تميّز هجوم الصهيونية الدينية بمناسبة عيد الفصح اليهودي هذا العام على المسجد الأقصى بثلاث سمات غير مسبوقة: تجاوز عدد المستعمرين المستوطنين الذين اقتحموا ساحات المسجد سبعة آلاف، ما يماثل تقريبا ضعف عدد المقتحمين في العام الماضي. الأداء الصريح والواضح والمتكرر للصلوات التلمودية داخل ساحات المسجد، بقيادة وزراء وأعضاء كنيست شاركوا بأنفسهم في أداء الصلوات، وهذا لم يسبق أن سُمح به رسميًّا طوال أعوام احتلال القدس والمسجد الأقصى منذ 1967. دعم الحكومة الإسرائيلية الفاشية هذه الاقتحامات والصلوات التلمودية، وهو ما تفاخر به الوزير الفاشي، سليل حركة كاخ كاهانا الفاشية، المستوطن إيتمار بن غفير.
وما عملت الحركة الصهيونية الدينية على تنفيذه هو تكرار ما جرى في الحرم الإبراهيمي، بفرض تقسيم زماني ومكاني داخل المسجد الأقصى، وجعل أداء الصلوات اليهودية فيه أمرا معتادا، تمهيداً لتحقيق الحلم الصهيوني التلمودي بهدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل المزعوم فوق أنقاضه. ولم تكن الصهيونية الدينية لتصل إلى هذه الدرجة من الغطرسة والوقاحة، لولا الصمت الدولي على جرائمها الوحشية في غزّة والضفة الغربية، وكل خروقها المعلنة والمتكرّرة لما سُمي يوما «القانون الدولي»، ولولا ضعف رد الفعل العربي والإسلامي على تجاوزاتها، ولولا استمرار غياب الوحدة الوطنية الفلسطينية في مواجهة مخطّطاتها. وكأن الملياري مسلم لا يذكرون أن «الأقصى» كان وما زال أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، وأن أجدادهم من المسلمين كانوا يعتبرون زيارته وأداء الصلوات فيه مكملا لا غنى عنه لأداء فريضة الحج إلى الكعبة المشرّفة.
الهجوم على المسجد الأقصى، وتصعيد الهجوم على الحرم الإبراهيمي، بما في ذلك منع المصلين، وكنت منهم، من أداء الصلاة فيه في شهر رمضان الفضيل، جزء من هجمة إسرائيلية واسعة على كل الضفة الغربية. ويشمل ذلك توسّعا استيطانيّا غير مسبوق، واستيلاءً لم يسبق له مثيل على الأراضي الفلسطينية، بما في ذلك استخدام ما يسمونها «المستوطنات الرعوية» لاستكمال سرقة الأراضي التي لم تكف المستوطنات العادية للاستيلاء عليها. بالإضافة إلى نشر ما لا يقل عن ألف حاجز عسكري وبوابة لتقطيع أوصال الضفة الغربية، وتدمير الحياة الاقتصادية والاجتماعية والصحية والتعليمية فيها.
ومنذ 7 أكتوبر (2023)، نفذت إسرائيل ما لا يقل عن 17 ألف عملية اعتقال جديدة في الضفة الغربية، وأخضعت عشرة آلاف أسير وأسيرة للتعذيب والتجويع والتنكيل بكل الأشكال. وفي الوقت نفسه، تفاخر وزير المالية الفاشي، بتسلئيل سموتريتش، ووزير جيش الاحتلال كاتس، بأنهم لا يوسّعون فقط المستعمرات الاستيطانية غير الشرعية، بل يتابعون هدم البيوت والمنشآت الفلسطينية، حتى داخل المناطق القليلة التي يُفترض أن تكون تحت سيطرة السلطة الفلسطينية، والتي جُرّدت من معظم صلاحياتها، وتحوّلت إلى سلطة تحت الاحتلال الكامل. وبالطبع، يجري ذلك كله بالتوازي مع جرائم الحرب الكبرى التي تنفذها إسرائيل في قطاع غزّة، بما في ذلك التطهير العرقي، والعقوبات الجماعية، والتجويع، والإبادة الجماعية.
الجوهري في كل ما وصِف أن ما يجري في غزّة ليس مستقلا، بل يرتبط ارتباطا وثيقا بما يجري في الضفة الغربية، بما فيها القدس والمسجد الأقصى، وفي المكانين فإن هدف الحركة الصهيونية، بما في ذلك الصهيونية الدينية، هو الضم والتهويد وتنفيذ التطهير العرقي لكل الشعب الفلسطيني لو استطاعوا.
وليس الهجوم على غزّة محصورا بحركة حماس، وإن كان نزع إنسانيّتها الوسيلة لنزع إنسانية الشعب الفلسطيني بكامله وكل مكوناته. وعندما يتحدث نتنياهو عن نزع مقوّمات المقاومة في غزّة، ليس هدفه فقط تدمير المقاومة المسلحة، بل تدمير كل أشكال المقاومة لمخطّطاته الجهنمية لنسف حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، ومنعه من إقامة دولته، وتهجيره الكامل خارج وطنه بعد تصفية مقوّمات قضيته الوطنية وعناصرها.
ويكفي في هذا المجال قراءة كتب نتنياهو ومذكّراته، وفيهما إن كل فلسطين هي لليهود فقط، بل إنه يعتبر شرق الأردن أرضا موعودة لليهود. ولا حاجة إلى أدلة إضافية لمن يريد أن يفهم، إذ تكفي قراءة القوانين الإسرائيلية الجديدة قبل 7 أكتوبر وبعده، بما فيها «قانون قومية الدولة» الذي ينصّ على أن حق تقرير المصير في فلسطين التاريخية، والتي يسمّونها «أرض إسرائيل»، لليهود فقط. وهو قانون أُقرّ قبل 7 أكتوبر، بتأييد من الحكومة والمعارضة الصهيونية. وكذلك قانون «منع قيام دولة فلسطينية».
ليست إسرائيل التي تواجه حربا وجوديةً كما يدّعي نتنياهو، بل الشعب الفلسطيني، الذي يواجه خطر تكرار نكبة 1948، وبنطاق أوسع وأشمل ليشمل كل فلسطيني وفلسطينية. فهل يبقى بعد ذلك مبرّر لعدم وجود قيادة وطنية فلسطينية موحّدة على برنامج كفاحي مقاوم لمخطط الإبادة والتطهير العرقي الجهنمي؟ وهل هناك، بعد كل ما يجري في الضفة الغربية والقدس، حجّة لمن يواصل تحميل الضحية في غزّة مسؤولية الجرائم التي تُرتكب ضد كل الشعب الفلسطيني ومستقبله ومستقبل أبنائه وبناته؟
يفشل كثيرون في إدراك ما تقوم به الحكومة الإسرائيلية والحركة الصهيونية لأنهم يواصلون تقييمها بالاستناد إلى أوهامهم السابقة عنها، والتي ثبت عدم صحتها، بما فيها وهم الحل الوسط معها، وهو ما ينفيه نتنياهو وحكومته ليلا ونهارا. ويتمسّك بعض الناس بأوهام الماضي المندثرة، لأن ذلك يوفر لهم مبرّرا للتقاعس عن أداء واجبهم، ليس فقط إزاء الشعب الفلسطيني، بل إزاء أنفسهم ومستقبل شعوبهم وبلدانهم. لكن قوة الحقيقة أكبر من أي وهم أو خداع، ولا ترحم كل من يتقاعس عن إدراكها، ولن تغفر الشعوب عندما تصطدم بنتائج الحقائق، لمن تقاعس عن حمايتها من العدوان عليها وعلى مستقبلها. لأننا أمة تاريخها عريق وسجلها طويل في مقارعة كل من حاول استعبادها واستعمارها.
{ الأمين العام لحركة المبادرة الوطنية الفلسطينية
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك