ربما بدأ التفاوت الطبقي عبر التاريخ من خلال تفاوت القدرات الطبيعية بين البشر، حيث يتفاوت البشر في قدراتهم، فهناك الأسرع في الجري، والأقدر على حمل الأثقال، والأمهر في صنع السلاح وهكذا، وربما نفترض أن الأقوى بين هؤلاء هو الذي فرض نفسه وقبض على مقاليد السلطة، لكن الحاصل أن الأذكى كان أكثر هؤلاء قدرة على الوصول إلى أعلى الهرم الاجتماعي، وتسخير الأقوى والأسرع والأمهر لصالحه.
وبمعزل عن كيف بدأ التفاوت الطبقي. فإن الثابت أن التفاوت الطبقي شكل أحد أبرز السمات البنيوية للمجتمعات البشرية منذ فجر الحضارة. فبعد أن عاشت البشرية عشرات الآلاف من السنين في مجتمعات بدائية تسودها المساواة النسبية، شهدت الثورة الزراعية قبل حوالي12.000 سنة التحول الأول نحو التمايز الطبقي. مع ظهور الفائض الزراعي، بدأت تتشكل النخب المهيمنة التي تملك الأرض وتسيطر على الموارد، بينما تحول معظم السكان إلى فلاحين وعمال.
هذا التحول التاريخي لم يكن مجرد تغير في أنماط الإنتاج، بل كان نقلة نوعية في العلاقات الاجتماعية. فكما لاحظ الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو في كتابه المهم «خطاب حول أصل التفاوت بين البشر»، فإن ظهور الملكية الخاصة كان اللحظة الحاسمة التي حولت التملك الشرعي إلى اغتصاب، والحرية إلى عبودية.
قفز التفاوت الطبقي إلى مستويات غير مسبوقة مع الثورة الصناعية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. تحول العمال إلى مجرد أدوات إنتاج، يعيشون في ظروف مزرية بينما تتراكم الثروات في أيدي قلة من الرأسماليين. هذه الحقبة ألهمت كارل ماركس لتحليله الشهير عن الصراع الطبقي، حيث رأى أن النظام الرأسمالي يعتمد بالضرورة على استغلال طبقة العمال لتعظيم أرباح الطبقة البرجوازية.
في العصر الحديث، اتخذ الاستغلال الطبقي أشكالاً جديدة في ظل العولمة. انتقلت مراكز الإنتاج إلى دول العالم الثالث، حيث الأجور الزهيدة وشروط العمل السيئة. وفي هذا السياق، تبرز فضيحة الماركات المزيفة في الصين كواحد من أكثر الأمثلة دلالة على استمرارية التفاوت والاستغلال.
يعيش العامل الذي يصنع منتجات ماركات فاخرة مزيفة في ورشة سرية بضواحي قوانغتشو، يعيش وضعا لا يختلف جوهريا عن فلاح العصور الوسطى أو عامل المصنع في القرن التاسع عشر، حيث يعمل الجميع ساعات طويلة بأجور زهيدة في ظروف غير إنسانية، تماماً كما كان الحال في بدايات الثورة الصناعية، فيما الأرباح الطائلة تذهب إلى قلة من السماسرة والتجار، بينما يحصل العمال على الفتات.
كما يتم خداع المستهلكين في كلا الطرفين - أولئك الذين يشترون السلع المقلدة معتقدين أنها أصلية، والعمال الذين يُستغلون لتحقيق أرباح خيالية. الأمر الذي جعل الوضع يدور في حلقة مفرغة.
فضيحة الماركات المزيفة في الصين ليست ظاهرة معزولة، بل حلقة في سلسلة طويلة من الاستغلال الطبقي الذي بدأ مع نشوء الحضارات الأولى. الفارق الوحيد هو أن أدوات الاستغلال أصبحت أكثر تعقيداً، ولكن الجوهر بقي كما هو: نظام اقتصادي يعتمد على استغلال الكثيرين لصالح قلة قليلة.
إن العولمة الحديثة هي في جوهرها نظام لضمان حرية حركة رأس المال وحركة السلع، مع تقييد حركة العمالة. هذا التناقض هو ما يحافظ على استمرارية التفاوت الطبقي عبر العصور، من حقول القمح القديمة إلى الورش السرية في الصين المعاصرة، مع نقلة نوعية من عصر التفاوت الطبقي بين البشر داخل المجتمع الواحد إلى التفاوت الطبقي بين الدول.
فضيحة الأسواق الصينية لعام 2025 أعادت فتح ملف التلاعب بثقة المستهلك، ودفعت كبرى الماركات العالمية لإعادة النظر في آليات البيع، وتوعية المستهلكين بمخاطر الشراء من مصادر غير رسمية. لكنها أعادت إلى الواجهة أسئلة الاستغلال وجذور الصراع الطبقي.
{ رئيسة قسم العلوم
الاجتماعية بجامعة البحرين
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك