل‭ ‬الأهم‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬هو‭ ‬البعد‭ ‬النفسي‭: ‬الإنسان‭ ‬الذي‭ ‬يشعر‭ ‬أن‭ ‬القانون‭ ‬يحميه،‭ ‬يعيش‭ ‬بهدوء‭ ‬داخلي،‭ ‬ويقل‭ ‬توتره‭ ‬في‭ ‬تعامله‭ ‬مع‭ ‬الآخرين‭. ‬احترام‭ ‬القانون‭ ‬يولّد‭ ‬شعورًا‭ ‬بالكرامة،‭ ‬ويمنح‭ ‬الفرد‭ ‬الطمأنينة‭ ‬بأن‭ ‬حقوقه‭ ‬لن‭ ‬تهدر‭ ‬وأنه‭ ‬لا‭ ‬يعيش‭ ‬في‭ ‬غابة‭ ‬تحكمها‭ ‬القوة،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬يحكمه‭ ‬ميزان‭ ‬العدالة‭. ‬وكما‭ ‬قال‭ ‬طاغور‭: ‬‮«‬حين‭ ‬يكون‭ ‬القانون‭ ‬مستقرًا‭ ‬في‭ ‬القلب،‭ ‬لا‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬شرطة‭ ‬على‭ ‬الأبواب‮»‬‭. ‬تلك‭ ‬هي‭ ‬الفكرة‭ ‬الجوهرية‭ ‬التي‭ ‬يُبنى‭ ‬عليها‭ ‬الاستقرار‭ ‬الحقيقي‭: ‬أن‭ ‬يتحول‭ ‬القانون‭ ‬من‭ ‬سلطة‭ ‬خارجية‭ ‬إلى‭ ‬وعي‭ ‬داخلي،‭ ‬ومن‭ ‬التزام‭ ‬مفروض‭ ‬إلى‭ ‬قناعة‭ ‬يعيشها‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬تفاصيل‭ ‬حياته‭ ‬اليومية‭.‬

في‭ ‬البحرين،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬سائر‭ ‬المجتمعات‭ ‬الطامحة‭ ‬إلى‭ ‬التقدم،‭ ‬تمثل‭ ‬القوانين‭ ‬ركيزة‭ ‬أساسية‭ ‬لتحقيق‭ ‬العدالة‭ ‬والاستقرار‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬فاعلية‭ ‬أي‭ ‬منظومة‭ ‬قانونية‭ ‬لا‭ ‬تقاس‭ ‬بوجود‭ ‬التشريعات‭ ‬وحدها،‭ ‬بل‭ ‬بمدى‭ ‬حضورها‭ ‬في‭ ‬سلوك‭ ‬الأفراد‭ ‬وممارساتهم‭ ‬اليومية‭. ‬وعندما‭ ‬يتحول‭ ‬القانون‭ ‬من‭ ‬نصوص‭ ‬تحفظ‭ ‬إلى‭ ‬قيم‭ ‬تمارس،‭ ‬فإنه‭ ‬يصبح‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬الهوية‭ ‬الوطنية‭. ‬والمجتمع‭ ‬الذي‭ ‬يغرس‭ ‬في‭ ‬أبنائه‭ ‬احترام‭ ‬النظام،‭ ‬هو‭ ‬ذاته‭ ‬الذي‭ ‬يحتضن‭ ‬الإبداع،‭ ‬ويرسّخ‭ ‬العدالة،‭ ‬ويعزز‭ ‬فرص‭ ‬النمو‭ ‬والتكافؤ‭ ‬للجميع‭.‬

نحن‭ ‬اليوم‭ ‬نشهد‭ ‬في‭ ‬البحرين‭ ‬تناميا‭ ‬ملموسا‭ ‬في‭ ‬الوعي‭ ‬المجتمعي‭ ‬بأهمية‭ ‬القانون،‭ ‬مدعوما‭ ‬بمبادرات‭ ‬توعوية‭ ‬وخطوات‭ ‬إصلاحية‭ ‬واضحة‭. ‬ومع‭ ‬كل‭ ‬تقدم‭ ‬نحرزه،‭ ‬نقترب‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬نموذج‭ ‬مجتمعي‭ ‬يجعل‭ ‬احترام‭ ‬النظام‭ ‬سلوكا‭ ‬متأصلا،‭ ‬لا‭ ‬تفرضه‭ ‬القوانين‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬تعبّر‭ ‬عنه‭ ‬القناعات‭. ‬فعندما‭ ‬تصاغ‭ ‬العدالة‭ ‬في‭ ‬السلوك‭ ‬اليومي،‭ ‬يزداد‭ ‬الشعور‭ ‬باننا‭ ‬أكثر‭ ‬تقدما‭ ‬نحو‭ ‬مستقبل‭ ‬أكثر‭ ‬إنسانية‭ ‬واستقرارًا‭.‬

rajabnabeela@gmail‭.‬com

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا