العدد : ١٧٢٦١ - الخميس ٢٦ يونيو ٢٠٢٥ م، الموافق ٠١ محرّم ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٢٦١ - الخميس ٢٦ يونيو ٢٠٢٥ م، الموافق ٠١ محرّم ١٤٤٧هـ

قضايا و آراء

خصوصيتنا.. حين يرعاها القانون وتصونها المسؤولية

بقلم: نبيلة رجب

الخميس ٢٦ يونيو ٢٠٢٥ - 02:00

صرنا‭ ‬نعيش‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬تُؤخذ‭ ‬فيه‭ ‬اللحظات‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تُفهم،‭ ‬وتُنشر‭ ‬الحكايات‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تُروى‭ ‬من‭ ‬أصحابها‭. ‬الحرمة‭ ‬الشخصية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬يوما‭ ‬بديهية،‭ ‬أصبحت‭ ‬اليوم‭ ‬أمنية‭. ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬يكفي‭ ‬أن‭ ‬نغلق‭ ‬أبوابنا،‭ ‬فالأجهزة‭ ‬الصغيرة‭ ‬باتت‭ ‬أسرع‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تُستأذن،‭ ‬وأقرب‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تُمنع‭.‬

أمام‭ ‬هذا‭ ‬الواقع‭ ‬المتغير،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬غريبا‭ ‬أن‭ ‬يُعاد‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬النصوص‭. ‬قبل‭ ‬أيام،‭ ‬صادق‭ ‬جلالة‭ ‬الملك‭ ‬المعظم‭ ‬على‭ ‬تغييرات‭ ‬مهمة‭ ‬في‭ ‬قانون‭ ‬العقوبات،‭ ‬بموجب‭ ‬القانون‭ ‬رقم‭ (‬25‭) ‬لسنة‭ ‬2025،‭ ‬لتُشدد‭ ‬العقوبات‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬ينتهك‭ ‬حرمة‭ ‬الحياة‭ ‬الخاصة،‭ ‬وتضع‭ ‬حدا‭ ‬للتجاوزات‭ ‬اليومية‭. ‬وهي‭ ‬خطوة‭ ‬لا‭ ‬تتعلق‭ ‬بالنظام‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬تمس‭ ‬جوهر‭ ‬عيشنا‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬فيه‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬شخصي‭ ‬حقا‭.‬

هذه‭ ‬التغييرات‭ ‬تمس‭ ‬حياتنا‭ ‬بشكل‭ ‬مباشر‭: ‬من‭ ‬تصوير‭ ‬الناس‭ ‬دون‭ ‬إذنهم،‭ ‬إلى‭ ‬نقل‭ ‬مراسلات‭ ‬خاصة،‭ ‬إلى‭ ‬نشر‭ ‬لقطات‭ ‬للمصابين‭ ‬في‭ ‬الحوادث،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬النظام‭ ‬الجديد‭ ‬لم‭ ‬يغفل‭ ‬الرسائل‭ ‬والمكالمات‭ ‬التي‭ ‬تُفشى‭ ‬بلا‭ ‬وجه‭ ‬حق‭. ‬أصبحت‭ ‬هذه‭ ‬الأفعال‭ ‬اليوم‭ ‬جرائم‭ ‬تُعاقب،‭ ‬لا‭ ‬تصرفات‭ ‬عابرة‭ ‬تمر‭ ‬بلا‭ ‬مساءلة‭.‬

وبحكم‭ ‬ثقافتي‭ ‬القانونية‭ ‬أكتب‭ ‬هذا‭ ‬المقال،‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬قوة‭ ‬هذه‭ ‬التغييرات‭ ‬لا‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬تشديد‭ ‬الجزاءات‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬دقة‭ ‬الصياغة‭ ‬ووضوحها‭ ‬في‭ ‬تحديد‭ ‬الأفعال‭ ‬المخالفة،‭ ‬ما‭ ‬يعزز‭ ‬فاعلية‭ ‬النص‭ ‬عند‭ ‬التطبيق،‭ ‬ويمنحه‭ ‬قدرة‭ ‬واقعية‭ ‬على‭ ‬صون‭ ‬المساحات‭ ‬الشخصية‭ ‬من‭ ‬الانتهاك‭.‬

لكن‭ ‬النظام،‭ ‬مهما‭ ‬اشتد،‭ ‬لا‭ ‬يصون‭ ‬إنسانيتنا‭ ‬وحده‭. ‬لا‭ ‬يمكنه‭ ‬أن‭ ‬يمنع‭ ‬شخصا‭ ‬من‭ ‬الضغط‭ ‬على‭ ‬زر‭ ‬توثيق،‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬نشر‭ ‬لقطة‭ ‬على‭ ‬ستوري‭. ‬القانون‭ ‬يردع،‭ ‬نعم،‭ ‬لكنه‭ ‬لا‭ ‬يُربّي‭. ‬ما‭ ‬يُعلّم‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬نتربى‭ ‬عليه،‭ ‬ما‭ ‬نراه‭ ‬في‭ ‬بيوتنا،‭ ‬وما‭ ‬نغرسه‭ ‬في‭ ‬أولادنا‭.‬

أحيانا،‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬نحتاج‭ ‬اليه‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬نُسأل‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬نُصوَّر‭. ‬أن‭ ‬نفكر‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬نُبعث‭. ‬أن‭ ‬نضع‭ ‬أنفسنا‭ ‬مكان‭ ‬الآخر‭ ‬ونتساءل‭: ‬كيف‭ ‬كنت‭ ‬سأشعر‭ ‬لو‭ ‬كنت‭ ‬أنا‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬اللقطة؟‭ ‬أو‭ ‬هذا‭ ‬التسجيل؟‭ ‬أو‭ ‬هذه‭ ‬الحالة؟

حتى‭ ‬الحفلات‭ ‬النسائية‭ ‬شملها‭ ‬هذا‭ ‬الخرق‭. ‬تلك‭ ‬المساحة‭ ‬التي‭ ‬كنا‭ ‬نشعر‭ ‬فيها‭ ‬بالطمأنينة،‭ ‬أصبحنا‭ ‬نراقب‭ ‬فيها‭ ‬أنفسنا‭. ‬نلتفت‭ ‬يمينا‭ ‬ويسارًا‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬نضحك‭. ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬نتمايل‭. ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬نشارك‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬فرح‭. ‬كأن‭ ‬البهجة‭ ‬أضحت‭ ‬تخضع‭ ‬لفحص‭ ‬العدسة،‭ ‬وكل‭ ‬لحظة‭ ‬مرشحة‭ ‬لأن‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬مادة‭ ‬بلا‭ ‬سياق‭.‬

بات‭ ‬من‭ ‬المعتاد‭ ‬أن‭ ‬تصل‭ ‬لقطات‭ ‬المصابين‭ ‬إلى‭ ‬هواتف‭ ‬الأصدقاء‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تصل‭ ‬سيارة‭ ‬الإسعاف‭. ‬تُؤخذ‭ ‬اللقطة،‭ ‬تُبعث،‭ ‬وتتفشى،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬تفكير‭ ‬في‭ ‬مشاعر‭ ‬أمّ‭ ‬أو‭ ‬أب‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬تلك‭ ‬اللقطة‭ ‬هي‭ ‬الصاعقة‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬تخبرهم‭ ‬بالفقد‭. ‬والنتيجة؟‭ ‬ألم‭ ‬مضاعف،‭ ‬وذاكرة‭ ‬يصعب‭ ‬محوها‭.‬

ولم‭ ‬تسلم‭ ‬حتى‭ ‬المراسلات‭ ‬الخاصة‭. ‬كثيرون‭ ‬فقدوا‭ ‬الثقة‭ ‬في‭ ‬قروبات‭ ‬العمل‭ ‬أو‭ ‬العائلة،‭ ‬بعدما‭ ‬تحولت‭ ‬رسائلهم‭ ‬إلى‭ ‬مادة‭ ‬للتداول‭ ‬أو‭ ‬السخرية‭. ‬نُسجت‭ ‬حولها‭ ‬روايات‭ ‬لم‭ ‬تُقال،‭ ‬واقتُطعت‭ ‬منها‭ ‬جمل‭ ‬لتُستخدم‭ ‬خارج‭ ‬سياقها‭.. ‬فقط‭ ‬لأن‭ ‬أحدهم‭ ‬لم‭ ‬يتعلم‭ ‬أن‭ ‬الحرمة‭ ‬الشخصية‭ ‬ليست‭ ‬مادة‭ ‬للعرض‭.‬

وفي‭ ‬بعض‭ ‬البيئات‭ ‬التعليمية،‭ ‬يحدث‭ ‬أن‭ ‬تُؤخذ‭ ‬صور‭ ‬لطالبات‭ ‬خلال‭ ‬فعاليات‭ ‬عفوية‭ ‬دون‭ ‬علمهن‭. ‬وقد‭ ‬لا‭ ‬تكون‭ ‬اللقطة‭ ‬مسيئة‭ ‬بحد‭ ‬ذاتها،‭ ‬لكن‭ ‬إخراجها‭ ‬من‭ ‬سياقها‭ ‬ومشاركتها‭ ‬مع‭ ‬الغرباء‭ ‬كافٍ‭ ‬ليربك‭ ‬شعور‭ ‬الفتاة‭ ‬بذاتها،‭ ‬ويجعلها‭ ‬أكثر‭ ‬تحفظًا‭ ‬مما‭ ‬يجب‭.‬

والمؤلم‭ ‬أكثر‭ ‬حين‭ ‬يُرتكب‭ ‬هذا‭ ‬الانتهاك‭ ‬باسم‭ ‬النصح‭ ‬أو‭ ‬الغيرة‭ ‬على‭ ‬الدين،‭ ‬فنرى‭ ‬لقطات‭ ‬لفتيات‭ ‬في‭ ‬لحظات‭ ‬عادية،‭ ‬مرفقة‭ ‬بتعليقات‭ ‬وعظية‭ ‬قاسية،‭ ‬وكأننا‭ ‬خُوّلنا‭ ‬أن‭ ‬نُربي‭ ‬غيرنا‭ ‬علنا‭ ‬بدل‭ ‬أن‭ ‬نحترم‭ ‬أن‭ ‬لكل‭ ‬إنسان‭ ‬ظرفا‭ ‬وحدودًا‭ ‬لا‭ ‬يراها‭ ‬أحد‭ ‬سواه‭.‬

ما‭ ‬يلفت‭ ‬في‭ ‬التغييرات‭ ‬الجديدة‭ ‬أنها‭ ‬لم‭ ‬تكتف‭ ‬بالعقوبة،‭ ‬بل‭ ‬وضعت‭ ‬ضوابط‭ ‬صارمة‭ ‬للنشر،‭ ‬وخصوصا‭ ‬حين‭ ‬يُمس‭ ‬العرض‭ ‬أو‭ ‬تُشوَّه‭ ‬صورة‭ ‬إنسان‭. ‬وهذا‭ ‬يعكس‭ ‬وعيا‭ ‬قانونيا‭ ‬متقدما‭ ‬بما‭ ‬تعنيه‭ ‬الحرمة‭ ‬الشخصية‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬الصورة‭ ‬والكلمة‭ ‬السريعة‭.‬

وفي‭ ‬ظل‭ ‬التحول‭ ‬الرقمي‭ ‬المتسارع،‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬الخصوصية‭ ‬مجرد‭ ‬قيمة‭ ‬اجتماعية،‭ ‬بل‭ ‬أصبحت‭ ‬ضرورة‭ ‬وجودية‭. ‬الأجهزة‭ ‬تسجل،‭ ‬والتطبيقات‭ ‬تتبع،‭ ‬والمنصات‭ ‬تطلب‭ ‬الإذن‭ ‬لتعرف‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬عنا‭. ‬هذه‭ ‬التفاصيل‭ ‬التي‭ ‬نظنها‭ ‬صغيرة،‭ ‬كأن‭ ‬يظل‭ ‬موقعنا‭ ‬الجغرافي‭ ‬مفعّلا‭ ‬طوال‭ ‬الوقت،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬نمرر‭ ‬تفاصيل‭ ‬يومنا‭ ‬على‭ ‬العام،‭ ‬تكشف‭ ‬شيئا‭ ‬أعمق‭: ‬أننا‭ ‬نعيش‭ ‬بين‭ ‬رغبتين،‭ ‬البقاء‭ ‬مرئيين‭.. ‬والبقاء‭ ‬آمنين‭.‬

إقرار‭ ‬التغييرات‭ ‬يعيد‭ ‬الانتباه‭ ‬إلى‭ ‬قضية‭ ‬نعيشها‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬نتحدث‭ ‬عنها‭: ‬احترام‭ ‬الحرمة‭ ‬الشخصية‭. ‬وربما‭ ‬لا‭ ‬نحتاج‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬تردد‭ ‬بسيط‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬نُصوّر‭ ‬أو‭ ‬نُمرر‭ ‬أو‭ ‬نُبعث‭. ‬فبعض‭ ‬التفاصيل،‭ ‬وإن‭ ‬بدت‭ ‬عادية،‭ ‬قد‭ ‬تُثقل‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬طُبعت‭ ‬صورته‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬إذنه،‭ ‬أو‭ ‬سُرّبت‭ ‬كلماته‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬سياق‭.‬

الخصوصية‭ ‬لا‭ ‬يحميها‭ ‬القانون‭ ‬وحده،‭ ‬بل‭ ‬ذلك‭ ‬الوعي‭ ‬الإنساني‭ ‬العفوي‭ ‬بأن‭ ‬لبعض‭ ‬اللحظات‭ ‬حرمة‭ ‬لا‭ ‬تُمس‭.‬

 

rajabnabeela@gmail‭.‬com

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا