بعد الحرب العالمية الثانية، سعت عديد من الدول الصغرى في آسيا إلى الانتقال من اقتصاد قائم على الزراعة إلى اقتصاد معرفي، بل الأهم من ذلك، إلى اقتصادات صناعية وتكنولوجية متقدمة تعتمد بدرجة أقل على الواردات من الدول الكبرى. ولم يكن هذا التحول سهلاً، إذ تبنت تلك الدول سياسات تنموية وابتكارية يمكن وصفها بـ«مخاطرة مالية»، التي كان من الممكن أن تنجح في تحقيق أهدافها، أو أن تنتهي إلى الفشل. وكانت تايوان من أبرز هذه الدول، حيث تُعدّ واحدة من «النمور الآسيوية الأربعة» التي أثبتت أن المخاطرة كانت تستحق العناء.
بدأت تايوان رحلتها التحولية في منتصف سبعينيات القرن الماضي، عندما أنشأت معهد أبحاث التكنولوجيا الصناعية أو ITRIالذي كان له دورٌ محوري في انتشال الاقتصاد التايواني من طابعه الزراعي التقليدي، ووضع البلاد على خريطة الاقتصاد العالمي المتقدم، لا سيما في قطاع أشباه الموصلات. ويُعد هذا المعهد من أهم المؤسسات التي أسهمت في انتقال تايوان إلى اقتصاد قائم على التكنولوجيا الفائقة.
فمنذ تأسيسه عام 1973م، لعب المعهد دورًا جوهريًّا في رفع مستوى الصناعة الوطنية، وتعزيز الابتكار، ونقل التكنولوجيا من الخارج إلى الداخل. وقد حصل المعهد في بدايته على تمويل حكومي قدره نحو 800 مليون دولار تايواني (ما يعادل 20 إلى 25 مليون دولار أمريكي في ذلك الوقت)، وهو ما كان يُعدّ استثماراً ضخماً ومجازفة كبرى في سياق الاقتصاد التايواني آنذاك، لكنه عكس إرادة وطنية استراتيجية لرفع كفاءة القطاع الصناعي عبر التكنولوجيا.
ومع مرور الوقت، شهد التمويل الحكومي للمعهد تزايداً ملحوظاً، خاصة مع اتضاح دوره القيادي في التحول التكنولوجي للدولة. ففي السنوات الأخيرة، تراوحت ميزانيته السنوية بين 15 و20 مليار دولار تايواني (حوالي 500–650 مليون دولار أمريكي)، حيث تشكل الحكومة نحو 60 بالمئة من هذا التمويل، بينما يتم تأمين البقية من عقود الأبحاث، والشراكات الصناعية، وترخيص التكنولوجيا. وتُخصص هذه الميزانية لدعم مبادرات البحث والتطوير في قطاعات متعددة، منها أشباه الموصلات، والطاقة الخضراء، والتكنولوجيا الحيوية.
وفي عام 2025م، من المتوقع أن ترتفع الميزانية بنسبة 10.77 بالمئة لتبلغ 25.5 مليار دولار تايواني، في دلالة واضحة على التركيز المتزايد على التقدم التكنولوجي في ظل تنامي نفوذ تايوان الدولي والحاجة المستمرة إلى تحديث بنيتها التحتية الصناعية.
لقد استوحت تايوان سياساتها التنموية جزئياً من نموذج اليابان الصناعي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، خاصة فيما يتعلق باستخدام الدولة كفاعل رئيسي في دفع عجلة التنمية، وآليات نقل التكنولوجيا، والتنسيق بين الحكومة والقطاع الأكاديمي والصناعة.
وانطلاقاً من هذه التجربة، يمكن لحكومة مملكة البحرين أن تستفيد من الدروس المستخلصة من النموذج التايواني، وذلك عبر تأسيس «معهد البحرين للابتكار والتكنولوجيا» يكون بمثابة مركز وطني للبحوث التطبيقية، ونقل التكنولوجيا، وتعزيز الابتكار الصناعي.
ومن أجل تمويل هذا المشروع دون إثقال كاهل الميزانية العامة، يمكن اعتماد آلية بسيطة تتمثل في اقتطاع نسبة 1 بالمئة أو أقل من الميزانيات السنوية لكل وزارة وهيئة حكومية، لتكوين صندوق وطني للابتكار يكون بمثابة رأس المال الأولي للمشروع. وسيكون من مهام هذا المعهد تطوير قطاعات استراتيجية مثل الطاقة النظيفة، والتصنيع المتقدم، والتكنولوجيا المالية، وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، وغيرها من المجالات الواعدة.
ومن خلال تركيز جهود البحث والتطوير، وتعزيز التعاون بين القطاعين العام والخاص، وتطوير الكفاءات الوطنية، والتنسيق بين الحكومة والأوساط الأكاديمية والصناعية، يمكن لهذا النموذج أن يُحدث أثراً اقتصادياً واسعاً، ويعزز من مكانة البحرين كمنافس فاعل في الاقتصاد المعرفي، لا سيما في صفوف الدول الصغيرة التي تسعى بجدية إلى تنويع مصادر دخلها.
وفي الختام، قد تُعد هذه الخطوة مجازفة مالية نوعا ما بالنسبة إلى البحرين، وقد تحتاج إلى وقت لتحقيق نتائج ملموسة، غير أن التجارب الدولية الناجحة تؤكد أن مثل هذه «المخاطرات المحسوبة» هي التي تصنع الفارق في مسارات التنمية الحقيقية. فهل آن الأوان للبدء في تطبيقها؟
{ مركز البحرين للدراسات
الاستراتيجية والدولية والطاقة
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك