عند متابعة التحليلات الغربية حول العملية الروسية الخاصة في شرق أوكرانيا، يتراءى للمتابع أن هذه الحرب هي بلا سبب تقريبا: «وأن روسيا دولة عدوانية توسعية اتخذت قرارًا متعمدًا ولا مبرر له في شن حرب على أوكرانيا في 24 فبراير 2022 حيث أرادت روسيا التوسع على حساب الأراضي الأوكرانية». هذا ملخص الرواية الغربية والتي على أساسها يتم تبرير الوقوف ضد روسيا ودعم أوكرانيا من خلال الحرب بالوكالة والتي أنهت مؤخرا عامها الثالث دون أن يتمكن الغرب الجماعي من إلحاق الهزيمة بروسيا.
والحقيقة أن مثل هذه الرواية المتكررة لا علاقة لها بحقائق التاريخ والسياسة المرتبطة بهذه الحرب. وإن كل محلل موضوعي يعرف تاريخ هذه المنطقة والإشكالات التي ترتبط بها، يدرك تماما أن هذا الحرب كانت نتيجة مباشرة للاستفزازات الأوكرانية والغربية ولعدم احترام ما جرى الاتفاق عليه منذ عام 1994م، حيث التزمت الولايات المتحدة الامريكية وحلفاؤها بعدم توسيع مظلة حلف الناتو شرقا، وعدم الاقتراب من الحدود الروسية، ولكن الذي حدث عكس ذلك تماما فمن 12 دولة فقط عضوا في الناتو في عام 1991 ارتفع العدد إلى 30 دولة، بالمخالفة للتعهدات التي قدمها الغرب إلى موسكو أوائل التسعينيات، بالإضافة إلى ضرورة احترام مبدأ الأمن المتكافئ غير القابل للتجزئة المنصوص عليه في «ميثاق الأمن الأوروبي» الذى تم تبنيه ضمن منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، وروسيا جزء منه. وإذن كان توسع الناتو وتقدمه نحو الحدود الروسية ودفع أوكرانيا إلى أن تكون جزءا منه، تهديدا وجوديا حقيقيا لروسيا الاتحادية.
لقد بدأت الحرب في عام 2014 عندما جرى الانقلاب على الرئيس الأوكراني المنتخب فيكتور يانوكوفيتش، والذي كان يقيم سياسته على أساس الحياد والدفع بحكومة متطرفة يدعمها القوميون الأوكران المتشددون، وكان أول قرارتها منع استخدام اللغات غير الأوكرانية، فانتفض الأوكرانيون من أصل روسي في منطقة الدونباس، رافضين هذه القرارات، مع ان الرئيس زيلينسكي في بداية حكمه وعد بمراعاة حقوق الأقليات القومية، إلا أنه تحت ضغوط القوميين المتطرفين وجد نفسه في حرب مفتوحة مع جزء كبير من شعبه في الدونباس. (بين 80-90% منهم روس) فانتفض هؤلاء مما جعل الدولة الأوكرانية تستخدم المدافع والطائرات لقصفهم وقتلهم، حيث انتهت هذه المواجهة بمقتل 15 ألف مدني من سكان هذا الإقليم الذي كان كل ما يطلبه هو حقوقه الثقافية والاجتماعية.
ولم يكن الانفصال عن أوكرانيا مطروحا أصلا أو واردا حتى ذلك التاريخ.
وبعد تصاعد هذه المواجهة وتدخل روسيا الاتحادية لدعم السكان الروس في هذا الاقليم بالسلاح، تم توقيع اتفاق منسك بين الطرفين، والذي تضمن حكما ذاتيا للناطقين بالروسية في دونباس. وقد وافق الرئيس زيلنسيكي على هذا الاتفاق عند ترشحه للرئاسة، ولكنه تراجع عنه لاحقا تحت الضغوط التي مورست عليه من الداخل والخارج كما أسلفنا (فقد اعترفت أنجيلا ميركل المستشارة الألمانية لاحقا بأن هذا الاتفاق كان مجرد فرصة متاحة لأوكرانيا للتسلح. وكان مجرد اتفاق لكسب الوقت)، ومن الواضح أن أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية كانتا طرفين مؤثرين في رفض أي حوار مع روسيا الاتحادية أو عقد اتفاق معها: (فالحرب فقط هي اللغة الوحيدة التي تفهمها روسيا الضعيفة). كما كانوا يقولون.
والمعروف في النهاية في علم السياسة، بأنك إذا لم تستطع تحقيق مصالحك القومية الحيوية والوجودية سلميا فليس أمامك إلا اللجوء إلى القوة لمواجهة التهديديات الضاغطة وحماية شعبك وأراضيك. وهذا بالضبط ما فعلته روسيا مضطرة، ولذلك فالادعاء بأن الحرب لم تكن مبررة كذبة كبيرة ودجل غربي لا يمكن للعاقل أن يقبل به أو يصدقه.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك