في حملتيه الرئاسيتين الناجحتين عامي 2016 و2024 -وكذلك محاولته الفاشلة عام 2020- قدَّم دونالد ترامب، نفسه للناخبين الأمريكيين والعالم بوصفه قائدًا مختلفًا، لن يُكرِّر إخفاقات أسلافه بتوريط بلاده في صراعاتٍ خارجية، لا سيما في الشرق الأوسط، وهو ما أكد عليه في خطاب تنصيبه الثاني، الذي ألقاه في يناير 2025، مشيرا إلى أن نجاحات إدارته ستُقاس ليس فقط بالحروب التي ننهيها؛ بل بالأهم، بالحروب التي لا نخوضها أبدًا.
ونظرًا للصورة الذهنية التي ارتبطت بشخصيته بوصفه يتسم بالغطرسة، وغير واثق بالآخرين – إلى حد أن كبير موظفي البيت الأبيض، ورئيس هيئة الأركان المشتركة السابقين، وصفاه بـالفاشي– لم يكن مستغربًا أن يُظهر ترامب، عند تعامله مع واحدة من أبرز القضايا الجيوسياسية في الشرق الأوسط، وهي (ملف البرنامج النووي الإيراني)، انحرافًا عن مسار الدبلوماسية. وبدلًا من الوفاء بالتزامه المُعلن بالحلول السلمية، تواطأ مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، لشن ضربات عسكرية مفاجئة على طهران؛ تبعها بتدخل عسكري أمريكي مباشر؛ الأمر الذي تسبب في رد فعل إيراني باستهداف قاعدة العديد في قطر، ما دفع المنطقة نحو حافة الانفجار.
ومع تعثر وقف إطلاق النار الذي دافع عنه فور إعلانه، أصبحت نتائج تحركاته سببًا رئيسًا في تقويض المسار الدبلوماسي، الذي استغرق سنوات لاحتواء طموحات إيران النووية، وهو ما يُرجّح أن تسعى الأخيرة من جديد إلى تسريع خطواتها نحو امتلاك ترسانة نووية. وفي المقابل، يدفع ائتلاف اليمين المتطرف في إسرائيل، إلى جانب ما يُعرف بـ«الصقور» في الداخل الأمريكي، باتجاه تغيير النظام الإيراني. وفي خضم ذلك، تراجعت سمعة واشنطن، كوسيط موثوق في تسوية النزاعات الدولية إلى أحد أدنى مستوياتها تاريخيًّا.
ومنذ عودته إلى منصبه في يناير 2025، وحتى شن إسرائيل أول موجة من الغارات الجوية ضد المنشآت النووية والعسكرية الإيرانية في 13 يونيو؛ وعد ترامب، بحل دبلوماسي لهذه الأزمة؛ لإخفاء النيات الحقيقية لإدارته، وحكومة إسرائيل المتطرفة، لاستخدام القوة والمخاطرة بإشعال صراع إقليمي مدمر.
ومن المهم أن نتذكر أنه -وعقب ثماني سنوات من تخليه عن الاتفاق النووي لعام 2015، بادر بالتواصل مع طهران عبر الإمارات، عارضًا استئناف المفاوضات، وكانت تهديداته اللاحقة بهجمات عسكرية -بما في ذلك شن قصف لم يروا مثله من قبل- مصحوبة بالالتزام بطرح دبلوماسي، حتى إنه صرح إبان زيارته لمنطقة الخليج في منتصف مايو 2025 بأن هناك اتفاقا في الرؤى نوعيًا، فيما يخص الشروط الجديدة. وقد حافظ على هذا الموقف علنًا حتى هجمات إسرائيل -المذكورة أعلاه يوم 13 يونيو- وأعقب ذلك تباهيه بعلمه بكل شيء مُسبقًا، وتفاخره بأن الهجمات التالية المخطط لها؛ ستأتي أكثر وحشية. وقد أشار أندرو روث، في صحيفة الجارديان، إلى التناقضات بين أقواله وأفعاله، حيث اندفع إلى نَسب الفضل لنفسه في هجومٍ كان قد عارضه علنًا قبل ساعات فقط.
ومع تنفيذ إسرائيل ضربات على المواقع النووية الإيرانية، واغتيالها لعدد من كبار المسؤولين في النظام وعلماء نوويين، اعتبر كل من هيذر ويليامز، ودورن هورشيج، وبيلي شيف، من مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، أن هذه العمليات ستعيق بشكل كبير طموحات إيران النووية. وقد مثلت تلك اللحظة فرصة حقيقية، أمام ترامب -إلى جانب قادة مجموعة الدول السبع- للعمل على خفض التصعيد للحيلولة دون استمرار الهجمات الدامية. غير أن واشنطن، اختارت الانحياز إلى جانب إسرائيل وتوجيه تهديدات صريحة لسكان طهران البالغ عددهم نحو 10 ملايين نسمة، فضلا عن التلويح بتصفية المرشد الأعلى الإيراني في غارة جوية.
وبعد أن ظهر وكأنه يتراجع عن حافة الهاوية، عبر الوعد بمنح فرصة مدة أسبوعين لإحياء المسار الدبلوماسي؛ أصدر ترامب، في 22 يونيو أمرًا للجيش الأمريكي بالانضمام إلى الحرب على إيران، مستهدفًا منشآت النووية، بما في ذلك موقع فوردو، باستخدام قنابل خارقة للتحصينات تزن 30 ألف رطل. وبينما ركّز على وصف الهجوم بأنه نجاح عسكري مذهل، ودمّر تمامًا القدرات النووية الإيرانية؛ فقد حذر تشارلز ليستر، من معهد الشرق الأوسط، من أن هذه الخطوة تمثل تحولًا جذريًا في الديناميكيات الإقليمية، حيث دخلت إيران في حرب مفتوحة على جميع المستويات، ليس فقط ضد إسرائيل، بل ضد الولايات المتحدة أيضًا، وقد حمل ردها باستهداف قاعدة العديد في قطر، مؤشرات على احتمال انزلاق المنطقة إلى سلسلة متتالية من التصعيدات الخطيرة.
وبشكل واضح، تنعكس عواقب هذه الأحداث على مكانة الرئيس الأمريكي، وعلى ما تحظى به واشنطن، من ثقة كوسيط دولي في إدارة مثل هذه الأزمات، لا سيما بعد إعلانه وقف إطلاق النار عبر منصته تروث سوشال في أعقاب الضربة الإيرانية على قاعدة العديد؛ إذ خاطب قادة إسرائيل وإيران قائلًا: من فضلكم، لا تنتهكوها، في تعبير يعكس مدى تراجع احترام الطرفين لسلطته، حيث واصلا تنفيذ الغارات الجوية والهجمات الصاروخية المتبادلة دون اكتراث لبعض الوقت.
وبينما انتقد في تصريحاته كيف أنه بمجرد إبرامنا الصفقة، خرجت إسرائيل وأسقطت حمولة من القنابل، لم أرَ مثلها من قبل، أكبر حمولة رأيناها؛ فإن ذلك يشير إلى إدراك نتنياهو، وائتلافه اليميني المتطرف، غياب أي كوابح، أو ضوابط قد تفرضها إدارة ترامب، واستمرار البيت الأبيض في دعم مخططاتهم، رغم العواقب الخطيرة المترتبة على ذلك.
وأشار إليوت أبرامز، من مجلس العلاقات الخارجية، إلى أن حكومة اليمين المتطرف في إسرائيل، كانت تراهن على انضمام إدارة ترامب، إلى حربها ضد إيران، ومع تحقق هذا الهدف، أصبحت مسألة تغيير النظام في طهران هي الطموح المعلن، الذي طالما سعى إليه الصقور في واشنطن. وفي السياق ذاته، أشاد ويليام ويشلر، من المجلس الأطلسي، بقرار الرئيس الأمريكي قصف إيران، واصفًا إياه بـالخطوة الصائبة. أما زميله في المجلس، ماثيو كرونيج، فقد بالغ في تقدير هذا الهجوم، معتبرًا إياه أكبر إنجاز للسياسة الخارجية الأمريكية منذ نهاية الحرب الباردة.
ومع ذلك، ذهب كل من رويل جيريشت، وراي تاكيه، وإريك إيدلمان، في مجلة فورين أفيرز، إلى أن الطريق الصحيح لتغيير النظام في إيران، يكمن في دعم إدارة ترامب، لإسرائيل لتوسيع نطاق حملتها العسكرية، بحيث تشمل استهداف البنية التحتية الإضافية للنفط والغاز داخل إيران، كما دعوا إلى أن يقوم جهاز الموساد، بتكثيف عملياته السرية داخل البلاد؛ بهدف زعزعة النظام من الداخل والدفع نحو إسقاطه.
وفي الوقت الذي حرص فيه الرؤساء الأمريكيون السابقون على تجنّب الإفصاح علنًا عن أي نيات لتغيير الأنظمة؛ بدا أن ترامب، لا يجد حرجًا في تبني هذا الطرح بشكل مباشر وصريح. وعلى الرغم من تصريح وزير دفاعه بيت هيغسيث في 22 يونيو، بأن واشنطن لا تسعى إلى تغيير النظام في إيران، فإنه سرعان ما ناقض أبرز أعضاء حكومته، متسائلًا عبر الإنترنت: إذا كانت حكومة آية الله غير قادرة على جعل إيران عظيمة مرة أخرى، فلماذا لا يحدث تغيير في النظام؟
وهكذا، وكما نجحت حكومة إسرائيل المتطرفة في دفع الرئيس الأمريكي نحو قصف منشآت إيران النووية، فإنها اليوم في موقع يتيح لها التأثير عليه لتصعيد الحرب؛ سعيا للإطاحة الكاملة بقيادتها، ومن ثم تكرار كارثة العراق التي سبق وانتقدها في كل فرصة للفوز بأول انتخابات له عن الحزب الجمهوري في عام 2016.
وفي الوقت الذي تبدو فيه إسرائيل، الرابح الأكبر من قرارات ترامب الكارثية، ونهج إدارته التصعيدي في إدارة الأزمات، فقد أسفر تهوره عن تعريض شركاء الولايات المتحدة الأمنيين التقليديين في منطقة الخليج لخطر داهم، بل وامتد التهديد ليشمل المنطقة بأكملها. ورغم تقليله من شأن الضربات الصاروخية الإيرانية على قاعدة العديد، بوصفها ضعيفة للغاية، إلا أن الهجوم الإيراني عبر الخليج العربي دفع قطر، والإمارات، والبحرين على إغلاق مجالاتها الجوية.
وفي هذا الصدد، يدل تعليق كرونيج –الذي سبق الهجوم– والذي رفض فيه التوقعات بتوجيه إيران ضربات صاروخية رمزية إلى مكان ما بالشرق الأوسط؛ على مدى غطرسة صانعي السياسات والمحللين في واشنطن، وقدر استخفافهم لتحمل دول أخرى، مغبة قراراتهم ذات الدوافع الأيديولوجية. ومع ذلك، فإن الخطر لم يعد مقتصرًا على شركاء الولايات المتحدة، فالأمريكيون أنفسهم ليسوا بمنأى عن تداعيات قرارات ترامب.
وحذر توماس واريك، من المجلس الأطلسي، من السذاجة في افتراض أن إيران لن ترد، مؤكدًا أن احتمال استهدافها للولايات المتحدة في الأسابيع أو الأشهر المقبلة قائم وبكل السبل الممكنة.
وعليه، فإن الطريقة التي استجاب بها الرئيس الأمريكي لهذه الأزمة الكبرى في الشرق الأوسط –من تهديدات وخداع واستهزاء وتناقضات– لا تُعد مفاجئة، إذ تعكس الديناميكيات ذاتها التي اتبعها خلال ولايته الأولى، والتي استعادها فور عودته إلى البيت الأبيض في يناير2025.
وفي الوقت الذي كانت فيه الولايات المتحدة، في أزمات سابقة تعتمد على رجال دولة بارزين ذوي كفاءة وحكمة، لتولي دفة القيادة وصنع القرار بالتنسيق مع الحلفاء الغربيين والشركاء الإقليميين، رفض ترامب، أي شكل من أشكال التعاون خارج دائرة إسرائيل. وقد أدى هذا النهج الأحادي إلى جرّ واشنطن، إلى مواجهة مباشرة وعنيفة مع إيران، والتي من المرجح أن يكون الخروج منها أكثر تعقيدًا، وصعوبة من الانخراط فيها، تمامًا كما أثبتت تجارب التدخلات العسكرية الغربية المتكررة في الشرق الأوسط خلال العقود الماضية.
وأثار حسين إيبش، من معهد دول الخليج العربي، كيف تعي إيران الآن إمكانية تعرضها لهجوم من قبل الولايات المتحدة في أي وقت؛ ما يدفعها إلى الاستعداد لتلك اللحظة، بما في ذلك استهداف المصالح الأمريكية بالمنطقة. وفي مواجهة مثل هذا الإجراء، قدر ويشلر، أن النتيجة المتوقعة في أي وقت بالمستقبل هي إمكانية قيام واشنطن وإسرائيل، بتوسيع حملتهم الجوية لاستهداف القدرات العسكرية الأوسع لإيران وقيادتها السياسية وشبكتها الكهربائية ورموز النظام؛ وبالتالي لا يحمل وقف إطلاق النار الهش الذي دخل حيز التنفيذ؛ نهاية مؤكدة لهذا التصعيد، وخاصة مع نهج ترامب المتقلب في خضم هذه الأزمة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك