بعد أن أقرت الميزانية بمبادئها يبقى اليوم أن تتعاون السلطتان التنفيذية والتشريعية بتحقيق الأهداف التي وضعت لهذه الميزانية. يبدأ التعاون بوضع سياسة لتحقيق النتائج، ومنظومات لرصد الأداء الإداري والاقتصادي وتوجيه الجهود نحو هذه الأهداف والنتائج. من ضمن المبادئ التي حددتها الحكومة إعادة هيكلة الأجهزة الإدارية لتقليص المصروفات وتحسين الأداء الإداري بشكل عام. هذه عملية مهمة نتمنى لها التوفيق.
نجاح هذا الجهد سوف يتطلب وضع أهداف واضحة لعملية إعادة الهيكلة. ترتبط هذه الأهداف بالمهام الرئيسية التي وضعتها الحكومة في هذه الميزانية وفي الرؤية بشكل عام، والتي شملت تحقيق التوازن المالي المستدام، وتحسين كفاءة المصروفات الحكومية، ورفع مستوى الخدمات المقدمة للمواطنين؛ بالإضافة إلى الأهداف الرئيسية التي تسعى الحكومة لتحقيقها خلال الفترة القادمة وتشمل تحسين مستوى المعيشة، خلق فرص عمل واعدة للمواطنين، دعم النمو الاقتصادي، وتحقيق التوازن المالي وتقليص الدين العام. تحقيق الأهداف الرئيسية هذه يتطلب إقامة مشاريع إنتاجية تدعم النمو الاقتصادي. فوفق الكثير من الاقتصاديين فإنه من الصعب تحقيق النمو الاقتصادي ونمو الناتج المحلي المستدام من دون إقامة مثل هذه المشاريع الإنتاجية لتدعم خلق فرص عمل وزيادة الإنتاجية وتوليد الإيرادات، وهو ما يسهم في تحسين المستوى المعيشي للمواطنين وتعزيز استدامة النمو الاقتصادي، وتحقيق فوائض لتسديد الدين العام.
ان إعادة هيكلة العمليات الإدارية بهدف تقليل النفقات ورفع الكفاءة تخضع لمبادئ وشروط؛ تتطلب المبادئ تغييرا جذريا لبعض العمليات الإدارية وإعادة تصميمها من الصفر؛ أي بناء عمليات جديدة تماما تحقق القيمة المضافة بدلا من إجراء تحسينات على هذه العمليات. يتم ذلك من منظور عملياتي (process oriented) يجمع كل المهام تحت سقف واحد، مع تكثيف الاستفادة من التكنولوجيا في تسيير العملية، والتركيز على متطلبات العميل (طالب الخدمة)، وإلغاء الأنشطة التي لا تضيف قيمة، مع خلق بيئة تشجع التعاون بين الإدارات وتكوين فرق عمل تركز على تسهيل اتخاذ القرار وتسريعه. مما نشر حول الموضوع، فإن الغاية من إعادة الهيكلة ان تعمل الأجهزة على تقديم خدمات عالية الجودة تعالج القضايا الاجتماعية التي تعتبرها الدولة والمجتمع مهمة وأساسية مثل البطالة ومستوى المعيشة وإعادة توزيع أعباء الضرائب لتخضع لقاعدة تناسب المساهمة مع القدرة على الدفع.
كذلك تخضع إعادة الهيكلة لشروط يجب توافرها مثل الدعم السياسي والقيادة القوية، وهذا متوافر كون الحكومة نفسها من دعا إلى مثل هذا القرار. كذلك من المهم أيضا أن يشترك المستفيدون من إعادة الهيكلة (المجتمع) والموظفون من خلال تدريب الموظفين واستقصاء آراء المواطنين. من الناحية الفنية؛ فإن توافر البنية التحتية التكنولوجية من شبكات اتصال ومنصات رقمية وأدوات تحليل البيانات مثل مركز المعلومات الحكومي المتقدم سوف تسهم جميعا في إنجاح المشروع، كذلك سوف يتطلب الأمر بعض التشريعات الداعمة والعمل على تحقيق التوازن بين الكُلفة والجودة والمرونة في التنفيذ. غير أن أهم شروط نجاح التجربة وجود منظومة قياس الأداء وتعزيز المحاسبة، وهذا يحتاج إلى شيء من المناقشة والتوافق على تعريفات القيم والمفاهيم قبل المباشرة في تصميمها، وكذلك الاطلاع على تجارب اتخذت هذا المنحى.
متابعة الأداء وإعادة النظر في كيفية رفع كفاءة وفاعلية الأجهزة الحكومية ليس بالأمر الجديد، وقد اتخذت حكومات كثيرة هذه المبادرة، منها أمريكا عام 1993 (Government Performance and Results Act «GPRA») بسن قانون الأداء والنتائج، كذلك هناك تجربة بريطانيا عام 1998 («PSA» Public Service Agreement) والتي تسعى لتحسين أداء المؤسسات الحكومية وتعزيز الثقة بها، حيث يتم تحديد الاهداف بوضوح واجراء تقييم مستمر للنتائج، من خلال توقيع اتفاقيات أداء بين الحكومة والعملاء الداخليين (الهيئات والإدارات العامة)، وتقييم الفجوة بين الأداء المتوقع والفعلي بشكل منتظم. أما التجربة النيوزيلندية 1994 فتقوم على نموذج الإدارة القائم على النتائج (Results-Based Management Framework)، حيث يتم التركيز على النتائج وليس المدخلات أو العمليات. أما تجربة سنغافورة (الإدارة القائمة على الكفاءة) في هذه التجربة توضع مؤشرات أداء (لكل مؤسسة حكومية) تعبر عن مفهوم الكفاءة، ترتبط بتأثيرها المباشر على الاقتصاد والمجتمع. وتراقب الانفاق الحكومي وكفاءته وتحفيز الابتكار. هناك كذلك تجارب آسيوية أخرى (آسيان) وتجارب عربية (الإمارات: نظام مؤشرات الأداء الحكومي: نظام المؤشرات الوطنية للأداء). والسعودية: المركز الوطني لقياس أداء الأجهزة العامة – أداء. تشمل الكفاءة التشغيلية، الالتزام الحكومي والجودة. كذلك ارتبط نظام قياس أداء بالرؤية 2030 في البحرين، ما يجعل العملية ليست غريبة علينا.
العناصر المشتركة في هذه التجارب انها تضع تعريفات دقيقة للأهداف والغايات، وتركز على النتائج والأهداف الاستراتيجية وليس على المدخلات من الجهود. الجهود تشكر في جميع الحالات غير أن الأهم هو تحقيق نتائج من هذه الجهود. فمثلا إنشاء مشاريع إنتاجية لا توظف مواطنين ولا تؤثر في الميزانية العامة والتوازن المالي ولا ترفع مستوى المعيشة لا تخدم النتائج والأهداف المرجوة، وبالتالي تشير إلى خلل في التطبيق أو عدم توافق في السياسات والإطار الفكري الناظم لها. كذلك تشترك التجارب في انها تضع مؤشرات أداء واضحة وقابلة للقياس، وإعداد تقارير دورية لتقييم الأداء وفقا للأهداف المحددة والنتائج المتوقعة والتأثير المرجو؛ واستخدام البيانات لاتخاذ قرارات تحسين الاداء؛ على أن تستخدم النتائج من منظومة القياس في تعزيز المساءلة وتقديم خدمات أكثر كفاءة واستجابة للاحتياجات العامة. وأهم عنصر في هذه التجارب هو مدى الالتزام باستمرار جمع البيانات وتحليلها واستخلاص النتائج ونشرها. تسهم هذه العملية في السيطرة على النفقات العامة وتحقيق التوازن المالي مع النتائج الاستراتيجية المؤثرة في حياة الناس وفي التنمية الاقتصادية.
من هذه التجارب يمكن استخلاص اهم المبادئ لإعادة الهيكلة ومنظومة القياس المناسبة لنا؛ المبدأ الأول التركيز على النتائج وتأثيرها على المجتمع والاقتصاد. المبدأ الثاني ربط مؤشرات الأداء بالأهداف الاستراتيجية للدولة والتكامل مع الخطط الوطنية، المبدأ الثالث تيسير وتسهيل المساءلة لتكون موضوعية ومبنية على مؤشرات موثوقة؛ المبدأ الرابع الشفافية ومشاركة المواطنين في النتائج والحث على الحوار حول تحسينها. المبدأ الخامس الاعتماد على التكنولوجيا والبيانات لتحسين كفاءة الموارد بما يقلل العجز المالي.
drmekuwaiti@gmai..com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك