ليس كل ما نقرأه يُطمئن، ولا كل ما يُقال يُبنى على معلومة دقيقة. في الأيام التي تغمرنا فيها التفسيرات، ويقل فيها التثبت، يصبح التمييز ضرورة لا أمرا هامشيا.
انقلبت المعادلة؛ تُتداول الرسائل قبل أن تُعرف الحقائق، وتُصاغ التحليلات قبل أن تصدر البيانات، وصرنا نُصادف، في كل زاوية من الهاتف، رأيا أو تحذيرا أو استنتاجا يُقال وكأنه مؤكد. ومع الوقت، لم نعد نعرف: هل نشعر بما يجري حقا؟ أم بما يُراد لنا أن نشعر به؟
هذه الضوضاء المستمرة لا تأتي من فراغ. إنها نتيجة تدفق غير منضبط للكلام، للصور، للمقاطع التي تتناقلها الهواتف وكأنها رسائل رسمية. وكلما ارتفع منسوب هذا التداخل، ازدادت حاجتنا إلى من يُعيد ترتيب الأولويات: من نُصغي له؟ ماذا نُصدق؟ وكيف نحافظ على الهدوء الداخلي وسط هذا الكم من التوقعات والتهويلات؟
في البحرين، لله الحمد، لدينا مؤسسات رسمية نثق بها، ونعرف من يمثلها، ونعرف كيف نتلقى منها ما يلزمنا دون ضجيج. فلماذا نمنح الرسائل المجهولة التي تهول الحدث سلطة لا تملكها، ونرفع من شأن أصوات لا نعرف من يقف خلفها؟ هذه الرسائل، حتى لو وصلت من صديق، لا تُصبح أكثر صدقا، ولا أكثر دقة.
المقلق ليس فقط وجود هذه الرسائل، بل استعداد البعض لتداولها بسرعة، دون تفكير في ما قد تخلفه من قلق أو ارتباك. وكأن المشاركة أصبحت دليل حرص، مع أنها في كثير من الأحيان لا تفعل سوى نشر القلق والذعر، وإشغال الناس عن الأولويات.
شاهدنا ذلك قبل أيام، حين بدأت تنتشر رسائل تتحدث عن نقص في المواد الغذائية. توقع البعض أن تهرع الناس للتخزين، وأن تُصبح الأرفف فارغة خلال ساعات. لكن ما حدث كان عكس ذلك. الناس لم تنجر وراء تلك الرسائل الخادعة، والأسواق بقيت طبيعية، والمصادر الرسمية أوضحت – بهدوء– أن المخزون متوفر ويكفي لأشهر. ما حدث لم يكن صدفة، بل نتيجة ثقة تشكلت بمرور الوقت، ووعي بدأ يترسخ في الناس، بأن الرسائل الهاتفية لا تُؤخذ على عواهنها، وأن الذعر لا يكون أبدا حلا.
من السهل أن ننشغل بهذا السيل من التحليلات والرسائل دون أن نشعر. نُريد أن نتابع، أن نفهم، أن نكون على دراية.. لكن أحيانا، نُرهق أنفسنا دون أن ندري.
أقول ذلك من واقع بسيط أعيشه. فأنا –مثل كثيرين– عضو في مجموعات واتساب عائلية واجتماعية، تضم أصدقاء ومقربين. وخلال الأيام الماضية، لاحظت كيف تحولت بعض هذه المجموعات، بحسن نية، إلى منصات تحليل ومتابعة وتعليق دائم. كل شخص يُشارك بما وصله أو بما يظن أنه الأقرب إلى الحقيقة. ولأنني أعرف أن هذه المشاركات تنبع من الحرص، لم أجادل أحدا، لكنني شعرت أن الاستمرار في قراءة كل ما يُكتب يزيد من قلقي لا من وضوحي. فاخترت أن أبتعد قليلا، وأترك لنفسي مساحة هادئة أستطيع فيها التمييز بهدوء، دون تشويش.
ليس من الخطأ أن يشعر الإنسان بالقلق حين تكون المنطقة في حالة توتر. فالقلق غريزة إنسانية، وجزء من آلية الحذر. لكن ما ينبغي التنبه له هو التحول من القلق الفطري إلى الذعر الجماعي، الذي غالبا ما يكون نتيجة تضخيم أو تكرار مفرط لصورة غير مكتملة. وهكذا يتحول الإعلام المجهول إلى صانع للهواجس، بدلا من أن يكون ناقلا للمعلومة. والوعي في مثل هذه الحالات، ليس في إنكار القلق، بل في ضبط حدوده ومنع تضاعفه.
ليس كل من يشارك حاضرا، وليس كل من يُعلق مساهما. التأثير الحقيقي لا يكون بكثرة التفاعل، بل بجودته. أن نقول ما نعلمه، لا ما نتصوره. وأن نمتنع حين يكون الامتناع هو الأكثر حكمة.
البيان الرسمي قد لا يكون الأسرع في الظهور، لكنه حين يُنشر، يُبنى على مسؤولية، ويتحمل نتائجه من يصدره. وهذا ما يميزه عن أي رأي متداول أو تحليل غير محسوب.
في نهاية الأمر، لسنا في سباق للآراء، ولا في منافسة لنقل الأخبار. نحن في حاجة إلى أن نُحافظ على طمأنينة الناس، لا بمثالية، بل بحكمة. أن نختار ما نُشارك به، وما نتجاوزه، وأن نُبقي الأعين على المصدر لا على العناوين المتطايرة. لأن الاستقرار لا تصنعه الرسائل المتداولة، بل يصنعه وعي الناس، حين يُحسنون استقبال المعلومة، وتقدير أثرها، واختيار الطريق الذي يُبقيهم متماسكين في زمن متقلب.
rajabnabeela@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك