غيب الموت صباح يوم السبت الماضي الموافق 26مايو 2025 أحد رجالات البحرين الكرام الذين تميزوا بعطائهم الثري في مجال التوعية والسلامة المرورية لمستخدمي الطريق، وكان له بصمة واضحة في مجال التوعية المرورية والسلامة على الطريق عبر وسائل الإعلام المختلفة ليس على مستوى البحرين فحسب، إنما على المستويين الخليجي والعربي؛ حيث كان علماً من أعلام التوعية المرورية في الأقطار العربية كافة.
عبدالعزيز بن محمد بوحجي قامة كبيرة، وعلم بارز في مجال التوعية والارشاد المروري، فهو بلا جدال المؤسس الأول لقسم التوعية المرورية بالإدارة العامة للمرور، كان له حضور مميز في الإعلام المروري فقد كرس جهوده لتطوير ثقافة السلامة المرورية، وأسهم في نشر مبادئ الالتزام بالأنظمة والقوانين المرورية عبر الإعلام المرئي والمسموع من خلال برامجه الإعلامية المتنوعة أشهرها البرنامج الإذاعي «طريق الأمان» الذي يبث عبر أثير إذاعة البحرين في الساعة السابعة من صباح كل يوم. هذا البرنامج الذي كان يستقطب المستمعين من كل الشرائح المجتمعية (رجالا ونساء وشبابا وأطفالا) مواطنين ومقيمين. كل هؤلاء كانوا يشنفون آذانهم لسماع إرشادات بوحجي المرورية بلغته الشعبية البسيطة التي تنفذ إلى القلب، وتتسلل إلى العقل؛ فقد استطاع بأسلوبه السهل الممتنع، وخفة ظله أن يمرر مفردات النظم والقوانين والارشادات المرورية لكل المستمعين بيسر وسهولة. لم يكن هذا البرنامج هو الوحيد الذي كان يقدمه، فقد أضاف اليه برامج أخرى مثل: برنامج «لمحات من تاريخ المرور في البحرين»، والبرنامج التلفزيوني «مرور مائة عام على دخول السيارات في البحرين». كما كان للطفل نصيب من اهتمامات بوحجي التوعوية؛ فكان برنامجه «المرور والطفل أحد البرامج التي تصب في هذا الاتجاه والتي تهدف إلى غرس مبادئ السلامة المرورية لدى الأطفال والناشئة بأسلوب مبسط وتثقيفي. لذلك لا نبالغ في القول إذا أطلقنا عليه بأنه رجل التوعية المرورية الأول، هذا اللقب يستحقه بجداره لدوره البارز والمتميز في نشر الوعي المروري، حيث كان لإرشاداته وقع على نفوس المواطنين، ولهذا لا عجب أن تظل تلك الارشادات محفورة في ذاكرة جيل الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي وبداية الألفية الثالثة.
إن تجربة بوحجي في الإعلام المروري لم تقتصر على حدود جغرافية البحرين، وإنما تعدتها إلى خارجها؛ فكان لعطائه في مجال التوعية المرورية صدى طيباً في الأقطار العربية كافة إذ أصبح أحد الخبراء العرب المميزين الذين يشار إليهم بالبنان في مجال الإعلام والتوعية المرورية؛ فكان -رحمه الله- محاضراً مفوهاً في هذا المجال، وكان له حضور بارز وتفرد في الندوات والملتقيات العربية.
إن اهتمام بوحجي بالتوعية المرورية، قادته إلى الاهتمام بتوثيق تاريخ المرور في البحرين وكان ذلك من خلال تأليفه كتاب «لمحات من تاريخ المرور في البحرين»، واشتمل الكتاب على ثمانية فصول من تاريخ المرور ودخول السيارات إلى البلاد من عام 1914حتى 1969م، وتضمن معلومات مرورية وصورا وثائقية تبين المراحل التي مر بها تاريخ المرور وتاريخ المواصلات في البحرين، وأنواعها، وأسماء التجار الذين قاموا باستيراد السيارات، فكان له قصب السبق في هذه المسألة في حدود علمي، ولشغفه وحبه لهذا المجال، فإن عطاءه لم يتوقف رغم تقاعده عن العمل في الإدارة العامة للمرور، فقد واصل نشاطه في هذا المجال بعد التقاعد.
لقد جمعني برائد التوعية المرورية في البحرين علاقة عمل، وذكريات حلوة وجميلة من خلال عملنا سويا في «اللجنة المرورية لطلبة المدارس» «ولجنة السلامة على الطريق»، وقد تعرفت عليه عن قرب بعد أن كنت أعرفه فقط عبر أثير إذاعة البحرين من خلال برنامجه المروري المميز «طريق الأمان» إذ كنت حريصاً مثل غيري من المستمعين على متابعته يومياً وأنا في طريقي إلى مقر عملي بإدارة المناهج بوازرة التربية والتعليم بالمنامة. عندما التقيت به أول مرة في مكتبه بالإدارة العامة للمرور، لمست من حديثه عن التوعية المرورية حماسه الشديد، ورغبته الجامحة في تطوير الوعي المروري، وتأطيره من خلال المناهج الدراسية، والنشاطات الصفية واللاصفية، وكان حريصا على أن يكون ذلك في جميع مراحل التعليم العام بما فيها التعليم ما قبل المدرسة (الروضة). هذا الحرص نابع من وعيه المستنير بأن قيادة السيارة فن ومهارة وسلوك، وأن خير وسيلة لتعلم أخلاقيات القيادة يكون من خلال مقاعد الدراسة بدءاً من مرحلة الروضة وحتى المرحلة الثانوية. ووجدت في أفكاره تماهياً مع أفكاري التربوية قادنا ذلك إلى التفكير في إنجاز عدة مشروعات تربوية مرورية منها على سبيل المثال كتيبات تخص الأطفال مثل «العبور السليم» فضلا عن تدريب المعلمين على تطبيق تلك الكتيبات المرورية.
بقي لنا أن نقول: إن الإبداع الذي وصل إليه بوحجي في مجال السلامة المرورية، وتألقه على المستويين الخليجي والعربي؛ كان بسبب امتلاكه المعرفة والمهارات اللازمة للإعلام المروري فضلاً عن إخلاصه وتفانيه في العمل، إضافة إلى البيئة الإدارية الحاضنة التي أسهمت في تطبيق أفكاره وطموحاته؛ فكانت له خير المعين والداعم والمساند لكل مقترحاته ومشروعاته؛ فكان بوحجي محظوظاً في العمل مع القادة من المديرين العامين للمرور الذين تعاقبوا على هذه الإدارة، والذين عبدوا له الطريق لتحقيق أفكاره؛ فكان لهم أكبر الأثر في تشجيعه على تحقيق مبادراته التوعوية. وهو الأمر الذي أسهم بحق في رفع مستوى الوعي المروري فغدت تجربة البحرين المرورية مثالاً يحتذى، واكتسبت سمعة طيبة في دول الإقليم وبقية الأقطار العربية.
رحل بوحجي عن عالمنا، وترك لنا إرثا إعلاميا كبيرا في مجال التوعية بالأنظمة المرورية والسلامة على الطريق، هذا الإرث سيظل مصدر فخر واعتزاز ونبراساً للأجيال المتعاقبة. وستغدو مسيرته نموذجاً رائداً في العمل الوطني المخلص.
رحم الله عبدالعزيز بوحجي وغفر له وأسكنه فسيح جناته وألهم أهله وذويه الصبر والسلوان.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك