العدد : ١٧٢٠١ - الأحد ٢٧ أبريل ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٩ شوّال ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٢٠١ - الأحد ٢٧ أبريل ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٩ شوّال ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

بابا الفاتيكان كان صوتا إنسانيا عالميا

بقلم: نبيلة رجب

الجمعة ٢٥ أبريل ٢٠٢٥ - 02:00

لم‭ ‬يكن‭ ‬الأعلى‭ ‬صوتا،‭ ‬لكنه‭ ‬كان‭ ‬قريبا‭ ‬من‭ ‬وجدان‭ ‬العالم‭. ‬لم‭ ‬يأتِ‭ ‬ليعرّف‭ ‬الناس‭ ‬بدين،‭ ‬بل‭ ‬ليذكرهم‭ ‬بما‭ ‬يكاد‭ ‬ينسى‭: ‬إن‭ ‬الإنسان،‭ ‬أيا‭ ‬كانت‭ ‬عقيدته،‭ ‬لا‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يعامل‭ ‬إلا‭ ‬بما‭ ‬يستحقه‭ ‬من‭ ‬كرامة‭ ‬ورحمة‭.‬

منذ‭ ‬أن‭ ‬اعتلى‭ ‬الكرسي‭ ‬البابوي‭ ‬عام‭ ‬2013،‭ ‬لم‭ ‬يختبئ‭ ‬خلف‭ ‬الألقاب،‭ ‬ولم‭ ‬يختصر‭ ‬سلطته‭ ‬في‭ ‬البروتوكول‭. ‬اختار‭ ‬اسمه‭ ‬تيمنا‭ ‬بالقديس‭ ‬فرنسيس‭ ‬الأسيزي،‭ ‬رمز‭ ‬البساطة،‭ ‬كأنما‭ ‬أراد‭ ‬أن‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬لن‭ ‬أخاطبكم‭ ‬كقائد،‭ ‬بل‭ ‬كأخ‮»‬‭. ‬ومنذ‭ ‬ذلك‭ ‬الحين،‭ ‬انشغل‭ ‬بفتح‭ ‬ملفات‭ ‬ثقيلة‭ ‬على‭ ‬الذاكرة‭ ‬الكنسية‭ ‬والضمير‭ ‬الإنساني،‭ ‬لكنه‭ ‬لم‭ ‬يتردد‭.‬

في‭ ‬قضية‭ ‬اللاجئين‭ ‬والمهاجرين،‭ ‬كان‭ ‬صوته‭ ‬أشبه‭ ‬بيد‭ ‬ممدودة‭. ‬دعا‭ ‬الدول‭ ‬إلى‭ ‬عدم‭ ‬الاكتفاء‭ ‬ببيانات‭ ‬التعاطف،‭ ‬بل‭ ‬فتح‭ ‬الأبواب‭ ‬والقلوب‭. ‬حين‭ ‬قبّل‭ ‬طفلا‭ ‬سودانيا‭ ‬نازحا،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ذلك‭ ‬فعلا‭ ‬رمزيا،‭ ‬بل‭ ‬تعبيرًا‭ ‬نقيا‭ ‬عن‭ ‬فلسفة‭ ‬كاملة‭: ‬إن‭ ‬العطف‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬جغرافيا،‭ ‬وإن‭ ‬الأطفال‭ ‬جميعهم‭ ‬أبناؤنا،‭ ‬ولو‭ ‬وُلدوا‭ ‬في‭ ‬أوطانٍ‭ ‬لا‭ ‬نعرفها‭.‬

في‭ ‬فلسطين،‭ ‬حضر‭ ‬هناك‭ ‬كصوت‭ ‬للضمير،‭ ‬لا‭ ‬كمراقب‭ ‬بعيد،‭ ‬وقف‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬لحم،‭ ‬صلّى‭ ‬مع‭ ‬المظلومين،‭ ‬وتحدث‭ ‬عن‭ ‬حق‭ ‬الشعب‭ ‬الفلسطيني‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬آمنة‭ ‬وكريمة‭. ‬رفض‭ ‬العنف،‭ ‬لكنه‭ ‬لم‭ ‬يساوِ‭ ‬بين‭ ‬الضحية‭ ‬والجلاد‭. ‬وفي‭ ‬جنوب‭ ‬السودان،‭ ‬استمع‭ ‬إلى‭ ‬أطفال‭ ‬بلا‭ ‬مدارس،‭ ‬بلا‭ ‬مأوى،‭ ‬بلا‭ ‬أمل‭. ‬لم‭ ‬يعدهم‭ ‬بأحلام‭ ‬زائفة،‭ ‬لكنه‭ ‬تحدث‭ ‬إليهم‭ ‬كما‭ ‬يتحدث‭ ‬الأب‭ ‬لأبنائه،‭ ‬بصدقٍ‭ ‬وحزن‭ ‬وأمل‭.‬

لم‭ ‬تكن‭ ‬البيئة‭ ‬بعيدة‭ ‬عن‭ ‬اهتمامه‭. ‬في‭ ‬رسالته‭ ‬‮«‬كن‭ ‬مسبحا‮»‬،‭ ‬حمل‭ ‬البشرية‭ ‬مسؤولية‭ ‬تدمير‭ ‬الأرض،‭ ‬ودافع‭ ‬عن‭ ‬الطبيعة‭ ‬كما‭ ‬يدافع‭ ‬عن‭ ‬الفقراء،‭ ‬لأن‭ ‬الأذى‭ ‬واحد،‭ ‬والمظلوم‭ ‬في‭ ‬الحالتين‭ ‬هو‭ ‬الأضعف‭ ‬صوتا‭.‬

حتى‭ ‬داخل‭ ‬المسيحية،‭ ‬لم‭ ‬يكتفِ‭ ‬بالتسامح،‭ ‬بل‭ ‬حاول‭ ‬لمّ‭ ‬الشمل‭. ‬جلس‭ ‬مع‭ ‬من‭ ‬اختلف‭ ‬معهم‭ ‬منذ‭ ‬قرون،‭ ‬تبادل‭ ‬معهم‭ ‬الأحاديث،‭ ‬والصلوات‭ ‬أحيانا‭. ‬لم‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬تطابق،‭ ‬بل‭ ‬عن‭ ‬مساحة‭ ‬لقاء‭. ‬قالها‭ ‬ببساطة‭: ‬‮«‬دعونا‭ ‬نبدأ‭ ‬بالحب،‭ ‬فالعقيدة‭ ‬لا‭ ‬تثمر‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬تتجذر‭ ‬في‭ ‬الرحمة‮»‬‭.‬

وفي‭ ‬ملف‭ ‬طالما‭ ‬أُغلق‭ ‬بالصمت،‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬موقف‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬تجاهله‭.  ‬ملف‭ ‬الاعتداءات‭ ‬الجنسية‭ ‬داخل‭ ‬الكنائس،‭ ‬وما‭ ‬تبعها‭ ‬من‭ ‬تستر‭ ‬وخذلان،‭ ‬فتحها‭ ‬البابا‭ ‬بشجاعة‭ ‬نادرة‭. ‬أقرّ‭ ‬بالأخطاء،‭ ‬اعتذر،‭ ‬وأصدر‭ ‬قوانين‭ ‬تلزم‭ ‬بالإبلاغ‭ ‬والمحاسبة،‭ ‬ورفع‭ ‬السرية‭ ‬عن‭ ‬القضايا،‭ ‬لتعود‭ ‬العدالة‭ ‬صوتا‭ ‬لا‭ ‬همسا‭. ‬ربما‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ما‭ ‬فعله‭ ‬كافيا‭ ‬للجميع،‭ ‬لكنه‭ ‬كان‭ ‬بداية‭ ‬لزمن‭ ‬جديد‭ ‬من‭ ‬الشفافية‭.‬

البابا‭ ‬فرنسيس،‭ ‬في‭ ‬عمقه،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬صدى‭ ‬لمذهب،‭ ‬بل‭ ‬صدى‭ ‬لإنسانية‭ ‬تعبت‭ ‬من‭ ‬الأصوات‭ ‬المرتفعة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تسمع‭ ‬أحدا‭. ‬رحل،‭ ‬لكن‭ ‬صوته‭ ‬مازال‭ ‬يتردد‭: ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬إنسانا،‭ ‬فهذا‭ ‬أعظم‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬الألقاب‭. ‬أن‭ ‬تتحدث‭ ‬للناس‭ ‬جميعا‭ ‬بلغة‭ ‬واحدة،‭ ‬هي‭ ‬لغة‭ ‬القلب،‭ ‬فهذا‭ ‬هو‭ ‬المعنى‭ ‬الأسمى‭ ‬للدين،‭ ‬بل‭ ‬للحياة‭.‬

في‭ ‬زمن‭ ‬تزداد‭ ‬فيه‭ ‬الأسوار‭ ‬وتضيق‭ ‬فيه‭ ‬الآفاق،‭ ‬مرّ‭ ‬من‭ ‬يفتح‭ ‬النوافذ‭. ‬لم‭ ‬يطلب‭ ‬منا‭ ‬أن‭ ‬نتشابه،‭ ‬بل‭ ‬أن‭ ‬نتحاب‭. ‬وبهذا‭ ‬فقط،‭ ‬يبقى‭ ‬الأثر‭ ‬حيا،‭ ‬لا‭ ‬يقاس‭ ‬بما‭ ‬آمن‭ ‬به،‭ ‬بل‭ ‬بما‭ ‬آمن‭ ‬لأجله‭: ‬وهو‭ ‬الإنسان‭.‬

rajabnabeela@gmail‭.‬com

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا