إن التعامل مع القرآن الكريم يختلف عن التعامل مع أي كتاب آخر مهما علا شأنه، وذاعت شهرته لأن القرآن ليس كتابًا عاديًّا، بل هو وحي متصل الحلقات، وفيه من العهود والمواثيق من رب كريم وإله جواد لا يقف عطاؤه عند حدْ، ولا يقصر عطاؤه هذا على المؤمنين وحدهم، بل يتعداهم إلى غيرهم من الناس، وهذا هو خلقه الكريم سبحانه وتعالى.
وكما أن في القرآن تهديدا ووعيدا، ففيه أيضًا عهود ووعود، ومواثيق ذلك لأن الله تعالى هو غفور رحيم قد يرجع في تهديده ووعيده لكنه سبحانه لا يرجع في وعوده وعهوده سبحانه.
وعندما نبحث عن آيات الرجاء في القرآن، أو عن بعضها نجد عطاءً لا ينفد، ووعودًا من الله لعباده المؤمنين لا يرجع فيها سبحانه، ومن خلال هذا البحث المتأني وجدنا بعض الآيات الكريمات التي تحقق للإنسان المؤمن السعادة والطمأنينة، وسوف نورد بعضها لعل القلوب تهدأ، والنفوس تطمأن، يقول تعالى: (قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) الزمر / 10.
وحين نحاول أن نتدبر هذه الآية الجليلة نزداد إيمانًا واطمئنانًا، فقول الحق سبحانه وتعالى: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) هذه الآية المباركة تفتح لنا أبواب الرجاء ونوافذه، فعبارة «بغير حساب» من معانيها: بغير حدْ، وأيضًا بلا محاسبة، وهذا أقصى ما يتمناه العبد من مولاه ويرجوه.
ومجيئ أداة الحصر «إنما» تفيد أن الصابرين على البلاء على الأخص وحدهم هم الأحق بهذا الجزاء الذي يعدهم به مولاهم سبحانه وتعالى المهم ألا يغادروا دائرة الإيمان، ومقاربة هذه الدائرة أو تجاوزها يتم عن طريقين، الأول: ألا يقربا المعاصي، والطريق الثاني: ألا يتجاوزوا حدود هذه الدائرة، لذلك سميت العقوبات على تعدي الحلال بالحدود، ومثال ذلك قوله تعالى: (ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا) الإسراء / 32.
وأما عن التعدي، فنجده في قوله تعالى: (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون) البقرة / 229.
ومن آيات الرجاء، قوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيدا) النساء / 116، المهم أن يكون المؤمن داخل في دائرة الإيمان لم يغادرها، لأنه حين تجري عليه أحكام المشركين، وليس هناك مراتب للشرك بالله تعالى، فإما أن يكون كافرا وإما مؤمنا، ولا خيار ثالث بين الإيمان والكفر.
وحين تضيق نفس المؤمن، وقد تبلغ حالة من القنوط تأتي آيات الرجاء لترفع عن المؤمن حالة القنوط هذه، يقول تعالى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعًا إنه هو الغفور الرحيم) الزمر / 53.
حين يصل العبد المؤمن في تقريع نفسه، ولومها على ما ارتكبه من ذنوب حد القنوط أي اليأس الكامل من قبول توبته، ومغفرة ذنوبه.. انظروا إلى هذا الرجاء من خلال المعاملة الخاصة التي تملأ النفس المؤمنة طمأنينة ورجاء، فهو سبحانه في المغفرة يختار لنا من أعمالنا أسوأها، وفي الجزاء على الطاعات يختار لنا منها أحسن الذي عملناه.. في الطاعات تتساوى في الجزاء الحسنات على تفاوت درجاتها، وأمَّا في مغفرة الذنوب يختار الأسوأ منها ليغفرها ومن باب أولى تكون الذنوب الصغيرة مغفورة أيضًا لا محالة! وتأكيدًا لهذا يقول سبحانه: (ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون) الزمر / 35.
أما أعظم آيات الرجاء كما نعتقد فهي قوله تعالى: (والذين لا يدعون مع الله إلهًا آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما (68) يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا (69) إلا من تاب وآمن وعمل عملًا صالحًا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورًا رحيما (70)) سورة الفرقان.
ما أعظم هذه الآيات الجليلات، وما أعظم بركاتها في باب الرجاء حتى أن العبد يوم القيامة يتمنى كثرة الذنوب لتتحول إلى حسنات بعد أن يأتي بشروطها من توبة نصوح، ومن إيمان خالص، ومن عمل صالح متقبل من الله تعالى، والعجيب في أمر هذه الآيات المباركات أن العبد يتمنى ويرجو أن تغفر له سيئاته، فهذا جواز مروره إلى الجنة والخلود في نعيمها، أما أن يتفضل الله تعالى عليه بتحويل سيئاته إلى حسنات، فذلك عطاء لم يحلم مجرد حلم، فما بالكم حين يتحقق للعبد المؤمن، به ما ينال الدرجات العليا التي لم يحلم أن يبلغها.
هذا الكرم الإلهي الذي ما كان للعبد المؤمن أن يتحقق له، وينقله من العبد المشفق اليائس من قبول توبته، والقانط من رحمة الله تعالى ليس فقط إلى عبد يتخطى كل العقبات التي ربما تحول دونه ودون بلوغه درجة متدنية في الجنة إلى هذا المقام الرفيع، وهذه الدرجة العالية والسامقة التي هي من حق الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين الذين ذكرتهم سورة النساء الآية (69) في قوله تعالى: (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا).
ذلكم هو عطاء الرب سبحانه لعباده المؤمنين، الغافر لزلاتهم، القابل لتوبتهم، الرؤوف والرحيم بهم.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك