لا شك أن توصل الولايات المتحدة الأمريكية وإيران إلى اتفاق نووي جديد سيكون أمر محل ترحيب من جانب دول الخليج العربي والتي لا ترغب في أزمات إقليمية جديدة في منطقة تعج بالأزمات المزمنة لها تداعيات خطيرة على أمن الخليج العربي والأمن الإقليمي عموماً، فلطالما دعت دول الخليج إلى ضرورة إيجاد حل سلمي لذلك الملف من خلال البيانات الختامية لاجتماعات المجلس الأعلى لدول الخليج العربي، بل ومطالبة دول الخليج غير ذي مرة بأن تكون جزءا من تلك المفاوضات، فضلاً عن الأدوار التي اضطلعت بها بعض دول الخليج لاستضافة وتسهيل تلك المفاوضات والتي أسفرت عن توقيع الاتفاق النووي عام 2015 قبل انسحاب الولايات المتحدة منه عام 2018.
تتعدد مخاوف دول الخليج العربي بشأن البرامج النووية الإيرانية ولعل في مقدمة تلك المخاوف تأثير امتلاك إيران للسلاح النووي على أمن الخليج العربي والأمن الإقليمي من حيث الخلل في توازن القوى الذي يعد أساس استقرار المنطقة، إذ كانت كل الأزمات الأمنية التي شهدتها تلك المنطقة عبر تاريخها محاولات من جانب أطراف إقليمية للإخلال بتوازن القوى لصالح طرف ما، مما كان له تبعات أمنية على المنطقة ككل ومن ذلك (الحرب العراقية – الإيرانية 1980-1988) الغزو العراقي لدولة الكويت عام 1990، من ناحية ثانية فإن امتلاك طرف إقليمي ما للسلاح النووي تتعاظم مخاطره إذا كان لدى ذلك الطرف الصواريخ بعيدة المدى التي لديها القدرة على حمل الرؤوس النووية لمسافات بعيدة، بالإضافة إلى الحوادث النووية وخاصة التسربات الإشعاعية حال تعرض المنشآت النووية لضربة عسكرية أو بفعل عوامل طبيعية مثل الزلازل، وفي منطقة الخليج سيكون انتشار تلك الإشعاعات سريعا.
ويعني ما سبق أن دول الخليج العربي حتى لو لم تكن طرفا في المفاوضات النووية الحالية بين الولايات المتحدة وإيران ولكنها معنية بنتائجها، ففي حال تم التوصل إلى اتفاق نووي جديد يتعين أن يراعي السياق الإقليمي والصراعات الإقليمية المزمنة التي تم استخدام التكنولوجيا فيها على نحو غير مسبوق لاستهداف المنشآت الحيوية في دول الخليج العربي، فالتوترات الإقليمية ليست المسألة النووية فحسب، فهناك قضايا أخرى عديدة ومن بينها تهديد الأمن البحري والصراعات الداخلية في دول الجوار والتي تتيح الفرصة لعمل المليشيات المسلحة بما ينعكس بشكل مباشر على أمن الخليج العربي، ويعني ذلك أن دول الخليج العربي يتعين أن تكون طرفاً في تلك المفاوضات أو على الأقل على دراية بمضمونها ويعيد ذلك إلى الأذهان تصريحات نايف الحجرف الأمين العام الأسبق لمجلس التعاون خلال مشاركته في حوار المنامة الأمني عام 2020 «بضرورة أن يتضمن أي اتفاق نووي جديد المصالح التي تضمن أمن المنطقة، وأن دول الخليج العربي لا تعارض امتلاك أي دولة للطاقة النووية للأغراض السلمية بشرط اتخاذ تلك الدولة ضمانات سلامة المرافق النووية وفقاً للمعايير الدولية»، مطالباً بأن تكون «دول الخليج طرفاً في أي مفاوضات مستقبلية تتعلق بالمنطقة» وهو المعنى ذاته الذي تضمنه البيان الختامي لاجتماع وزراء خارجية دول الخليج العربي في يونيو 2023 حيث جاء فيه «ضرورة مشاركة دول المجلس في جميع المفاوضات والمباحثات والاجتماعات الإقليمية والدولية بهذا الشأن وأن تشمل المفاوضات، بالإضافة إلى البرنامج النووي الإيراني كل القضايا والشواغل الأمنية لدول الخليج العربية، بما يسهم في تحقيق الأهداف والمصالح المشتركة في إطار احترام السيادة وسياسات حسن الجوار والالتزام بالقرارات الأممية والشرعية الدولية لضمان تعزيز الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي»، بما يعنيه ذلك من أن ذلك مطلب خليجي جماعي وبند دائم على طاولة اجتماعات المسؤولين الخليجيين.
وفي حال لم يتم التوصل إلى اتفاق –وهو سيناريو على الأرجح يظل مستبعدا– فإن المطروح من جانب الإدارة الأمريكية هو الخيار العسكري برغم صعوبته ولكنه يضع المنطقة بأسرها في حالة من التوتر وعدم الاستقرار.
ومن ثم فإن التساؤل المهم ماذا يجب على دول الخليج العربي القيام به؟
تؤكد الخبرة التاريخية أن خيار الحياد لا يدوم طالما لم ترغب الأطراف الأخرى في احترامه ، بما يعنيه ذلك من أن أي خيار عسكري سوف ينعكس على أمن واستقرار منطقة الخليج العربي بشكل مباشر حيث سيكون الرد الإيراني مستهدفاً المصالح الأمريكية في المنطقة سواء القواعد أو القوات، وبالتالي فإن دول الخليج العربي التي تمارس أدواراً دبلوماسية مهمة تجاه العديد من الصراعات الإقليمية والدولية يتعين عليها بذل المزيد من المساعي الحميدة لإبعاد شبح المواجهة العسكرية عن المنطقة، بالإضافة إلى الإجراءات الاحترازية المطلوبة وخاصة تأمين المنشآت الحيوية وتفعيل تدريبات إدارة الأزمات.
ولا يعني التوصل إلى اتفاق نووي انتهاء الصراعات الإقليمية، فعلى الرغم من مسارات المصالحة بين إيران وبعض دول الخليج العربي فإنه لا تزال هناك متطلبات يتعين العمل عليها من أجل تغليب عوامل الجغرافيا والجوار على متطلبات السياسة، صحيح أن فكرة تأسيس هيكل للأمن الإقليمي يضم دول الخليج العربي ودول الجوار بما فيها إيران يظل خياراً تكتنفه صعوبات عديدة ولكن لا يعني ذلك عدم إمكانية صياغة قواعد من شأنها ترسيخ بناء الثقة التي تتطلب حوارات مستمرة على مستويات مختلفة.
دول الخليج كما أشرت سابقاً لا تعارض حق الدول في امتلاك الطاقة النووية للأغراض السلمية، ولكن يبقى ذلك مشروطاً بانتهاج الشفافية وإتاحة الفرصة لمفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية للقيام بعمليات التفتيش المنوطة بهم للتأكد من سلمية تلك البرامج، كما يجب أن تبنى المفاعلات النووية من خلال تنفيذ كل معايير ومتطلبات الأمان النووي حتى يمكن تجنب الكوارث النووية التي شهدتها مناطق مختلفة من العالم ولا تزال تعاني آثارها المدمرة على البيئة والإنسان حتى اليوم.
وفي تقديري أن التوصل إلى حل لمسألة البرامج النووية الإيرانية- وهي التحدي الأهم – يجب أن يكون مقدمة نحو التفكير في إرساء مفهوم الأمن التعاوني بين دول الخليج العربي وإيران في ظل ثلاث حقائق مهمة للغاية أولها: استنزاف الصراعات العديد من الموارد على مدى عقود ومنها الحرب العراقية – الإيرانية على سبيل المثال، وثانيها: التحديات الأمنية الراهنة والتي أوجدت مفاهيم جديدة بعيداً عن الأمن العسكري ومنها الأمن الغذائي والصحي والتغير المناخي والتي تحتاج حتماً إلى تعاون بين دول الإقليم الواحد ولا يمكن لأي دولة مواجهتها بمفردها مهما بلغت إمكاناتها، وثالثها: احتدام التنافس الدولي تجاه منطقة الخليج العربي بما يعني زيادة حدة الاستقطاب ومن ثم التنافس الإقليمي في منطقة كانت – ولاتزال – محل اهتمام دول العالم وشهدت تدخلات خارجية بقدر ما أنهت تهديدات ولكنها كرست الخلل في توازن القوى الذي يعد أساسا لبنا ء أمن إقليمي مستدام.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك