رغم أن العديد من الجيوش استخدمت الطائرات المسيّرة منذ عقود؛ فإن العِقد الأخير شهد تصاعدًا لافتًا في الاعتماد على مسيّرات صغيرة وبسيطة وسريعة، تتميز بانخفاض كلفتها وارتفاع فعاليتها، لتصبح عنصرًا حاسمًا في ساحات الصراع حول العالم، بما في ذلك منطقة الشرق الأوسط.
وفي حين أن التوسع السريع في السوق التجارية العالمية للمسيرات يعني ازدياد قيمتها الآن بأكثر من 30 مليار دولار، ومن المتوقع أن تنمو بمعدل سنوي يزيد على 10% حتى نهاية العِقد الحالي، فإن قطاع المسيرات العسكرية يُقدر بالفعل بحوالي 17 مليار دولار، ويتوسع بمعدل يقارب 8%، حيث توجد كبرى الشركات المصنعة في أمريكا الشمالية، وأوروبا، وآسيا، والشرق الأوسط، وتُنتج فئة متنوعة من المسيرات تتراوح بين «بعيدة المدى»، التي يتكلف بناؤها وتشغيلها مئات الملايين من الدولارات، و«قصيرة المدى»، التي لا تتجاوز كلفتها بضع مئات من الدولارات.
وفي الوقت الحالي، أصبح استخدام هذا النوع من المسيّرات أكثر شيوعًا في النزاعات المسلحة في أوكرانيا والشرق الأوسط وإفريقيا، حيث جرى تقييم آثار نشرها وفهم عواقبها بشكل أعمق. ومؤخرًا، وصف «جيمس روجرز»، من «جامعة كورنيل»، هذا التطور بأنه «نافذة على حرب مستقبلية»، بعدما أعلنت «أوكرانيا»، أن «عملية شبكة العنكبوت»، نجحت في استهداف قواعد عسكرية روسية بعيدة، وأدّت إلى تدمير عدد من الطائرات الحربية، موجّهة بذلك ضربة قوية لقدرة موسكو على تنفيذ هجمات جوية تقليدية ضد كييف في المستقبل. ووصفت «كاترينا بوندار»، من «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية»، الهجوم بأنه «يعيد تعريف الحرب غير المتكافئة». بينما حكم «فرانز غادي»، من «المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية»، بأن «أهميته الحقيقية»، تكمن في تكييف «التكتيك التقليدي للغارة العسكرية»، مع القدرات التكنولوجية المتاحة في القرن الحادي والعشرين.
ومع وضع هذا التقييم في الاعتبار، فإن الآثار المترتبة على الأمن في الشرق الأوسط عديدة. وفعليًا، تزخر المنطقة بالهجمات المدمرة التي نفذتها المسيرات الانتحارية، أو «الكاميكازي»، والمحملة بالمتفجرات، والتي تُطلق مباشرة لتصطدم بأهدافها لتنفجر فيها. ومع إثبات «أوكرانيا»، لإمكانية استخدام مثل هذه المسيرات لتدمير، أو شل الأصول العسكرية الأكثر تقدمًا؛ يجب أيضًا دراسة ومعالجة نقاط الضعف المحتملة للمنشآت العسكرية بجميع أنحاء الشرق الأوسط، بما في ذلك القواعد الوطنية والغربية الموجودة في الخليج.
وكما أوضح «مايكل هورويتز»، من «مجلس العلاقات الخارجية»، فقد شهدت الحرب بين روسيا وأوكرانيا استخدامًا واسع النطاق للمسيرات المسلحة، ذات «أنظمة هجوم أحادية الاتجاه»، بشكل كان في السابق «مجرد فرضية نظرية فقط». ومنذ فبراير 2022، أطلقت «موسكو»، و«كييف»، عشرات -إن لم يكن مئات- الآلاف من هذه المسيرات ضد بعضها البعض، وكذلك لتدمير البنية التحتية الحيوية، وضد أهداف مدنية بشكل عشوائي.
وفي حين استهدفت ضربات المسيرات الأوكرانية خارج حدودها في السابق أنظمة الدفاع الجوي الروسية وقاذفات الصواريخ؛ إلا أنه في 1 يونيو، هاجمت 117 مُسيرة «الكاميكازي»، قواعد روسية متعددة تقع على بعد آلاف الأميال من الحدود الأوكرانية؛ مُتسببة في إعطاب ما لا يقل عن 41 طائرة قاذفة ثقيلة تابعة لموسكو، وتدمير ما لا يقل عن 13 قاذفة بالكامل.
ووثق «غادي»، كيف نُقلت المسيرات المُستخدمة في تنفيذ هذا الهجوم «سراً إلى روسيا على مدى أشهر عديدة، وأُخفيت داخل حاويات خشبية مثبتة على ظهر شاحنات»، وعند نجاح تهريبها بالقرب من القواعد الجوية الروسية، تم إطلاقها وتوجيهها باستخدام برامج تجارية متاحة على نطاق واسع.
ووصف «جاستن برونك»، من «المعهد الملكي للخدمات المتحدة»، هذه الغارة بأنها «نجاح مذهل» لكييف. وذكرت صحيفة «نيويورك تايمز»، كيف أن الغارة لم «تضر بقدرة موسكو الاستراتيجية الكبيرة» فحسب، بل «أظهرت أيضًا قدرة كييف على استهداف أي موقع تقريبًا في روسيا» نفسها، فضلًا عن استطاعتها تدمير مقاتلات تقارب قيمة الواحدة 100 مليون دولار باستخدام مُسيرة لا تتجاوز تكلفتها 600 دولار.
وفي تقييمه للعواقب الفورية للغارة، أشار «غادي»، إلى أن موسكو «ستضطر الآن إلى تحصين قواعدها الجوية وغيرها من المرافق الحيوية» بـ«دفاعات قوية، ومتعددة الطبقات مضادة للمسيرات»، ونظرًا إلى أن أنواع القاذفات التي تم تدميرها لم تعد قيد الإنتاج؛ فقد كان لهذا الهجوم بالغ الأثر في الحد من «قدرة روسيا على نشر قواتها على المدى الطويل»، بالإضافة إلى تقويض «قدراتها في مجال المراقبة الجوية والقيادة والسيطرة».
وتحدثت «إيفلين فاركاس»، من «معهد ماكين»، عن التحول النوعي في الحرب الأوكرانية، مؤكدة أن الهجوم الأخير «نقل الحرب إلى المستوى التالي»، حيث أثبت أن الضربات المنسقة باستخدام الطائرات بدون طيار يمكن أن تحقق «تأثيرًا استراتيجيًا». ويحمل هذا التطور تداعيات أمنية خطيرة على مناطق أخرى من العالم التي تشهد بالفعل صراعات، أو تعيش تحت تهديد العنف، بما في ذلك منطقة الشرق الأوسط. وفي هذا السياق، رأى «كارل روزاندر»، من شركة «إن أيه دي»، أن «مسألة وقت فقط»، تفصلنا عن اعتماد هذا التكتيك على نطاق واسع، سواء من قبل الدول أو الجهات الفاعلة غير الحكومية، خاصة أن الشرق الأوسط يعد ساحةً نشطة لهذه الظاهرة، حيث تتبنى أطراف عدة استخدام الطائرات بدون طيار المسلحة لتنفيذ هجمات مدمرة.
وعلى سبيل المثال، تمتلك إيران، تاريخًا موثقًا في تنفيذ هجمات انتحارية باستخدام الطائرات بدون طيار ضد سفن الشحن في المياه الإقليمية المحيطة بشبه الجزيرة العربية، بما في ذلك مضيق هرمز، الذي تمر عبره نحو 30% من صادرات النفط اليومية من الخليج. وخلال شهري أبريل وأكتوبر 2024، أطلقت وابلًا كبيرًا من الصواريخ الباليستية تجاه إسرائيل، تزامنًا مع إرسال مئات الطائرات المسلحة بدون طيار غربًا.
وفي إطار تعزيز ترسانتها من الطائرات بدون طيار، أوضحت وكالة «رويترز»، أن طهران تسلمت مؤخرا ألف طائرة جديدة، يتجاوز مدى بعضها 2000 كيلومتر، تحضيرًا لجولة تصعيد جديدة مع إسرائيل. وأشار تقرير صادر عن «مركز واشنطن للدراسات الدفاعية المتقدمة» في مايو 2025، إلى أن الخبرة الإيرانية أسهمت منذ عام 2023، في تطوير الأسطول الروسي من الطائرات الهجومية بدون طيار، بما في ذلك النسخة الروسية من طائرة «شاهد-136»، وهي طائرة انتحارية مزودة بمراوح ومصممة للاصطدام مباشرة بالأهداف، وتحمل أكثر من 50 كيلوجرامًا من المتفجرات.
وفي ضوء هذه القدرات الإيرانية، التي يمكن نقلها بسهولة إلى وكلاء طهران في مختلف أنحاء الشرق الأوسط، من اللافت ما أكده «صمويل بينديت»، من «مركز التحليل البحري»، بقوله: «عندما نتحدث عن القواعد العسكرية الكبيرة المليئة بالطائرات على المدرجات؛ فإن الدرس المستفاد من الهجوم الأوكراني هو أن ضربة مماثلة يمكن أن تحدث في أي لحظة»، مشيرا إلى أن القواعد الأمريكية «من غير المرجح» أن تتمتع بحماية شاملة ضد التهديدات قصيرة المدى، مثل الطائرات بدون طيار.
وتماشيا مع ذلك، حذّر «روجرز»، من أن القواعد العسكرية الغربية في الشرق الأوسط، باتت عرضة لهجمات الطائرات بدون طيار، مستشهدًا بهجوم وقع عام 2024 على قاعدة أمريكية نائية في صحراء الأردن، أسفر عن مقتل ثلاثة جنود أمريكيين.
وفي حين أن الخبراء العسكريين وصانعي السياسات في جميع أنحاء العالم سيتفاعلون مع أحدث التطورات في أوكرانيا من خلال صياغة وسائل جديدة للدفاع عن القواعد الجوية والمرافق الحيوية من الهجمات الجوية بأسراب الطائرات المحملة بالمتفجرات؛ فمن المهم أيضًا التأكيد على أن ظاهرة زيادة هجمات الطائرات بدون طيار قد أدت أيضًا إلى تصعيد ملحوظ لهذا العنف ضد المدنيين، بما في ذلك من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي في غزة.
وفي حين عبّر «روجرز»، عن قلقه من أننا «قد بلغنا مرحلة يتراجع فيها الإشراف البشري على ممارسة القتل في الحروب»، مشيرًا إلى أن «دقة أنظمة الأسلحة لا تعني شيئًا، إذا كانت المعلومات الاستخباراتية خاطئة، إذ إن كل هذه الدقة ستؤدي ببساطة إلى قتل الشخص الخطأ»، فمن الضروري إثارة مسألة استخدام الطائرات بدون طيار المسلحة، كوسيلة لممارسة الإرهاب النفسي المتعمد ضد المدنيين.
ورغم أن العديد من الخبراء الغربيين أشادوا بالنجاحات العسكرية التي حققتها أوكرانيا من خلال ضرباتها بالطائرات بدون طيار على القواعد الجوية الروسية؛ فإن الواقع الميداني يكشف عن وجه آخر مظلم؛ فقد تم تسجيل متوسط 100 ضربة بطائرات بدون طيار ضد المدن والبلدات الأوكرانية كل ليلة خلال عام 2025، فيما ارتفع هذا المعدل مؤخرًا إلى ما يقارب 300 ضربة يوميًا. وفي ضوء هذا التصعيد، وجهت منظمة «هيومن رايتس ووتش»، اتهامًا مباشرًا إلى موسكو، متهمةً إياها بـ«إثارة الرعب»، بين المدنيين الأوكرانيين، بطريقة تنتهك القانون الدولي، مؤكدة أن هذه الممارسات يجب تصنيفها كجرائم حرب خطيرة.
وفي هذا السياق، وردت تقارير عن تعديل إسرائيل لطائرات صينية تجارية بدون طيار لحمل القنابل، وشن هجمات على أهداف مدنية، بما في ذلك المستشفيات في غزة. كما تم استخدام ما يُعرف بـ«طائرات القنص»، وهي طائرات صغيرة مزودة بمسدسات، لقتل مدنيين فلسطينيين من دون تمييز، بمن فيهم النساء والأطفال. وفي نوفمبر2024، وأمام «لجنة التنمية الدولية» في البرلمان البريطاني، أدلى الجراح البريطاني «نظام محمود» بشهادته حول فترة تطوعه في مستشفى ناصر بغزة، حيث وصف مشاهداته للطائرات الإسرائيلية المسيّرة، وهي «تستهدف المدنيين والأطفال يومًا بعد يوم».
وعليه، عند تقييم تأثير استخدام الطائرات بدون طيار المسلحة – سواء في إطلاق الصواريخ، أو في تنفيذ الهجمات الانتحارية المباشرة – يجب أن نأخذ في الحسبان أن كلا من الأهداف العسكرية والمدنية باتت تُستهدف بوتيرة متسارعة.
ورغم أن «غادي»، يرى أن الهجوم الأوكراني «لا يمثل فجر عصر جديد»، بل هو «تعديل جديد لنهج تكتيكي قديم»؛ فإن «بوندار»، تشير إلى أن «سهولة الوصول إلى هذه الأنظمة، وقابليتها للتكيف تجعلها أدوات مغرية لكل من الدول والجهات الفاعلة غير الحكومية»؛ الأمر الذي يستوجب «تعزيز الإجراءات الدفاعية، وبناء قدرات مواجهة مخصصة للتهديدات الناتجة عن الطائرات بدون طيار».
لكن، في المقابل، فإن وسائل الحماية من مخاطر الطائرات بدون طيار ليست متاحة للمدنيين. وفي حالة المدنيين الموجودين في غزة، فهي غير موجودة على الإطلاق. وكما هو الحال في استخدام إسرائيل للأسلحة المتنوعة من بنادق وطائرات وصواريخ ودبابات وسفن ضد السكان الفلسطينيين، فقد سمح الحلفاء الغربيون لتحالف «بنيامين نتنياهو»، المتطرف باستخدام الطائرات بدون طيار ضد المدنيين الفلسطينيين بطرق ترتقي إلى مستوى جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك