أن يحيا الإنسان حياة مديدة منعمًا فيها بالصحة الجيدة، ذلك هو العمود الأول في المقياس الأممي للتنمية البشرية، ومن دونه لا تستقيم الأعمدة الأخرى: «التعليم، واكتساب الدخل»، ويُعزى تصنيف مملكة البحرين ضمن الدول ذات التنمية البشرية المرتفعة جدًا – منذ صدور المؤشر في منتصف التسعينيات وحتى اليوم– إلى التقدم الملحوظ الذي أحرزته في القطاع الصحي.
وقد كان القطاع الصحي من أوائل القطاعات التي أولتها الحكومة البحرينية اهتمامًا بالغًا، حتى قبل الاستقلال، حيث عملت على تقديم الرعاية الصحية المجانية لكل من يعيش على أرضها. وتشير بيانات «الأمم المتحدة»، إلى أن معدل الوفيات بها انخفض في عام 1970 إلى 8.7 لكل ألف من السكان، بعد أن كان 21.6 في عام 1955، كما تراجع معدل وفيات الأطفال لكل ألف إلى 74، بعد أن كان 183. وبعد الاستقلال، توسعت الحكومة في إنشاء المراكز الصحية، فشهد عقد السبعينيات افتتاح مركز ابن سينا الصحي، ومركز السلمانية الصحي، إلى جانب تدشين برنامج طبيب العائلة، والتوسع في برامج الصحة الوقائية، وتنمية الوعي الصحي؛ ما أسهم في خفض معدل الوفيات في عام 1980 إلى 4.8 لكل ألف، ومعدل وفيات الأطفال إلى 33.
وفي العقد التالي، واصلت البحرين جهودها الصحية، فانخفض معدل الوفيات إلى 3.6 لكل ألف، ومعدل وفيات الأطفال إلى 16، وارتفع متوسط العمر المتوقع عند الولادة إلى أكثر من 70 عامًا بعد أن كان 58 عامًا في أوائل الستينيات. وفي التسعينيات، تحول مركز السلمانية إلى مجمع صحي شامل، وارتفع عدد المستشفيات الحكومية إلى 9، والمراكز الصحية إلى 19. كما بدأ التعليم الطبي في المملكة بالتعاون مع الكلية الملكية للجراحين في إيرلندا، ما واكبه انخفاض في معدل الوفيات إلى 3.2 لكل ألف من السكان، ومعدل وفيات الأطفال إلى 11. واستمرت وتيرة التطور، فشهد العِقد الأول من الألفية الجديدة تدشين الجامعة الطبية في عام 2004، ما أضاف دفعة قوية لمنظومة التعليم والرعاية الصحية في البلاد.
ومنذ توليه المسؤولية عام 1999، احتل الاهتمام بالرعاية الصحية مكان الأولوية في رؤية جلالة الملك، فعمل على تنفيذ رؤيته، التي توسعت في مضمون حق الإنسان في الصحة، بحيث لا يقتصر في هذه الرؤية على الرعاية الصحية المستمرة، بل يمتد إلى سلامة الفرد البدنية والعقلية والاجتماعية، وحصوله على الماء النظيف، والسكن الصحي الملائم، والغذاء الصحي الكافي، والبقاء في ظروف آمنة صحية، وبيئة سليمة، وجاء الميثاق الوطني ودستور المملكة ليقنن هذا الحق.
وفي ضوء هذه الرؤية، دشن «جلالة الملك»، «الاستراتيجية الصحية الجديدة 2002 – 2010»، ووفر لها في الميزانية العامة المخصصات المالية اللازمة، ومع التقدم المحرز في الرعاية الصحية، أخذت المملكة تتوجه كي تكون مركزًا إقليميًا للسياحة العلاجية، وتطور مفهوم طبيب العائلة، وصدر نظام جديد للتأمين الصحي، يعتمد المنافسة والتعاون بين القطاعين العام والخاص، وتطوير التعليم الطبي، وإنشاء مركز طوارئ في كل محافظة.
وشهد العِقد الأول للألفية طفرة للخدمات الصحية، فارتفعت ميزانية «وزارة الصحة»، إلى 196 مليون دينار في 2010، بعد أن كانت 76 مليون دينار في عام 2000، وارتفع عدد المستشفيات الحكومية الخاصة، والمراكز الصحية والعيادات الحكومية إلى 48، بعد أن كانت 34، كما تم تدشين مشروع الواحة الصحية، ونواته جامعة البحرين الطبية، ومستشفى الملك حمد الجامعي، ومجمع البحرين الصحي الصحراوي، ومشروع المدارس المعززة للصحة، وبناء واحدة من كبرى مستشفيات علاج السكري في الخليج، وأول مركز طبي لجراحة المناظير، وأول مصنع للأدوية، وارتفع عدد العاملين في الحقل الطبي من 6632 في 1999 إلى 7996 في 2010؛ ونتيجة لذلك، ارتفع العمر المتوقع عند الولادة إلى 74.8 عاما في 2010، وانخفض معدل الوفيات إلى 3 لكل ألف ووفيات الأطفال إلى 12.
وفي إطار «رؤية البحرين الاقتصادية 2030»، دشن «جلالة الملك»، «استراتيجية تحسين الصحة 2011 – 2014»، وبإنجازها، انخفض معدل الوفيات إلى 2.1 لكل ألف من السكان، ووفيات الأطفال إلى 11.4، وارتفع متوسط توقع الحياة إلى 76.5 عاما، وفي ظل هذه الاستراتيجية جرى إنشاء مركز «عبد الرحمن كانو» الصحي للغسيل الكلوي، ومركز أمراض الدم الوراثية.
بعد ذلك، أطلق «جلالة الملك»، «استراتيجية تحسين الصحة 2015 – 2018»، وفي ضوئها وضعت وزارة الصحة خطتها الخاصة التي امتدت حتى عام 2022، مستهدفة تطبيق نظام الضمان الصحي الشامل، وتغطيته لجميع من في البحرين من مواطنين ومقيمين، والوصول إلى معدل مركز صحي لكل 20 ألفا من السكان، والتوسع في إنشاء العيادات المركزية المتخصصة، واستراتيجية التعاون مع القطاع الخاص، ليسجل متوسط العمر المتوقع عند الولادة 78.6 عاما في 2015، ومع قيام «المجلس الأعلى للصحة» في 2013، دشن الخطة الوطنية الصحية 2016 – 2025، وهي الجارية حاليًا.
وفي أثناء تنفيذ هذه الخطة، واجهت «المملكة»، جائحة كورونا بروح ونظام الفريق الواحد، بقيادة سمو ولي العهد رئيس الوزراء الأمير «سلمان بن حمد آل خليفة». وبرغم ارتفاع المديونية، وعجز الميزانية، وانخفاض أسعار النفط؛ فقد وفر جلالة الملك لمواجهتها حزمة اقتصادية بقيمة 4.3 مليارات دينار، وقدمت البحرين في التعامل مع هذه الجائحة «نموذجًا إنسانيًا»، أشادت به «منظمة الصحة العالمية»، ووثقته في تقريرها، وفرت فيه الإجراءات الوقائية والعلاجية لكل الموجودين على أرضها، حتى احتلت المركز الأول عالميًا وفق تقرير مؤشر «نيكاي» الياباني للتعافي من فيروس كورونا لشهر نوفمبر 2021، لتبدأ بعد ذلك في إنشاء قاعدة بيانات وطنية صحية شاملة من خلال مشروع «مركز الجينوم الوطني»، لحصر ومعالجة الأمراض، بعد نجاح المسح الصحي الوطني في 2018، والذي تكرر في 2024، وتبدأ تطبيق نظام الضمان الصحي في مطلع 2023 للمواطنين وغير المواطنين.
ومع خروجها من الجائحة، وضعت البحرين خطتها للتعافي الاقتصادي حتى 2026، وشملت مشروعاتها، مشروع مدينة الملك عبد الله الطبية، ومجمع دلمونيا للخدمات الصحية، ومستشفى الملك حمد، وجرى تضمين هذه المشروعات في برنامج عمل الحكومة والميزانية العامة (2023 و2024، و2025، و2026)، لينخفض معدل الوفيات إلى 1 لكل ألف من السكان، فيما تأتي البحرين الثالثة عربيًا في أقل نسبة معدل وفيات أطفال وهي 0.7%، كما أنها الثالثة عربيًا في معدل العمر المتوقع عند الولادة الذي بلغ 79.2 عاما.
علاوة على ذلك، وفرت المملكة نسبة تغطية مياه الشرب النقية الآمنة بنسبة 100% والصرف الصحي المستدام بذات النسبة، وتتواصل المشروعات الإسكانية لتوفير السكن الصحي الملائم لكل مواطن بحريني، مستهدفة الوصول إلى تحقيق الخدمة الإسكانية الفورية مع تنفيذ مبادرة جلالة الملك، الجديدة 50 ألف وحدة سكنية جديدة، وكما حققت الأهداف الأممية الاجتماعية قبل موعدها في 2015؛ فإنها تتجه إلى تحقيق أهداف التنمية المستدامة في القطاع الصحي قبل موعدها أيضًا في 2030.
في إطار التطور المستمر الذي يشهده القطاع الصحي، أصبحت الخدمات الصحية تقدم لكل إنسان بالقرب من مسكنه من خلال 28 مركزا صحيا موزعة على المحافظات، إلى جانب 9 مستشفيات حكومية، و9 مستشفيات ولادة حكومية، و24 مستشفى خاصا و389 عيادة، فيما بلغت نسبة البحرنة في الكادر الطبي بالمستشفيات والمراكز الصحية الحكومية 82%.
ويعد قطاع الصحة من أولى القطاعات التي أقبلت المرأة البحرينية على العمل به جنبًا إلى جنب مع قطاع التعليم، فكان تعيين أول ممرضة بحرينية مؤهلة في 1941، وفي 1959 كان افتتاح أول مدرسة للتمريض تولت إدارتها السيدة «أمينة قربي»، كما تم ابتعاث كثير من النساء لدراسة التمريض في الخارج، ويعد هذا القطاع أيضًا من القطاعات التي أثبتت المرأة جدارتها في قيادتها، حيث تولت وزارة الصحة، الدكتورة «جليلة السيد»، والتي نالت جائزة المرأة المتميزة في القطاع الصحي العربي في 2024.
وفي الوقت الحالي، غدت المرأة البحرينية تشكل 71% من إجمالي القوى العاملة في القطاع الصحي، وبلغت نسبة الطبيبات نحو 60% مع اهتمام حكومي ومجتمعي بصحة المرأة والطفل، عبرت عنه وزيرة الصحة لدى احتفال الوزارة بيوم الصحة العالمي في 7 أبريل تحت شعار «بداية صحية لمستقبل واعد»، أكدت فيه أن «بناء المستقبل الصحي المستدام يأتي من صحة المرأة والطفل، التي تعد جزءًا محوريًا في الاستراتيجية الوطنية الصحية».
ولدى احتفال مملكة البحرين بهذا اليوم، سلطت الضوء على سجل حافل من الإنجازات في القطاع الصحي على مدار 25 عامًا، تعكس التزامها بتقديم رعاية صحية شاملة وعالية الجودة للمواطنين والمقيمين، تُقدَّم مجانًا وعلى مدار الساعة، وفي متناول من يحتاجها. ويأتي ذلك في إطار شراكة استراتيجية فعالة بين القطاعين العام والخاص، حيث تجاوز عدد المؤسسات الصحية الخاصة المرخصة أكثر من 800 مؤسسة. فيما تستمر في تنفيذ مشروعات التوسع والتطوير لكل المنشآت الصحية، وعلى رأسها مجمع السليمانية الطبي، ومستشفى قوة دفاع البحرين، ومستشفى الملك حمد الجامعي، ومركز الأورام التابع له، ومشروع مدينة الملك عبد الله الطبية، إلى جانب العمل على توفير شبكة متكاملة من الخدمات الصحية في المدن الإسكانية الحديثة.
كما تشمل المشروعات الرائدة في هذا السياق، «مستشفى الملك حمد الإرسالية الأمريكية»، كأحدث منشأة صحية في المملكة، و«مركز محمد بن خليفة التخصصي للقلب»، و«مركز سمو الشيخ عبد الله بن خالد آل خليفة لأمراض الكلى»، و«مشروع الجينوم الوطني»، الذي يُعد من أبرز المشاريع العالمية التي تبنّتها البحرين؛ بهدف رسم خريطة جينية متكاملة للحمض النووي الخاص بالمجتمع البحريني. كما تم أيضًا افتتاح مكتب «منظمة الصحة العالمية»، في المنامة، وجرى تعزيز خدمات الرعاية المنزلية للمسنين من خلال الوحدات المتنقلة. ويخدم المستشفيات والمراكز الصحية والعيادات أكثر من 400 صيدلية منتشرة في أنحاء البلاد.
ومع التوجه نحو التحول الرقمي في تقديم الخدمات الصحية، أصبحت البحرين من أكثر الدول أمانًا للعيش، كما تم اعتمادها دوليًا، كإحدى أوائل الدول الخالية من شلل الأطفال والدفتريا والتيتانوس لأكثر من عقدين، فضلاً عن كونها من الدول السباقة في القضاء على أمراض معدية كالحصبة والحصبة الألمانية، وفي التصدي للأمراض السارية.
على العموم، جهود متواصلة بدأتها المملكة منذ وقت مبكر، إيمانًا من قادتها أن الإنسان أغلى ثرواتها، وأن الاستثمار في صحته هو استثمار في بناء المملكة وتحقيق تقدمها، ووفرت لهذا الاستثمار على مدى السنوات والعقود الماضية ما يحتاجه من تمويل، ولم يمنعها في هذا الشأن انخفاض أسعار النفط، أو عجز الميزانية، أو ارتفاع المديونية، ما يبرز الوجه الإنساني لمسار التنمية البحريني بكل أبعاده.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك