العدد : ١٧١٩٣ - السبت ١٩ أبريل ٢٠٢٥ م، الموافق ٢١ شوّال ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧١٩٣ - السبت ١٩ أبريل ٢٠٢٥ م، الموافق ٢١ شوّال ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

أزمة إصلاح الأمم المتحدة ومصير النظام الدولي

بقلم: د. حسن نافعة {

الخميس ١٧ أبريل ٢٠٢٥ - 02:00

عانى‭ ‬النظام‭ ‬الدولي‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مراحل‭ ‬تطوّره‭ ‬من‭ ‬اختلالات‭ ‬هيكلية،‭ ‬بسبب‭ ‬حرص‭ ‬الدول‭ ‬الكبرى‭ ‬على‭ ‬مقاومة‭ ‬المحاولات‭ ‬الرامية‭ ‬إلى‭ ‬إدارة‭ ‬العلاقات‭ ‬الدولية‭ ‬استناداً‭ ‬إلى‭ ‬مفهوم‭ ‬جديد‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬الأمن‭ ‬الجماعي،‭ ‬الذي‭ ‬يتطلّب‭ ‬بناء‭ ‬مؤسّسات‭ ‬مسؤولة‭ ‬عن‭ ‬حماية‭ ‬السلم‭ ‬والأمن‭ ‬الدوليَّين،‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬إدارة‭ ‬هذه‭ ‬العلاقات‭ ‬وفقاً‭ ‬للمفهوم‭ ‬التقليدي‭ ‬القائم‭ ‬على‭ ‬توازن‭ ‬القوى‭.‬

وقد‭ ‬جرت‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬التاريخ‭ ‬البشري‭ ‬كلّه‭ ‬محاولتان‭ ‬لبناء‭ ‬نظام‭ ‬دولي‭ ‬يستند‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬المفهوم‭ ‬الجديد‭. ‬انتهت‭ ‬الأولى‭ ‬إلى‭ ‬قيام‭ ‬عصبة‭ ‬الأمم،‭ ‬التي‭ ‬تأسّست‭ ‬بعد‭ ‬انتهاء‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى،‭ ‬لكنّها‭ ‬انهارت‭ ‬بعد‭ ‬أقلّ‭ ‬من‭ ‬ثلاثة‭ ‬عقود‭ ‬بسبب‭ ‬فشل‭ ‬العصبة‭ ‬في‭ ‬الحيلولة‭ ‬دون‭ ‬اندلاع‭ ‬حرب‭ ‬عالمية‭ ‬جديدة‭.‬

أمّا‭ ‬الثانية‭ ‬فقد‭ ‬انتهت‭ ‬إلى‭ ‬تأسيس‭ ‬منظّمة‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة،‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬قائمةً،‭ ‬منذ‭ ‬نحو‭ ‬ثمانية‭ ‬عقود‭. ‬ولا‭ ‬يعود‭ ‬صمود‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬وقدرتها‭ ‬على‭ ‬البقاء‭ ‬طوال‭ ‬هذه‭ ‬الفترة‭ ‬إلى‭ ‬أسباب‭ ‬داخلية‭ ‬تتعلّق‭ ‬بفاعلية‭ ‬الآليات‭ ‬المؤسّسية‭ ‬التي‭ ‬ابتكرتها،‭ ‬أو‭ ‬لقدرة‭ ‬هذه‭ ‬الآليات‭ ‬على‭ ‬التكيّف‭ ‬مع‭ ‬التحوّلات‭ ‬المستمرّة‭ ‬في‭ ‬النظام‭ ‬الدولي،‭ ‬وإنما‭ ‬إلى‭ ‬أسباب‭ ‬خارجية‭ ‬تتعلّق‭ ‬بتطوّرات‭ ‬محدَّدة‭ ‬طرأت‭ ‬على‭ ‬موازين‭ ‬القوى‭ ‬وعلاقاتها‭ ‬في‭ ‬النظام‭ ‬الدولي‭. ‬فعند‭ ‬قيام‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة،‭ ‬كانت‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الدولة‭ ‬الوحيدة‭ ‬التي‭ ‬تملك‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬تصنيع‭ ‬السلاح‭ ‬النووي،‭ ‬بل‭ ‬تمكّنت‭ ‬من‭ ‬استخدامه‭ ‬فعلاً‭ ‬إبّان‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭. ‬وما‭ ‬هي‭ ‬إلا‭ ‬سنوات‭ ‬قليلة‭ ‬حتى‭ ‬تمكّن‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي‭ ‬من‭ ‬تصنيع‭ ‬هذا‭ ‬السلاح،‭ ‬ثمّ‭ ‬لحقت‭ ‬بهما‭ ‬دول‭ ‬أخرى‭. ‬وبمرور‭ ‬الوقت،‭ ‬أصبح‭ ‬بمقدور‭ ‬كلّ‭ ‬من‭ ‬يمتلك‭ ‬هذا‭ ‬السلاح‭ ‬الرهيب‭ ‬أن‭ ‬يردّ‭ ‬على‭ ‬كلّ‭ ‬من‭ ‬يبادر‭ ‬باستخدامه‭ ‬لتوجيه‭ ‬الضربة‭ ‬الأولى،‭ ‬ما‭ ‬أدّى‭ ‬إلى‭ ‬استقرار‭ ‬ميزان‭ ‬رعب‭ ‬حال‭ ‬دون‭ ‬اندلاع‭ ‬حرب‭ ‬عالمية‭ ‬ثالثة،‭ ‬وضمن‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬بقاء‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬واستمرارها‭. ‬في‭ ‬سياق‭ ‬كهذا،‭ ‬يتضح‭ ‬أن‭ ‬السبب‭ ‬في‭ ‬عدم‭ ‬انهيار‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬لا‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬فاعلية‭ ‬آليات‭ ‬الأمن‭ ‬الجماعي‭ ‬المنصوص‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬ميثاق‭ ‬هذه‭ ‬المنظّمة،‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬ميزان‭ ‬الرعب،‭ ‬الذي‭ ‬تشكّل‭ ‬ثمّ‭ ‬استقرّ‭ ‬في‭ ‬النظام‭ ‬الدولي‭ ‬بعد‭ ‬سنوات‭ ‬قليلة‭ ‬من‭ ‬قيامها‭.‬

ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬يُلاحَظ‭ ‬أن‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة،‭ ‬التي‭ ‬لعبت‭ ‬دوراً‭ ‬مهمّا‭ ‬في‭ ‬القضاء‭ ‬على‭ ‬الظاهرة‭ ‬الاستعمارية،‭ ‬ساهمت‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬إحداث‭ ‬تغييرات‭ ‬عميقة‭ ‬في‭ ‬مسار‭ ‬العلاقات‭ ‬الدولية،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬نجاحها‭ ‬في‭ ‬توسيع‭ ‬نطاق‭ ‬العضوية‭ ‬بطريقة‭ ‬مكّنتها‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تصبح‭ ‬إطاراً‭ ‬مؤسّسياً‭ ‬جامعاً‭ ‬يضم‭ ‬الدول‭ ‬المستقلة‭ ‬كافّة‭ ‬في‭ ‬النظام‭ ‬الدولي،‭ ‬والقادرة‭ ‬على‭ ‬التفاعل‭ ‬معاً‭ ‬وفق‭ ‬قواعدَ‭ ‬موحّدةٍ‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬مبدأَي‭ ‬السيادة‭ ‬والمساواة‭ ‬أمام‭ ‬القانون،‭ ‬وذلك‭ ‬للمرّة‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬التنظيم‭ ‬الدولي،‭ ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬نجاحها‭ ‬أيضاً،‭ ‬في‭ ‬تكثيف‭ ‬التفاعلات‭ ‬التعاونية‭ ‬بين‭ ‬الدول‭ ‬الأعضاء‭ ‬والمنظّمات‭ ‬الدولية‭ ‬الحكومية‭ ‬وغير‭ ‬الحكومية،‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى،‭ ‬ما‭ ‬عمّق‭ ‬الشعورَ‭ ‬بأن‭ ‬شبكة‭ ‬المصالح‭ ‬الناجمة‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬التفاعلات‭ ‬أصبحت‭ ‬قادرةً‭ ‬على‭ ‬التفاعل‭ ‬معاً‭ ‬داخل‭ ‬نسق‭ ‬كوني‭ ‬واحد،‭ ‬رغم‭ ‬التباين‭ ‬الكبير‭ ‬في‭ ‬موازين‭ ‬القوى‭ ‬بين‭ ‬الوحدات‭ ‬المكوّنة‭ ‬لهذا‭ ‬النسق‭. ‬كما‭ ‬يُلاحَظ‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬التغيّرات‭ ‬كشفت‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬وجود‭ ‬ثغرات‭ ‬كامنة‭ ‬في‭ ‬آليات‭ ‬الأمن‭ ‬الجماعي،‭ ‬وأظهرت‭ ‬عجزها‭ ‬عن‭ ‬التأقلم‭ ‬مع‭ ‬التحوّلات‭ ‬المستمرّة‭ ‬في‭ ‬بنية‭ ‬النظام‭ ‬الدولي‭.‬

تجدر‭ ‬الإشارة‭ ‬هنا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬آليات‭ ‬الأمن‭ ‬الجماعي،‭ ‬المنصوص‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬ميثاق‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة،‭ ‬صُمّمت‭ ‬استناداً‭ ‬إلى‭ ‬فرضيَّتَين‭ ‬أساسيَّتَين‭ ‬تبيّن‭ ‬لاحقاً‭ ‬عدم‭ ‬صحّتهما‭. ‬الأولى‭ ‬أن‭ ‬التحالف‭ ‬الذي‭ ‬تحقّق‭ ‬بين‭ ‬القوى‭ ‬الكبرى‭ ‬المنتصرة‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬سيستمرّ‭ ‬بعدها،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يحدُث‭ ‬بسبب‭ ‬انقسام‭ ‬هذه‭ ‬القوى‭ ‬إلى‭ ‬معسكرَين‭ ‬متصارعَين‭ ‬بعد‭ ‬سنوات‭ ‬قليلة‭ ‬من‭ ‬انتهاء‭ ‬هذه‭ ‬الحرب‭.‬

والثانية،‭ ‬أن‭ ‬بنية‭ ‬وموازين‭ ‬القوى‭ ‬في‭ ‬النظام‭ ‬الدولي‭ ‬ستبقى‭ ‬على‭ ‬النحو‭ ‬الذي‭ ‬انتهت‭ ‬إليه‭ ‬بعدما‭ ‬وضعت‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬أوزارها،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يحدث‭ ‬بسبب‭ ‬نمط‭ ‬التحالفات‭ ‬التي‭ ‬ولّدها‭ ‬انقسام‭ ‬النظام‭ ‬الدولي‭ ‬إلى‭ ‬معسكرَين‭ ‬متصارعَين‭ ‬ومهّد‭ ‬الطريق‭ ‬أمام‭ ‬صعود‭ (‬وارتقاء‭) ‬عديد‭ ‬من‭ ‬القوى،‭ ‬خصوصاً‭ ‬القوى‭ ‬التي‭ ‬هُزمت‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحرب،‭ ‬وفي‭ ‬مقدّمتها‭ ‬ألمانيا‭ ‬وإيطاليا‭ ‬واليابان‭.‬

‭ ‬وقد‭ ‬ترتّبت‭ ‬على‭ ‬ثبوت‭ ‬عدم‭ ‬صحّة‭ ‬الفرضيتَين‭ ‬نتائج‭ ‬بالغة‭ ‬الخطورة‭ ‬أدّت‭ ‬أولاً‭: ‬إلى‭ ‬عدم‭ ‬استكمال‭ ‬آليات‭ ‬الأمن‭ ‬الجماعي‭ ‬نفسها،‭ ‬خصوصاً‭ ‬ما‭ ‬تعلّق‭ ‬منها‭ ‬بتشكيل‭ ‬القوات‭ ‬العسكرية‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬توضع‭ ‬تحت‭ ‬تصرّف‭ ‬مجلس‭ ‬الأمن‭ ‬لاستخدامها‭ ‬عند‭ ‬الضرورة،‭ ‬وثانياً‭: ‬إلى‭ ‬تجميد‭ ‬لجنة‭ ‬أركان‭ ‬الحرب‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬ينبغي‭ ‬إدارة‭ ‬الأنشطة‭ ‬المتعلّقة‭ ‬بنزع‭ ‬السلاح‭ ‬والعمليات‭ ‬الميدانية‭ ‬تحت‭ ‬إشراف‭ ‬مجلس‭ ‬الأمن‭. ‬كما‭ ‬أدّت‭ (‬ثالثاً‭): ‬إلى‭ ‬الإسراف‭ ‬في‭ ‬استخدام‭ ‬حقّ‭ ‬النقض‭ (‬فيتو‭) ‬بسبب‭ ‬رغبة‭ ‬الدول‭ ‬دائمة‭ ‬العضوية‭ ‬في‭ ‬مجلس‭ ‬الأمن‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬حماية‭ ‬مصالحها‭ ‬فحسب،‭ ‬وإنما‭ ‬مصالح‭ ‬حلفائها‭ ‬أيضاً،‭ ‬ما‭ ‬أصاب‭ ‬مجلس‭ ‬الأمن‭ ‬بالشلل‭ ‬في‭ ‬فترات‭ ‬كثيرة‭. ‬وأدّى‭ ‬ذلك‭ (‬رابعاً‭): ‬إلى‭ ‬تشكيل‭ ‬أحلاف‭ ‬عسكرية‭ ‬نجم‭ ‬منها‭ ‬ظهور‭ ‬‮«‬مناطق‭ ‬نفوذ‮»‬‭ ‬يتناقض‭ ‬وجودها‭ ‬مع‭ ‬صميم‭ ‬مفهوم‭ ‬الأمن‭ ‬الجماعي‭.‬

وخامساً‭: ‬تحوّل‭ ‬الأعضاء‭ ‬الدائمين‭ ‬في‭ ‬مجلس‭ ‬الأمن،‭ ‬رغم‭ ‬ما‭ ‬بينهم‭ ‬من‭ ‬تناقضات،‭ ‬نادياً‭ ‬مغلقاً‭ ‬لا‭ ‬يسمح‭ ‬بإدخال‭ ‬تعديلات‭ ‬جوهرية‭ ‬على‭ ‬ميثاق‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬القضايا‭ ‬التي‭ ‬يحدث‭ ‬حولها‭ ‬إجماع،‭ ‬وهو‭ ‬أمر‭ ‬نادر‭. ‬وكان‭ ‬من‭ ‬الطبيعي،‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬كهذا،‭ ‬أن‭ ‬تتحوّل‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬مؤسّسةً‭ ‬عاجزةً‭ ‬عن‭ ‬القيام‭ ‬بوظيفتها‭ ‬الأساسية‭ ‬في‭ ‬حماية‭ ‬السلم‭ ‬والأمن‭ ‬الدوليَّين،‭ ‬وعصيّةً‭ ‬على‭ ‬الإصلاح،‭ ‬وغير‭ ‬قادرة‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬على‭ ‬التأقلم‭ ‬مع‭ ‬التطوّرات‭ ‬الناجمة‭ ‬عن‭ ‬تغيّر‭ ‬موازين‭ ‬القوى‭ ‬في‭ ‬النظام‭ ‬الدولي‭.‬

تتحمّل‭ ‬الدول‭ ‬الخمس،‭ ‬دائمة‭ ‬العضوية‭ ‬في‭ ‬مجلس‭ ‬الأمن،‭ ‬مجتمعةً‭ ‬المسؤولية‭ ‬عمّا‭ ‬آلت‭ ‬إليه‭ ‬أوضاع‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة،‭ ‬التي‭ ‬تبدو‭ ‬حالياً‭ (‬في‭ ‬ضوء‭ ‬التهجير‭ ‬القسري،‭ ‬وحرب‭ ‬الإبادة‭ ‬الجماعية‭ ‬التي‭ ‬تشنّها‭ ‬إسرائيل‭ ‬على‭ ‬الشعب‭ ‬الفلسطيني‭ ‬منذ‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬17‭ ‬شهراً‭) ‬مريضاً‭ ‬مسجّى‭ ‬فوق‭ ‬سرير‭ ‬في‭ ‬غرفة‭ ‬إنعاش،‭ ‬لا‭ ‬يقوى‭ ‬على‭ ‬البقاء‭ ‬حيّاً‭ ‬إلا‭ ‬عبر‭ ‬وسائل‭ ‬التنفّس‭ ‬الاصطناعي‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬بالذات‭ ‬تتحمّل‭ ‬القسط‭ ‬الأعظم‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬المسؤولية،‭ ‬بسبب‭ ‬حرصها‭ (‬من‭ ‬ناحية‭) ‬على‭ ‬الانفراد‭ ‬بالهيمنة‭ ‬على‭ ‬النظام‭ ‬الدولي‭ ‬مهما‭ ‬كانت‭ ‬الظروف،‭ ‬وحرصها‭ (‬من‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى‭)‬،‭ ‬على‭ ‬تقديم‭ ‬أشكال‭ ‬الحماية‭ ‬كافّة،‭ ‬السياسية‭ ‬والعسكرية،‭ ‬للكيان‭ ‬الصهيوني،‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يتورّع،‭ ‬منذ‭ ‬تأسيسه،‭ ‬عن‭ ‬ارتكاب‭ ‬أبشع‭ ‬الجرائم‭ ‬التي‭ ‬تشكّل‭ ‬انتهاكاتٍ‭ ‬صارخةً‭ ‬للقانون‭ ‬الدولي‭ ‬ولميثاق‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭. ‬فالولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تبنّت‭ (‬وبعد‭ ‬سنوات‭ ‬قليلة‭ ‬من‭ ‬قيام‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭) ‬سياسة‭ ‬احتواء‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي،‭ ‬التي‭ ‬جسّدها‭ ‬حلف‭ ‬شمال‭ ‬الأطلسي‭ (‬الناتو‭)‬،‭ ‬الذي‭ ‬شكّل‭ ‬قيامه‭ ‬عام‭ ‬1949‭ ‬أوّل‭ ‬معول‭ ‬هدم‭ ‬في‭ ‬صرح‭ ‬منظومة‭ ‬الأمن‭ ‬الجماعي‭ ‬المنصوص‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬ميثاق‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭. ‬

وعندما‭ ‬سقط‭ ‬جدار‭ ‬برلين‭ ‬عام‭ ‬1989،‭ ‬معلناً‭ ‬نهاية‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة،‭ ‬التي‭ ‬اتُّهمت‭ ‬بالتسبب‭ ‬في‭ ‬تجميد‭ ‬عمل‭ ‬هذه‭ ‬المنظومة،‭ ‬لاحت‭ ‬فرصة‭ ‬ثمينة‭ ‬لإعادة‭ ‬إحيائها،‭ ‬خصوصاً‭ ‬عقب‭ ‬غزو‭ ‬صدّام‭ ‬حسين‭ ‬الكويت‭ ‬عام‭ ‬1990،‭ ‬لكن‭ ‬حرص‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬على‭ ‬استخدام‭ ‬الأزمة‭ ‬وتوظيفها‭ ‬للتعجيل‭ ‬بسقوط‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي،‭ ‬دفعها‭ ‬إلى‭ ‬إهدار‭ ‬هذه‭ ‬الفرصة‭. ‬وبعد‭ ‬سقوط‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي‭ ‬أصبحت‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الدولةَ‭ ‬الأكثر‭ ‬استخداماً‭ ‬لممارسة‭ ‬حقّ‭ ‬النقض‭ ‬مقارنةً‭ ‬بجميع‭ ‬الدول‭ ‬الأخرى‭ ‬دائمة‭ ‬العضوية‭ ‬في‭ ‬مجلس‭ ‬الأمن،‭ ‬وكان‭ ‬الدافع‭ ‬الأساس‭ ‬وراء‭ ‬الإسراف‭ ‬في‭ ‬استخدام‭ ‬هذا‭ ‬الحقّ‭ ‬حماية‭ ‬إسرائيل،‭ ‬ومنع‭ ‬مجلس‭ ‬الأمن‭ ‬من‭ ‬معاقبتها‭ ‬على‭ ‬الجرائم‭ ‬التي‭ ‬ترتكبها،‭ ‬ما‭ ‬أدّى‭ ‬إلى‭ ‬تمادي‭ ‬إسرائيل‭ ‬في‭ ‬غيّها،‭ ‬ومهّد‭ ‬لعملية‭ ‬طوفان‭ ‬الأقصى،‭ ‬التي‭ ‬ردّت‭ ‬عليها‭ ‬إسرائيل‭ ‬بحرب‭ ‬إبادة‭ ‬جماعية،‭ ‬وبتطهير‭ ‬عرقي‭ ‬للفلسطينيين‭. ‬ولم‭ ‬تكتفِ‭ ‬إسرائيل‭ ‬بهذه‭ ‬الجرائم،‭ ‬بل‭ ‬إنّها‭ ‬دمرت‭ ‬المرافق‭ ‬التابعة‭ ‬لوكالة‭ ‬غوث‭ ‬وتشغيل‭ ‬اللاجئين‭ ‬الفلسطينيين‭ (‬أونروا‭)‬،‭ ‬وهي‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬البنية‭ ‬الإدارية‭ ‬للأمم‭ ‬المتحدة،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬المدارس‭ ‬والمستشفيات‭ ‬ومخيّمات‭ ‬اللاجئين،‭ ‬بل‭ ‬اغتالت‭ ‬مئات‭ ‬من‭ ‬موظّفي‭ ‬الوكالة،‭ ‬بمن‭ ‬فيهم‭ ‬عاملون‭ ‬في‭ ‬الإغاثة‭ ‬الإنسانية‭. ‬ورغم‭ ‬ذلك‭ ‬كلّه،‭ ‬واصلت‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬دعمها‭ ‬غير‭ ‬المشروط‭ ‬لإسرائيل،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مدّها‭ ‬بكل‭ ‬الوسائل‭ ‬المالية‭ ‬والعسكرية‭ ‬والسياسية‭ ‬التي‭ ‬تساعدها‭ ‬في‭ ‬ارتكاب‭ ‬هذه‭ ‬الجرائم‭ ‬كلّها،‭ ‬التي‭ ‬يندى‭ ‬لها‭ ‬جبين‭ ‬الإنسانية،‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬منها‭ ‬شريكاً‭ ‬فاعلاً‭ ‬أصليا‭ ‬في‭ ‬ارتكابها‭.‬

حين‭ ‬تصبح‭ ‬الدولة‭ ‬الأقوى،‭ ‬والتي‭ ‬تتحمّل‭ (‬بوصفها‭ ‬كذلك‭) ‬مسؤوليةً‭ ‬خاصّةً‭ ‬في‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬منظومة‭ ‬الأمن‭ ‬الجماعي‭ ‬في‭ ‬النظام‭ ‬الدولي‭ ‬الراهن،‭ ‬نفسها‭ ‬الدولة‭ ‬الأكثر‭ ‬انتهاكاً‭ ‬لقواعد‭ ‬هذه‭ ‬المنظومة‭ ‬وأحكامها،‭ ‬فمن‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬يدخل‭ ‬النظام‭ ‬الدولي‭ ‬الراهن‭ ‬برمّته‭ ‬في‭ ‬مأزقٍ‭ ‬لا‭ ‬فكاك‭ ‬منه‭.‬

ويكفي‭ ‬أن‭ ‬نلقي‭ ‬نظرةً‭ ‬عابرةً‭ ‬على‭ ‬موقف‭ ‬بقية‭ ‬الدول‭ ‬دائمة‭ ‬العضوية‭ ‬في‭ ‬مجلس‭ ‬الأمن‭ ‬لنصل‭ ‬إلى‭ ‬النتيجة‭ ‬نفسها‭. ‬فروسيا‭ ‬منشغلة‭ ‬بالحرب‭ ‬في‭ ‬أوكرانيا،‭ ‬والصين‭ ‬منشغلة‭ ‬ببناء‭ ‬قدراتها‭ ‬العسكرية‭ ‬لمواكبة‭ ‬التطوّر‭ ‬في‭ ‬قدراتها‭ ‬الاقتصادية،‭ ‬وفرنسا‭ ‬والمملكة‭ ‬المتحدة‭ ‬منشغلتان‭ ‬بالبحث‭ ‬عن‭ ‬آلية‭ ‬مستقلّة‭ ‬للدفاع‭ ‬عن‭ ‬أوروبا‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬الاعتماد‭ ‬على‭ ‬‮«‬الناتو‮»‬‭ ‬المهدّد‭ ‬بالانهيار،‭ ‬وبالتالي‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬القوى‭ ‬من‭ ‬هو‭ ‬مستعدّ‭ ‬للحديث‭ ‬عن‭ ‬موضوعاتٍ‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬إصلاح‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬أو‭ ‬إعادة‭ ‬إحياء‭ ‬منظومة‭ ‬الأمن‭ ‬الجماعي‭ ‬أو‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬آليات‭ ‬جديدة‭ ‬لاتخاذ‭ ‬القرار‭ ‬في‭ ‬مجلس‭ ‬الأمن‭.‬

ولأن‭ ‬التجارب‭ ‬السابقة،‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬نظام‭ ‬دولي‭ ‬يتمكّن‭ ‬من‭ ‬استبدال‭ ‬مفهوم‭ ‬توازن‭ ‬القوى‭ (‬التقليدي‭) ‬بمفهوم‭ ‬‮«‬الأمن‭ ‬الجماعي‮»‬‭ (‬الأكثر‭ ‬حداثةً‭)‬،‭ ‬تمت‭ ‬كلّها‭ ‬في‭ ‬أعقاب‭ ‬حروب‭ ‬عالمية‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬قابلةً‭ ‬للاندلاع‭ ‬في‭ ‬ظلّ‭ ‬توازن‭ ‬الرعب‭ ‬السائد‭ ‬حالياً،‭ ‬فالنتيجة‭ ‬الوحيدة‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬التوصّل‭ ‬إليها‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬انسداد‭ ‬أفق‭ ‬التطوّر‭ ‬السلمي‭ ‬للنظام‭ ‬الدولي‭ ‬القائم‭ ‬حالياً،‭ ‬الذي‭ ‬بات‭ ‬مرشّحا‭ ‬للدخول‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬من‭ ‬الفوضى‭ ‬قد‭ ‬تطول،‭ ‬بحثاً‭ ‬عن‭ ‬توازناتٍ‭ ‬جديدةٍ‭ ‬قد‭ ‬تفضي‭ ‬إلى‭ ‬نظام‭ ‬ثلاثي‭ ‬القطبية،‭ ‬تقوده‭ ‬الصين‭ ‬وروسيا‭ ‬والولايات‭ ‬المتحدة‭.‬

 

{‭ ‬أستاذ‭ ‬العلوم‭ ‬السياسية

في‭ ‬جامعة‭ ‬القاهرة

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا