لم تكن الولايات المتحدة في عهد أوباما غافلة عن الملف النووي الإيراني، وقد طورت ثلاثة سيناريوهات لمعالجة هذا الملف أولها ينصب على رضوخ إيران عبر الضغط والتفاوض، ومن ثم موافقتها على تجميد مشروعها النووي، أو وضعه بالكامل تحت رقابة صارمة، تضمن عدم خروجه عن حدود محسوبة بدقة، لا تفضي في أوج تقدمها إلى تطوير سلاح نووي.
لكن واشنطن لم تكن قادرة آنذاك على تصعيد الضغوط على إيران، أو تقديم المغريات المناسبة لها، لقبول مثل هذا السيناريو، وبالتالي فقد تخلت عن فكرة تجميد المشروع النووي، كما تخلت عن فكرة وضعه تحت رقابة صارمة.
أما السيناريو الثاني، فيتعلق باقتناع الولايات المتحدة، وحلفائها في المنطقة والعالم، بأن خيار الحرب غير وارد بالنسبة إليها على الإطلاق، بالنظر إلى الخسائر الاستراتيجية التي يمكن أن يتمخض عنها، وبالنظر إلى التمترس والاستنفار الإيرانيين، والميل الواضح لدى قطاعات في الحكم الإيراني لتطوير المواجهة.
واستنادا إلى هذه المقدمات، فإن واشنطن، وحلفاءها الكبار، قبلوا بحل يرجئ تطوير السلاح النووي الإيراني، مقابل إعطاء امتيازات لطهران، على أن يكون ذلك وفق اتفاق، يؤمّن فترة زمنية يمكن خلالها بناء «آليات احتواء»، مشابهة لتلك التي سبق أن بنتها الولايات المتحدة مع دول نووية من خارج المعسكر الغربي. وهو الحل الذي يبدو أن أوباما ذهب إليه، وأدرك كثيرون أنه لم يكن حلا.
أما السيناريو الثالث، فيستند إلى حل الإشكال عبر شن الحرب، بما يقنع طهران بأن محاولة المضي قدما في خططها المفترضة لتطوير السلاح النووي ستنطوي على تكلفة أكثر من احتمالها، ومن ثم فهي سترضخ أيضا لتفكيك مشروعها، وقد تقوم إسرائيل بهذا الدور، بينما تبقى واشنطن في الخلفية داعما ومساندا وظهيرا مدافعا عند الحاجة.
لقد اختار أوباما السيناريو الثاني، ووقع اتفاقا مع إيران، وهو الاتفاق الذي دخل حيز التنفيذ مطلع عام 2016، لكنه أخفق في معالجة الملف، وعندما جاء ترامب، في ولايته الأولى، فإنه أعلن بوضوح نقضه لتلك السياسات، وشرع في بناء سياسات جديدة.
لم يحصل ترامب على الوقت الكافي لحل الإشكال، ورغم قيامه في مايو من عام 2018، خلال ولايته الأولى، بإلغاء الاتفاق النووي مع إيران، وتصعيد العقوبات ضدها، فإن ذلك لم يكن كافيا لغلق الملف، أو إنهاء المشكلة؛ إذ اعتبرت طهران أنها في موقع يسمح لها بالمناورة، والاستفادة من الوقت، وتحمل ضغوط العقوبات، من أجل تحقيق هدفها الذى يعرفه العالم وتصر في مواقفها المعلنة على انكاره.. أي تطوير السلاح النووي.
ثم خسر ترامب الانتخابات أمام بايدن في 2020، وكانت خطة بايدن تتلخص في ثلاثة أبعاد رئيسية تجاه إيران، وتضمن البعد الأول الالتزام بمنع إيران من امتلاك سلاح نووي، بينما اختص البعد الثاني بعرض طريق واضح للعودة إلى الدبلوماسية والتفاوض، بحيث يعمل بايدن مع حلفاء بلاده على تعزيز وتوسيع بنود الاتفاق النووي. أما البعد الثالث فيقضى بمواصلة العمل ضد أنشطة طهران «المزعزعة للاستقرار والتي تهدد أصدقاء وشركاء الولايات المتحدة في المنطقة.
لكن بايدن أيضا أخفق بدوره، وظلت مشكلة الملف النووي الإيراني موضوعا مؤرقا للسياسة الأمريكية، كما ظلت إسرائيل تشكو وتندد وتحذر وتهدد، بينما انشغل الإيرانيون بتوسيع مناطق نفوذهم في منطقة الشرق الأوسط، وباتوا يسيطرون على أربع عواصم عربية، وتمتد أصابعهم إلى عواصم ومناطق أخرى.
وعندما عاد ترامب إلى سدة الحكم في يناير الماضي، كان عازما في هذه المرة على إيجاد حل جذري لهذه المشكلة المُزمنة، وقد وجد مساعدة نوعية نادرة من حركة «حماس» التي شنت هجوم «طوفان الأقصى» على إسرائيل في نوفمبر 2023، وهو الهجوم الذي مكّن إسرائيل من إعادة رسم حدود النفوذ والقوة في المنطقة، بعدما ضربت «حزب الله» اللبناني بقوة، واستفادت من تغيير النظام في سوريا، وواصلت جرائمها المروعة ضد الفلسطينيين في غزة.
وبينما كانت إيران تفقد أذرعها بوتيرة منتظمة، تلقت ضربات من إسرائيل، وردت على استحياء، قبل أن يمنحها ترامب مهلة مدة 60 يوما، انتهت، لتبدأ إسرائيل شن هجوم واسع ضدها في اليوم الـ 61.
لقد تلقت إيران ضربة ساحقة، قتلت نحو عشرين من قادتها العسكريين وعلمائها النوويين، كما قوضت جزءا من مقدراتها النووية، وهي الآن ترد على الهجوم، ونحن نتابع تفاصيل المعركة.
والشاهد أن السيناريو الثالث تحقق؛ أي ضرب إيران بهدف شل قدرتها على تطوير سلاح نووي، وربما أيضا لأغراض أخرى قد تكون أعمق وأخطر.
لا يبدو أن ترامب مثل سلفيه أوباما وبايدن، اللذين راهنا على الحلول الدبلوماسية والضغوط والعقوبات، ويبدو أن نتنياهو وجد أن ضرب إيران سينقذه من أزماته الداخلية التي تستهدف سلطته، وأن الوقت مناسب للتخلص من الخطر الإيراني، مهما كانت العواقب .واليوم، تقف المنطقة مشدوهة أمام التصعيد الخطير، الذي سيعيد تشكيلها، بحيث لن تعود كما كانت قبل عودة ترامب، وقبل «طوفان الأقصى».
{ كاتب وباحث إعلامي.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك