في عالم تتصاعد فيه الأزمات الجيوسياسية وتتسابق الدول على المياه والغذاء والطاقة، أصبحت البيئة اليوم لاعبًا أساسيًا في معادلة السلام والأمن. لم يعد الأمن البيئي ترفًا فكريًا أو مجرد قضية بيئية منفصلة، بل أصبح حجر الزاوية الذي تُبنى عليه استقرار المجتمعات وازدهارها. إنه السلام الأخضر، ذاك السلام الذي لا يُصنع فقط في غرف التفاوض أو عبر الاتفاقيات السياسية، بل يُرسخ في الحفاظ على أنظمة بيئية عالمية يجب أن تكون متوازنة، بداية من الهواء النقي الذي لا تلوثه نيران الصراعات، وفي مجاري الأنهار والبحيرات التي تترجم في انسيابها معنى السلام الأخضر.
لذا فإن البيئة المتنوعة بدأت من الغابات والمراعي وصوًلا إلى المحيطات ومجمل المناطق الطبيعية في العالم بِرُمَّته، ما شَكَّل خيوطًا لحياة مترابطة، وأي خلل فيها بشكل مباشر أو غير مباشر يؤثر على أمننا الغذائي والمائي والصحي كذلك. فعلى سبيل المثال. وفي السنوات الأخيرة في منطقة حوض الأمازون زادت عملية قطع الأشجار غير القانونية، وأصبحت قضية تناولتها الآراء العالمية ضمن جدول الأعمال البيئي العالمي؛ ذلك لأنها مشكلة لا تؤثر على التنوع البيولوجي فقط، إنما على رفاهية المجتمعات وتجعل مكافحة التغير المناخي أمرًا صعبًا للغاية. وتشير الأرقام الصادرة عن الحكومة البرازيلية إلى تأثير قطع الأشجار غير القانوني، وتظهر بيانات الأقمار الصناعية الصادرة عن المعهد الوطني البرازيلي لأبحاث الفضاء (INPE) أنه تم تدميرها في المدّة من أغسطس 2015 إلى يونيو 2016م، حيثُ وصلت المساحة إلى (7989 كيلومترا مربعًا من الغابات). ومقارنة بالعام السابق، عندما كانت المساحة الإجمالية 6207 كيلومترات، يمثل هذه زيادة كبيرة في إزالة الغابات.
وتُظهر بيانات الأقمار الصناعية الصادرة عن المعهد الوطني البرازيلي لأبحاث الفضاء (INPE) أنه تم تدمير 7989 كيلومترا مربعا من الغابات في المدّة من أغسطس 2015 إلى يونيو 2016. وبالمقارنة بالعام السابق، عندما كانت المساحة 6207 كيلومترات مربعة، تمثل هذه زيادة كبيرة في إزالة الغابات. تشير التوقعات الحالية إلى أن قطع الأشجار مستمر في الزيادة، خاصة في المناطق الرئيسية في منطقة الأمازون، التي أدت إلى زيادة التصحر وتفاقم التغير المناخي، وتهديد استقرار المجتمعات المحلية وزيادة احتمال النزاع حول الموارد، بحسب تقرير الأمم المتحدة للتنوع البيولوجي لسنة 2020، كذلك، أدت أزمة نهر النيل وتوزيع حصص المياه بين دول الحوض إلى توترات سياسية مستمرة، هذا وقد شَكَّلت أزمة المياه أحد أهم أسباب نشوب النزاعات الدولية، حيثُ يقول الدكتور Gleick Peter في هذا السياق: مثلما تقاتلت الدول على النفط، لعبت المياه دورًا في النزاعات الدولية. كانت الموارد المائية أهدافًا عسكرية وسياسية. استخدمت الموارد المائية كأسلحة حرب. كانت أنظمة المياه والبنية التحتية، مثل السدود وقنوات الإمداد أهدافًا للحرب، وإن عدم المساواة في توزيع واستخدام ونتائج إدارة المياه واستخدامها كان مصدر توتر ونزاع، وهنا يتضح كيف أن إدارة الموارد البيئية المشتركة ضرورة للحفاظ على السلام.
إن هذا النوع من السلام الأخضر يربط بين صحة البيئة واستقرار البشرية، باعتبار أن الهواء النظيف والمياه الصالحة للشرب والنظم البيئة السليمة هي بمنزلة حواجز طبيعية يجب أن يكون لها دور في منع اندلاع النزاعات، وتؤسس لبيئة آمنة ومستدامة تنعم فيها مجتمعاتنا بالعيش بكرامة وأمان. وفي المقابل تقف الحروب كأكبر أعداء السلام الأخضر فحين تنفجر النزاعات، لا تزهق الأرواح فقط وتدمر البنية التحتية، بل يتم استباحة الطبيعة، وتتحول الغابات الى ساحات قتال، والمياه تتلوث بفعل القصف والانفجارات والتربة تنهكها السموم والمخلفات الحربية، مثلا الحرب الروسية الأوكرانية التي ابتدأت من سنة 2022 لغاية الآن، التي أدت إلى قصف المنشآت النووية كمحطة زابوريجيا إلى مخاوف من تسرب إشعاعي، بينما تهدد الألغام المزروعة في الحقوق إلى فقدان 30% من الأراضي الزراعية الأوكرانية. وكذلك حرب فيتنام فقد أدى استخدام العامل البرتقالي إلى تدمير 20% من غابات فيتنام، وتلويث 40% من الأراضي الزراعية.
وفي الحقيقة، فإن تعزيز السلام لا يكون بإسكات أصوات المدافع، بل بمنع أن تمتد أي حرب نحو الطبيعة ومواردها. فالحفاظ على البيئة في زمن النزاعات ليس رفاهية، بل واجبا إنسانيا وأخلاقيا يعبد للسلام لونه الأخضر، ويمنحه جذورًا ضاربة في عمق الحياة، وبينما يتأخر الاعتراف العالمي بحجم التهديدات؛ لذا فقد بدأت بعض الدول بخطوات استباقية، فلم تعد الأحزمة الخضراء مجرد مشروعات تجميل بيئي، بل تحولت بعضها إلى جدارات حماية اجتماعية تمنع نزوح الريف وتعزز الاستقرار، كما ظهرت الحاجة إلى إنشاء مراكز إنذار مبكر بيئية وأمنية، تراقب دلائل مثل شح المياه وتدهور الأراضي، وترصد المخاطر قبل أن تتحول إلى أزمات تؤجج النزاعات، ما يمكّن صناع القرار من اتخاذ إجراءات سريعة وفعالة.
ويمتد تأثير غياب السلام البيئي إلى تدمير الموارد الطبيعية التي تمثل ركائز اقتصادية عدّة، مثل السياحة البيئية والثروات الطبيعة، والعديد من الأنشطة القائمة على ضرورة الاستقرار والسلام، مما ينعكس سلبًا على قدرة أي دولة على تحقيق رؤيتها الاقتصادية، ويزيد من هشاشة المجتمعات في مواجهة الأزمات الطارئة. ومن هنا يصبح السلام الأخضر دعامة من دعائم السلام العالمي، الذي يتطلب وعيًا مجتمعيًا، وتشريعات فاعلة ورادعة، وتعاونًا دوليًا عابرًا للحدود، من أجل بيئة عادلة آمنة تحفظ الكرامة الإنسانية وتضمن استدامة الحياة صالحة للأجيال القادمة.
وختامًا: فإن السلام الأخضر لم يعد مجرد حلم بيئي، بل أصبح ضرورة استراتيجية، لضمان استقرار المجتمعات وصحة الكوكب. فعندما تتعرض البيئة لانتهاكات متعمدة أو ممارسات تخريبية، فإن الأثر لا يقتصر على الطبيعة وحدها، بل يمتد ليهدد حياة البشر، ويقوّض أسس الاجتماعي والاقتصادي. وتتجلى مظاهر تهديد السلام الأخضر في صور متعددة، منها التلوث المتعمد للهواء والمياه، وتدمير البنية التحتية الحيوية كالمزارع ومحطات الطاقة ومعالجة مياه الصرف الصحي، مما يؤدي بالتأكيد إلى اختلال التوازن البيئي والمساس بالأمن الغذائي نتيجة تعطيل الإنتاج الزراعي والصيد، وتدهور جودة الحياة وخلق أزمات معيشية قد تُستغل سياسيًا واقتصاديًا.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك