لم يكن الأعلى صوتا، لكنه كان قريبا من وجدان العالم. لم يأتِ ليعرّف الناس بدين، بل ليذكرهم بما يكاد ينسى: إن الإنسان، أيا كانت عقيدته، لا يجب أن يعامل إلا بما يستحقه من كرامة ورحمة.
منذ أن اعتلى الكرسي البابوي عام 2013، لم يختبئ خلف الألقاب، ولم يختصر سلطته في البروتوكول. اختار اسمه تيمنا بالقديس فرنسيس الأسيزي، رمز البساطة، كأنما أراد أن يقول: «لن أخاطبكم كقائد، بل كأخ». ومنذ ذلك الحين، انشغل بفتح ملفات ثقيلة على الذاكرة الكنسية والضمير الإنساني، لكنه لم يتردد.
في قضية اللاجئين والمهاجرين، كان صوته أشبه بيد ممدودة. دعا الدول إلى عدم الاكتفاء ببيانات التعاطف، بل فتح الأبواب والقلوب. حين قبّل طفلا سودانيا نازحا، لم يكن ذلك فعلا رمزيا، بل تعبيرًا نقيا عن فلسفة كاملة: إن العطف لا يعرف جغرافيا، وإن الأطفال جميعهم أبناؤنا، ولو وُلدوا في أوطانٍ لا نعرفها.
في فلسطين، حضر هناك كصوت للضمير، لا كمراقب بعيد، وقف في بيت لحم، صلّى مع المظلومين، وتحدث عن حق الشعب الفلسطيني في حياة آمنة وكريمة. رفض العنف، لكنه لم يساوِ بين الضحية والجلاد. وفي جنوب السودان، استمع إلى أطفال بلا مدارس، بلا مأوى، بلا أمل. لم يعدهم بأحلام زائفة، لكنه تحدث إليهم كما يتحدث الأب لأبنائه، بصدقٍ وحزن وأمل.
لم تكن البيئة بعيدة عن اهتمامه. في رسالته «كن مسبحا»، حمل البشرية مسؤولية تدمير الأرض، ودافع عن الطبيعة كما يدافع عن الفقراء، لأن الأذى واحد، والمظلوم في الحالتين هو الأضعف صوتا.
حتى داخل المسيحية، لم يكتفِ بالتسامح، بل حاول لمّ الشمل. جلس مع من اختلف معهم منذ قرون، تبادل معهم الأحاديث، والصلوات أحيانا. لم يبحث عن تطابق، بل عن مساحة لقاء. قالها ببساطة: «دعونا نبدأ بالحب، فالعقيدة لا تثمر ما لم تتجذر في الرحمة».
وفي ملف طالما أُغلق بالصمت، كان له موقف لا يمكن تجاهله. ملف الاعتداءات الجنسية داخل الكنائس، وما تبعها من تستر وخذلان، فتحها البابا بشجاعة نادرة. أقرّ بالأخطاء، اعتذر، وأصدر قوانين تلزم بالإبلاغ والمحاسبة، ورفع السرية عن القضايا، لتعود العدالة صوتا لا همسا. ربما لم يكن ما فعله كافيا للجميع، لكنه كان بداية لزمن جديد من الشفافية.
البابا فرنسيس، في عمقه، لم يكن صدى لمذهب، بل صدى لإنسانية تعبت من الأصوات المرتفعة التي لا تسمع أحدا. رحل، لكن صوته مازال يتردد: أن تكون إنسانا، فهذا أعظم من كل الألقاب. أن تتحدث للناس جميعا بلغة واحدة، هي لغة القلب، فهذا هو المعنى الأسمى للدين، بل للحياة.
في زمن تزداد فيه الأسوار وتضيق فيه الآفاق، مرّ من يفتح النوافذ. لم يطلب منا أن نتشابه، بل أن نتحاب. وبهذا فقط، يبقى الأثر حيا، لا يقاس بما آمن به، بل بما آمن لأجله: وهو الإنسان.
rajabnabeela@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك