يطلق البعض على تبني الأمم المتحدة نهج الالتزام بالاستدامة في سياسات التنمية بأنه يمثل ثورة جديدة في المسيرة الانسانية ، فهوية الثورة التي أنا بصدد الحديث عنها أنها جامعة وشاملة، تغطي جميع القطاعات التنموية، وتشمل كافة المجالات والتخصصات، فهي ليست ضيقة الأهداف، كما هو الحال بالنسبة للثورات السابقة، وليست محددة في قطاع صغير في المجتمع، ولذلك أُطلق عليها ثورة الاستدامة، أي الثورة التي تضمن استدامة جميع الثورات السابقة، وتعمل على استمرارية عطائها وانتاجها لهذا الجيل والأجيال اللاحقة من بعدنا، فهي بذلك تستحق وبكل جدارة لقب «أم الثورات».
فالثورة الصناعية الأولى التي بدأت عام 1760 في بريطانيا العظمى كانت متخصصة في تصميم وتطوير المحرك البخاري، وصناعة الآليات والمعدات التي تعمل بالبخار. وهذه الصناعة أحدثت عدة تحولات في المجتمع، فتم استخدام الطاقة الميكانيكية وطاقة الوقود الأحفوري بدلاً من طاقة الحيوانات والطاقة البشرية والأيدي العاملة للإنسان، فحلَّت الآليات مكان الإنسان. وفي الوقت نفسه أحدثت هزة عميقة في نوعية الأعمال والمهن التي كان يمارسها الإنسان، من المهن الزراعية والحرفية البسيطة على نطاق ضيق في الأرياف وضواحي المدن إلى التصنيع والعمليات الصناعية المختلفة في داخل المدن، أو خطوط التجميع الصناعي، ما أدى إلى توسع المدن وامتدادها، وزيادة مساحتها. ومع الوقت ارتفعت وتيرة وسرعة النمو الصناعي من الناحيتين الكمية العددية، ومن الناحية النوعية وزيادة أعداد المواد المنتجة والمصنعة.
ثم جاءت الثورة الصناعية الثانية في عام 1900، حيث تخصصت في اختراع محرك الاحتراق الداخلي، كما هو موجود الآن في معظم السيارات التي تعمل بأحد مشتقات النفط، ونجم عن هذا الاختراع العظيم طفرة كبيرة وعلى نطاق واسع في إنتاج وصناعة أعدادٍ كبيرة من المنتجات المختلفة التي يحتاج إليها الإنسان في حياته اليومية وأصبح الآن لا يستغني عنها، فتحول المجتمع برمته إلى عصر الاستهلاك الشديد، والاستنزاف المستمر للموارد والثروات الطبيعية وتدهورها نوعاً وكماً، وعصر إنتاج المخلفات الصلبة بجميع أنواعها وأحجامها.
أما الثورة الصناعية الثالثة فقد فُتحت أبوابها في عام 1960، وهي متخصصة في الإلكترونيات ومجال الرقميات، وتكنولوجيا المعلومات، والإنترنت، ولذلك أُطلق عليها الثورة الرقمية. وهذه الثورة تركزت بشكل كبير في قطاع الاتصالات والتواصل الاجتماعي بجميع أنواعه وأشكاله.
أما الثورة الرابعة التي بدأت قرابة عام 2016 ومازالت مستمرة حتى الآن، فهي ولوج برامج الذكاء الاصطناعي بعمق وعلى نطاق واسع جداً، إضافة إلى تكنولوجيا النانو في جميع مجالات الحياة، ما أدى إلى رفع الكفاءة والسرعة والدقة في الإنجاز والعطاء.
فثورة الاستدامة كانت ضرورية وحتمية لضمان استدامة الثورات السابقة التي قام بها الإنسان نفسه، فالواقع البيئي المُر، والكرب العظيم الذي تمخض ونجم عن هذه الثورات من تدميرٍ نوعي وكمي عقيمين لكافة المكونات البيئية، واستنزافٍ وتدهور شامل لمواردها وثرواتها الفطرية الطبيعية وانعكاس ذلك كله على الأمن الصحي للإنسان، وخاصة في الثورتين الأولى والثانية، ألزم الإنسان واضطره إلى التفكير بجدية وعمق في القيام بثورة جديدة أخرى تضمن استمرارية هذه الإنجازات العظيمة التي حققها الإنسان على مدى قرون طويلة وشاقة، وتؤكد وجود هذه المكاسب البشرية غير المسبوقة في التاريخ لأجيال قادمة مستقبلية.
فكان لا بد إذن من مَسِيْرة تصحيحية واضحة المعالم، ولا بد من تقييم وتقويم التجارب والخبرات البشرية السابقة المتراكمة عبر القرون، ولا بد من الاستفادة من أخطاء وزلات الماضي وسلبيات التنمية، ولا بد أيضاً من وضع منهج مستدام ومستقيم جماعي ومشترك على المستوى الدولي، بحيث يسير عليه قطار التنمية البشرية عبر جميع دول العالم وفي جميع القطاعات والمجالات من دون أن ينحرف عن الطريق المستقيم، ومن دون أن يتوقف مع الزمن.
فهذه الثورات المتخصصة السابقة والحالية يجب ألا تكون على حساب قضايا حياتية أخرى يحتاج إليها البشر في هذا الجيل والأجيال المتلاحقة القادمة، فلا تبني هذه الثورات في مكان وتهدم في مكان آخر، ولا تُعمر في قطاع وتفسد قطاعاً آخر، ولا تُحسِّن جانباً من معيشة وحياة الإنسان وتضر بجوانب أخرى كثيرة، كالصحة العامة وصحة وسلامة عناصر البيئة.
فهذه الثورة الجامعة والشاملة استندت على مبدأ «الاستدامة» في جميع المجالات الحياتية مهما كان نوع هذه التنمية، ومهما كان حجمها، وفي أي قطاع كانت، فأي عمل يقوم به الإنسان، وأي اختراع يقدمه للبشرية، وأي منتج يسوقه للناس، يجب أن يتوافق مع هذا المبدأ، فيحقق استدامة هذا الإنجاز والعمل، وبالتالي يصب في تحقيق الهدف الأسمى وهو «التنمية المستدامة».
ولذلك تم تحديد ثلاثة أركان لتحقيق هذه الاستدامة الشاملة، وهي الاستدامة من الناحية البيئية، ثم من الناحية الاقتصادية، وأخيراً من الناحية الاجتماعية. وهذا يعني أن أي مشروع يحقق النمو الاقتصادي فقط، وذي جدوى مالية عالية ويحقق مكاسب اقتصادية كبيرة، ولكن في الوقت نفسه يلوث الماء، أو الهواء، أو التربة، أو يضر بصحة وسلامة الإنسان والحياة الفطرية، فإن هذا المشروع يكون مرفوضاً على كافة المستويات القومية، والإقليمية، والدولية، ويصنَّف بأنه مشروع «غير مستدام»، ويجب إيقافه كليا، أو إعادة تقييمه وتصحيحه لتخفيف وخفض الضرر على البيئة والإنسان.
فالثورات الصناعية السابقة، وخاصة الثورة الصناعية الأولى والثانية لم تَعْلم بما يتمخض عنها من سلبيات تهدد صحة الإنسان من جهة، وسلامة الموارد البيئية الفطرية الحية وغير الحية، ثم بعد وقوع الكوارث البيئية التي سقطت فيها ضحايا بشرية، عرف الإنسان بأن لثورته الصناعية تداعيات يجب مواجهتها وعدم تجاهلها وغض الطرف عنها. فالوقود المستخدم في المحركات البخارية ثم محركات الاحتراق الداخلي وتوليد الكهرباء كان من أسوأ أنواع الوقود الأحفوري، وأشده وطأة وتنكيلاً بصحة الإنسان وبيئته، فكون مشكلات ومظاهر تخطت الحدود الجغرافية للدول وأثرت على صحة الإنسان، مثل المطر الحمضي، والضباب الأسود والضباب الضوئي الكيميائي، وتدهور غاز الأوزون في طبقة الأوزون، والتغير المناخي، والمد الأحمر والأخضر في المسطحات المائية، ومشكلة العناصر الثقيلة المسرطنة كالزئبق، والرصاص، والكروميوم. ثم الثورة الصناعية الثالثة والرابعة تمخضت عنها أيضاً أزمات بيئية وصحية خطيرة كالمخلفات الإلكترونية الخطرة والسامة، إضافة إلى المخلفات الفضائية الناجمة عن الأقمار الصناعية التي انتهت مدتها والملايين من الجسيمات الفضائية التي نجمت عن الحوادث المرورية في شوارع الفضاء، والتي يُطلق عليها المدارات الأرضية المنخفضة، كما أن مثل هذه البرامج والاستكشافات الفضائية أدت إلى تلوث الهواء في البيئات الفضائية العليا.
فكان لا بد إذن من إحداث ثورة بديلة عامة وجامعة تواجه كل هذه التحديات القديمة والمستجدة والمستقبلية، وتحقق استدامة جميع الأنشطة البشرية في جميع القطاعات وفي جميع الدول، فكانت أم الثورات، ثورة الاستدامة، بيئيًّا، واجتماعيًّا، واقتصاديًّا.
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك