صرنا نعيش في زمن تُؤخذ فيه اللحظات قبل أن تُفهم، وتُنشر الحكايات قبل أن تُروى من أصحابها. الحرمة الشخصية التي كانت يوما بديهية، أصبحت اليوم أمنية. لم يعد يكفي أن نغلق أبوابنا، فالأجهزة الصغيرة باتت أسرع من أن تُستأذن، وأقرب من أن تُمنع.
أمام هذا الواقع المتغير، لم يكن غريبا أن يُعاد النظر في النصوص. قبل أيام، صادق جلالة الملك المعظم على تغييرات مهمة في قانون العقوبات، بموجب القانون رقم (25) لسنة 2025، لتُشدد العقوبات على من ينتهك حرمة الحياة الخاصة، وتضع حدا للتجاوزات اليومية. وهي خطوة لا تتعلق بالنظام فحسب، بل تمس جوهر عيشنا في زمن لم يعد فيه ما هو شخصي حقا.
هذه التغييرات تمس حياتنا بشكل مباشر: من تصوير الناس دون إذنهم، إلى نقل مراسلات خاصة، إلى نشر لقطات للمصابين في الحوادث، بل إن النظام الجديد لم يغفل الرسائل والمكالمات التي تُفشى بلا وجه حق. أصبحت هذه الأفعال اليوم جرائم تُعاقب، لا تصرفات عابرة تمر بلا مساءلة.
وبحكم ثقافتي القانونية أكتب هذا المقال، يمكن القول إن قوة هذه التغييرات لا تكمن في تشديد الجزاءات فقط، بل في دقة الصياغة ووضوحها في تحديد الأفعال المخالفة، ما يعزز فاعلية النص عند التطبيق، ويمنحه قدرة واقعية على صون المساحات الشخصية من الانتهاك.
لكن النظام، مهما اشتد، لا يصون إنسانيتنا وحده. لا يمكنه أن يمنع شخصا من الضغط على زر توثيق، أو من نشر لقطة على ستوري. القانون يردع، نعم، لكنه لا يُربّي. ما يُعلّم هو ما نتربى عليه، ما نراه في بيوتنا، وما نغرسه في أولادنا.
أحيانا، كل ما نحتاج اليه هو أن نُسأل قبل أن نُصوَّر. أن نفكر قبل أن نُبعث. أن نضع أنفسنا مكان الآخر ونتساءل: كيف كنت سأشعر لو كنت أنا في هذه اللقطة؟ أو هذا التسجيل؟ أو هذه الحالة؟
حتى الحفلات النسائية شملها هذا الخرق. تلك المساحة التي كنا نشعر فيها بالطمأنينة، أصبحنا نراقب فيها أنفسنا. نلتفت يمينا ويسارًا قبل أن نضحك. قبل أن نتمايل. قبل أن نشارك في لحظة فرح. كأن البهجة أضحت تخضع لفحص العدسة، وكل لحظة مرشحة لأن تتحول إلى مادة بلا سياق.
بات من المعتاد أن تصل لقطات المصابين إلى هواتف الأصدقاء قبل أن تصل سيارة الإسعاف. تُؤخذ اللقطة، تُبعث، وتتفشى، من دون تفكير في مشاعر أمّ أو أب قد تكون تلك اللقطة هي الصاعقة الأولى التي تخبرهم بالفقد. والنتيجة؟ ألم مضاعف، وذاكرة يصعب محوها.
ولم تسلم حتى المراسلات الخاصة. كثيرون فقدوا الثقة في قروبات العمل أو العائلة، بعدما تحولت رسائلهم إلى مادة للتداول أو السخرية. نُسجت حولها روايات لم تُقال، واقتُطعت منها جمل لتُستخدم خارج سياقها.. فقط لأن أحدهم لم يتعلم أن الحرمة الشخصية ليست مادة للعرض.
وفي بعض البيئات التعليمية، يحدث أن تُؤخذ صور لطالبات خلال فعاليات عفوية دون علمهن. وقد لا تكون اللقطة مسيئة بحد ذاتها، لكن إخراجها من سياقها ومشاركتها مع الغرباء كافٍ ليربك شعور الفتاة بذاتها، ويجعلها أكثر تحفظًا مما يجب.
والمؤلم أكثر حين يُرتكب هذا الانتهاك باسم النصح أو الغيرة على الدين، فنرى لقطات لفتيات في لحظات عادية، مرفقة بتعليقات وعظية قاسية، وكأننا خُوّلنا أن نُربي غيرنا علنا بدل أن نحترم أن لكل إنسان ظرفا وحدودًا لا يراها أحد سواه.
ما يلفت في التغييرات الجديدة أنها لم تكتف بالعقوبة، بل وضعت ضوابط صارمة للنشر، وخصوصا حين يُمس العرض أو تُشوَّه صورة إنسان. وهذا يعكس وعيا قانونيا متقدما بما تعنيه الحرمة الشخصية في عصر الصورة والكلمة السريعة.
وفي ظل التحول الرقمي المتسارع، لم تعد الخصوصية مجرد قيمة اجتماعية، بل أصبحت ضرورة وجودية. الأجهزة تسجل، والتطبيقات تتبع، والمنصات تطلب الإذن لتعرف كل شيء عنا. هذه التفاصيل التي نظنها صغيرة، كأن يظل موقعنا الجغرافي مفعّلا طوال الوقت، أو أن نمرر تفاصيل يومنا على العام، تكشف شيئا أعمق: أننا نعيش بين رغبتين، البقاء مرئيين.. والبقاء آمنين.
إقرار التغييرات يعيد الانتباه إلى قضية نعيشها أكثر مما نتحدث عنها: احترام الحرمة الشخصية. وربما لا نحتاج أكثر من تردد بسيط قبل أن نُصوّر أو نُمرر أو نُبعث. فبعض التفاصيل، وإن بدت عادية، قد تُثقل على من طُبعت صورته من دون إذنه، أو سُرّبت كلماته من دون سياق.
الخصوصية لا يحميها القانون وحده، بل ذلك الوعي الإنساني العفوي بأن لبعض اللحظات حرمة لا تُمس.
rajabnabeela@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك