العدد : ١٧٢٦٥ - الاثنين ٣٠ يونيو ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٥ محرّم ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٢٦٥ - الاثنين ٣٠ يونيو ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٥ محرّم ١٤٤٧هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

اللغو سلاح للخداع

هناك‭ ‬مثل‭ ‬إنجليزي‭ ‬يقول‭: ‬كيف‭ ‬تعرف‭ ‬أن‭ ‬السياسي‭ ‬يكذب؟‭ ‬الإجابة‭: ‬عندما‭ ‬ترى‭ ‬شفتيه‭ ‬تتحركان‭. ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬سودانية‭ ‬عملت‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬حياتي‭ ‬العملية،‭ ‬لفت‭ ‬نظري‭ ‬شاب‭ ‬يملك‭ ‬قدرات‭ ‬خطابية‭ ‬عالية،‭ ‬ولا‭ ‬يتلجلج‭ ‬أمام‭ ‬الميكروفون،‭ ‬بل‭ ‬تتدفق‭ ‬الكلمات‭ ‬من‭ ‬فمه‭ ‬كالشلال‭ ‬مشحونة‭ ‬بالمعلومات‭ ‬الدسمة،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬خطبه‭ ‬السياسية‭ ‬تستقطب‭ ‬جمهورا‭ ‬كبيرا،‭ ‬ما‭ ‬جعله‭ ‬نجما‭ ‬مرموقا‭ ‬في‭ ‬صفوف‭ ‬الحزب‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬ينتمي‭ ‬اليه،‭ ‬لكنني‭ ‬لاحظت‭ ‬أنه‭ ‬يتلاعب‭ ‬بالحقائق‭ ‬والأرقام‭ ‬والتواريخ،‭ ‬ولا‭ ‬يتردد‭ ‬في‭ ‬القول‭ ‬بأن‭ ‬حدثا‭ ‬مهما‭ ‬وقع‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬الحادي‭ ‬والثلاثين‭ ‬من‭ ‬فبراير،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ -‬مثلا‭- ‬‮«‬يوثق‮»‬‭ ‬كلامه‭ ‬بتأكيد‭ ‬أن‭ ‬الزعيم‭ ‬السوداني‭ ‬الكبير‭ ‬إسماعيل‭ ‬الازهري‭ ‬خاطب‭ ‬الجمعية‭ ‬العامة‭ ‬للأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬في‭ ‬تمام‭ ‬التاسعة‭ ‬صباحا‭ ‬بتوقيت‭ ‬الخرطوم‭ ‬في‭ ‬الخامس‭ ‬من‭ ‬مارس‭ ‬من‭ ‬عام‭ ‬1935‭ ‬طالبا‭ ‬الدعم‭ ‬لإخراج‭ ‬الإنجليز‭ ‬من‭ ‬السودان،‭ ‬وكان‭ ‬الناس‭ ‬يعجبون‭ ‬بذاكرته‭ ‬الفذة‭ ‬التي‭ ‬تختزن‭ ‬تفاصيل‭ ‬الأشياء،‭ ‬ولكن‭ ‬قلة‭ ‬منهم‭ ‬كانت‭ ‬تنتبه‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬هناك‭ ‬أمم‭ ‬متحدة‭ ‬عام‭ ‬1935،‭ ‬وأن‭ ‬الأزهري‭ ‬لم‭ ‬يسافر‭ ‬إلى‭ ‬نيويورك‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬السنة‭ ‬ولا‭ ‬بعدها‭ ‬بعشر‭ ‬سنوات،‭ ‬وقد‭ ‬قاطعته‭ ‬مرة‭ ‬منبها‭ ‬إياه‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬التواريخ‭ ‬التي‭ ‬أوردها‭ ‬غير‭ ‬صحيحة‭ ‬فأفحمني‭ ‬بسيل‭ ‬من‭ ‬الأكاذيب‭ ‬مثل‭: ‬راجع‭ ‬الطبعة‭ ‬الثالثة‭ ‬من‭ ‬صحيفة‭ ‬نيويورك‭ ‬تايمز‭ ‬ليوم‭ ‬الخميس‭ ‬6‭ ‬أبريل‭ ‬من‭ ‬عام‭ ‬1955‭ ‬وأخرج‭ ‬من‭ ‬جيبه‭ ‬شريطا‭ ‬مسجلا‭ ‬زعم‭ ‬أن‭ ‬به‭ ‬خطبة‭ ‬لزعيم‭ ‬مات‭ ‬قبل‭ ‬اختراع‭ ‬التسجيل‭ ‬الصوتي،‭ ‬وصادقت‭ ‬الرجل‭ ‬لاحقا‭ ‬واعترف‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬الخطابة‭ ‬المنبرية‭ ‬تتطلب‭ ‬جرأة‭ ‬في‭ ‬طرح‭ ‬الحقائق‭ ‬والأرقام‭ ‬بغض‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬صحتها،‭ ‬واعترف‭ ‬أيضا‭ ‬أن‭ ‬الغوغائية‭ ‬سلاح‭ ‬فعال‭ ‬للتعبئة‭ ‬السياسية،‭ ‬وأنه‭ ‬لا‭ ‬بأس‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬تدرك‭ ‬قلة‭ ‬انه‭  ‬خراط‭ ‬وهجاص‭ ‬وشلاخ‭ ‬وأفاق‭ ‬طالما‭ ‬غالبية‭ ‬مستمعيه‭ ‬مقتنعون‭ ‬بصحة‭ ‬ما‭ ‬يقول،‭ ‬وأضاف‭ ‬أن‭ ‬الساسة‭ ‬يكذبون‭ ‬ويحولون‭ ‬العجز‭ ‬في‭ ‬الميزانية‭ ‬الى‭ ‬فائض،‭ ‬وإذا‭ ‬افتتحوا‭ ‬سوقا‭ ‬جديدة‭ ‬للعلف‭ ‬زعموا‭ ‬انه‭ ‬بداية‭ ‬طفرة‭ ‬صناعية،‭ ‬وإذا‭ ‬حدث‭ ‬شح‭ ‬في‭ ‬المواد‭ ‬التموينية‭ ‬قالوا‭ ‬إنه‭ ‬مؤامرة‭ ‬إمبريالية‭ ‬‮«‬تهدف‭ ‬إلى‭ ‬النيل‭ ‬من‭ ‬مكتسبات‭ ‬الثورة‮»‬‭. ‬وكانت‭ ‬زبدة‭ ‬كلامه‭ ‬أن‭ ‬الجماهير‭ ‬العربية‭ ‬تحب‭ ‬من‭ ‬‮«‬يشحنها‭ ‬عاطفيا‮»‬‭. ‬ويقول‭ ‬لها‭ ‬مثلا‭ ‬إن‭ ‬التخلص‭ ‬من‭ ‬إسرائيل‭ ‬‮«‬مسألة‭ ‬وقت‮»‬،‭ ‬وتحكم‭ ‬على‭ ‬السياسي‭ ‬بالنجاح‭ ‬استنادا‭ ‬إلى‭ ‬قدراته‭ ‬الخطابية،‭ ‬مصداقا‭ ‬لمقولة‭ ‬المفكر‭ ‬السعودي‭ ‬الراحل‭ ‬عبدالله‭ ‬العصيمي‭ ‬بأن‭ ‬العرب‭ ‬‮«‬ظاهرة‭ ‬صوتية‮»‬‭.‬

وبما‭ ‬أنني‭ ‬أسرق‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬أفكار‭ ‬ومضامين‭ ‬مقالاتي‭ ‬من‭ ‬رسائل‭ ‬الأصدقاء‭ ‬التي‭ ‬تأتيني‭ ‬عبر‭ ‬الانترنت،‭ ‬فلا‭ ‬بأس‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬أسرد‭ ‬عليكم‭ ‬حكاية‭ ‬طريفة‭ ‬‭ ‬ربما‭ ‬سمع‭ ‬بها‭ ‬بعضكم‭ ‬‭ ‬عن‭ ‬عالم‭ ‬الرياضيات‭ ‬الفذ‭ ‬البرت‭ ‬اينشتاين‭ ‬صاحب‭ ‬النظرية‭ ‬النسبية،‭ ‬فقد‭ ‬سئم‭ ‬الرجل‭ ‬تقديم‭ ‬المحاضرات‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تكاثرت‭ ‬عليه‭ ‬الدعوات‭  ‬من‭ ‬الجامعات‭ ‬والجمعيات‭ ‬العلمية،‭ ‬وذات‭ ‬يوم‭ ‬وبينما‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬طريقه‭ ‬الى‭ ‬محاضرة،‭ ‬قال‭ ‬له‭ ‬سائق‭ ‬سيارته‭: ‬أعلم‭ ‬يا‭ ‬سيدي‭ ‬انك‭ ‬مللت‭ ‬تقديم‭ ‬المحاضرات‭ ‬وتلقي‭ ‬الاسئلة،‭ ‬فما‭ ‬قولك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬انوب‭ ‬عنك‭ ‬في‭ ‬محاضرة‭ ‬اليوم‭ ‬خاصة‭ ‬وان‭ ‬شعري‭ ‬منكوش‭ ‬ومنتف‭ ‬مثل‭ ‬شعرك،‭ ‬وشكلي‭ ‬مبهدل‭ ‬مثلك،‭ ‬وبيني‭ ‬وبينك‭ ‬شبه‭ ‬ليس‭ ‬بالقليل،‭ ‬ولأنني‭ ‬استمعت‭ ‬الى‭ ‬العشرات‭ ‬من‭ ‬محاضراتك‭ ‬فإن‭ ‬لدي‭ ‬فكرة‭ ‬لا‭ ‬بأس‭ ‬بها‭ ‬عن‭ ‬النظرية‭ ‬النسبية،‭ ‬وأستطيع‭ ‬أن‭ ‬أفوز‭ ‬بتقدير‭ ‬المستمعين‭ ‬بمصطلحات‭ ‬علمية‭ ‬بعضها‭ ‬صحيح‭ ‬وبعضها‭ ‬مفبرك،‭ ‬ولكن‭ ‬لو‭ ‬صدقوا‭ ‬إنني‭ ‬انت‭ (‬آينشتاين‭) ‬فإن‭ ‬المسألة‭ ‬ستعدي‭ ‬على‭ ‬خير،‭ ‬فأعجب‭ ‬اينشتاين‭ ‬بالفكرة‭ ‬وتبادلا‭ ‬الملابس،‭ ‬ووصلا‭ ‬إلى‭ ‬قاعة‭ ‬المحاضرة،‭ ‬حيث‭ ‬وقف‭ ‬السائق‭ ‬على‭ ‬المنصة‭ ‬وجلس‭ ‬العالم‭ ‬العبقري‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يرتدي‭ ‬زي‭ ‬السائق‭ ‬في‭ ‬الصفوف‭ ‬الخلفية،‭ ‬وسارت‭ ‬المحاضرة‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يرام‭ ‬إلى‭ ‬ان‭ ‬وقف‭ ‬بروفيسور‭ ‬متنطع‭ ‬وطرح‭ ‬سؤالا‭ ‬من‭ ‬الوزن‭ ‬الثقيل‭ ‬وهو‭ ‬يحس‭ ‬بأنه‭ ‬سيحرج‭ ‬به‭ ‬اينشتاين،‭ ‬هنا‭ ‬ابتسم‭ ‬السائق‭ ‬المستهبل‭ ‬وقال‭ ‬للبروفيسور‭: ‬سؤالك‭ ‬هذا‭ ‬ساذج‭ ‬بدرجة‭ ‬أنني‭ ‬سأكلف‭ ‬سائقي‭ ‬الذي‭ ‬يجلس‭ ‬في‭ ‬الصفوف‭ ‬الخلفية‭ ‬بالرد‭ ‬عليه‭. ‬وبالطبع‭ ‬فقد‭ ‬قدم‭ ‬‮«‬السائق‮»‬‭ ‬ردا‭ ‬جعل‭ ‬البروفيسور‭ ‬يتضاءل‭ ‬خجلا‭!!‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا