العدد : ١٧١٨٧ - الأحد ١٣ أبريل ٢٠٢٥ م، الموافق ١٥ شوّال ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧١٨٧ - الأحد ١٣ أبريل ٢٠٢٥ م، الموافق ١٥ شوّال ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

لماذا لا يشكل الاستثمار في بيئة الابتكار مخاطرة مالية؟

بقلم: علي فقيه {

الأحد ١٣ أبريل ٢٠٢٥ - 02:00

بعد‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية،‭ ‬سعت‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬الصغرى‭ ‬في‭ ‬آسيا‭ ‬إلى‭ ‬الانتقال‭ ‬من‭ ‬اقتصاد‭ ‬قائم‭ ‬على‭ ‬الزراعة‭ ‬إلى‭ ‬اقتصاد‭ ‬معرفي،‭ ‬بل‭ ‬الأهم‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬إلى‭ ‬اقتصادات‭ ‬صناعية‭ ‬وتكنولوجية‭ ‬متقدمة‭ ‬تعتمد‭ ‬بدرجة‭ ‬أقل‭ ‬على‭ ‬الواردات‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬الكبرى‭. ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬هذا‭ ‬التحول‭ ‬سهلاً،‭ ‬إذ‭ ‬تبنت‭ ‬تلك‭ ‬الدول‭ ‬سياسات‭ ‬تنموية‭ ‬وابتكارية‭ ‬يمكن‭ ‬وصفها‭ ‬بـ«مخاطرة‭ ‬مالية‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬أن‭ ‬تنجح‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬أهدافها،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬تنتهي‭ ‬إلى‭ ‬الفشل‭. ‬وكانت‭ ‬تايوان‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬هذه‭ ‬الدول،‭ ‬حيث‭ ‬تُعدّ‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬‮«‬النمور‭ ‬الآسيوية‭ ‬الأربعة‮»‬‭ ‬التي‭ ‬أثبتت‭ ‬أن‭ ‬المخاطرة‭ ‬كانت‭ ‬تستحق‭ ‬العناء‭.‬

بدأت‭ ‬تايوان‭ ‬رحلتها‭ ‬التحولية‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬سبعينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬عندما‭ ‬أنشأت‭ ‬معهد‭ ‬أبحاث‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬الصناعية‭ ‬أو‭  ‬ITRIالذي‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬دورٌ‭ ‬محوري‭ ‬في‭ ‬انتشال‭ ‬الاقتصاد‭ ‬التايواني‭ ‬من‭ ‬طابعه‭ ‬الزراعي‭ ‬التقليدي،‭ ‬ووضع‭ ‬البلاد‭ ‬على‭ ‬خريطة‭ ‬الاقتصاد‭ ‬العالمي‭ ‬المتقدم،‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬في‭ ‬قطاع‭ ‬أشباه‭ ‬الموصلات‭. ‬ويُعد‭ ‬هذا‭ ‬المعهد‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬المؤسسات‭ ‬التي‭ ‬أسهمت‭ ‬في‭ ‬انتقال‭ ‬تايوان‭ ‬إلى‭ ‬اقتصاد‭ ‬قائم‭ ‬على‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬الفائقة‭. ‬

فمنذ‭ ‬تأسيسه‭ ‬عام‭ ‬1973م،‭ ‬لعب‭ ‬المعهد‭ ‬دورًا‭ ‬جوهريًّا‭ ‬في‭ ‬رفع‭ ‬مستوى‭ ‬الصناعة‭ ‬الوطنية،‭ ‬وتعزيز‭ ‬الابتكار،‭ ‬ونقل‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬من‭ ‬الخارج‭ ‬إلى‭ ‬الداخل‭. ‬وقد‭ ‬حصل‭ ‬المعهد‭ ‬في‭ ‬بدايته‭ ‬على‭ ‬تمويل‭ ‬حكومي‭ ‬قدره‭ ‬نحو‭ ‬800‭ ‬مليون‭ ‬دولار‭ ‬تايواني‭ (‬ما‭ ‬يعادل‭ ‬20‭ ‬إلى‭ ‬25‭ ‬مليون‭ ‬دولار‭ ‬أمريكي‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭)‬،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يُعدّ‭ ‬استثماراً‭ ‬ضخماً‭ ‬ومجازفة‭ ‬كبرى‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬الاقتصاد‭ ‬التايواني‭ ‬آنذاك،‭ ‬لكنه‭ ‬عكس‭ ‬إرادة‭ ‬وطنية‭ ‬استراتيجية‭ ‬لرفع‭ ‬كفاءة‭ ‬القطاع‭ ‬الصناعي‭ ‬عبر‭ ‬التكنولوجيا‭.‬

ومع‭ ‬مرور‭ ‬الوقت،‭ ‬شهد‭ ‬التمويل‭ ‬الحكومي‭ ‬للمعهد‭ ‬تزايداً‭ ‬ملحوظاً،‭ ‬خاصة‭ ‬مع‭ ‬اتضاح‭ ‬دوره‭ ‬القيادي‭ ‬في‭ ‬التحول‭ ‬التكنولوجي‭ ‬للدولة‭. ‬ففي‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة،‭ ‬تراوحت‭ ‬ميزانيته‭ ‬السنوية‭ ‬بين‭ ‬15‭ ‬و20‭ ‬مليار‭ ‬دولار‭ ‬تايواني‭ (‬حوالي‭ ‬500650‭ ‬مليون‭ ‬دولار‭ ‬أمريكي‭)‬،‭ ‬حيث‭ ‬تشكل‭ ‬الحكومة‭ ‬نحو‭ ‬60‭ ‬بالمئة‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬التمويل،‭ ‬بينما‭ ‬يتم‭ ‬تأمين‭ ‬البقية‭ ‬من‭ ‬عقود‭ ‬الأبحاث،‭ ‬والشراكات‭ ‬الصناعية،‭ ‬وترخيص‭ ‬التكنولوجيا‭. ‬وتُخصص‭ ‬هذه‭ ‬الميزانية‭ ‬لدعم‭ ‬مبادرات‭ ‬البحث‭ ‬والتطوير‭ ‬في‭ ‬قطاعات‭ ‬متعددة،‭ ‬منها‭ ‬أشباه‭ ‬الموصلات،‭ ‬والطاقة‭ ‬الخضراء،‭ ‬والتكنولوجيا‭ ‬الحيوية‭.‬

وفي‭ ‬عام‭ ‬2025م،‭ ‬من‭ ‬المتوقع‭ ‬أن‭ ‬ترتفع‭ ‬الميزانية‭ ‬بنسبة‭ ‬10‭.‬77‭ ‬بالمئة‭ ‬لتبلغ‭ ‬25.5‭ ‬مليار‭ ‬دولار‭ ‬تايواني،‭ ‬في‭ ‬دلالة‭ ‬واضحة‭ ‬على‭ ‬التركيز‭ ‬المتزايد‭ ‬على‭ ‬التقدم‭ ‬التكنولوجي‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬تنامي‭ ‬نفوذ‭ ‬تايوان‭ ‬الدولي‭ ‬والحاجة‭ ‬المستمرة‭ ‬إلى‭ ‬تحديث‭ ‬بنيتها‭ ‬التحتية‭ ‬الصناعية‭.‬

لقد‭ ‬استوحت‭ ‬تايوان‭ ‬سياساتها‭ ‬التنموية‭ ‬جزئياً‭ ‬من‭ ‬نموذج‭ ‬اليابان‭ ‬الصناعي‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية،‭ ‬خاصة‭ ‬فيما‭ ‬يتعلق‭ ‬باستخدام‭ ‬الدولة‭ ‬كفاعل‭ ‬رئيسي‭ ‬في‭ ‬دفع‭ ‬عجلة‭ ‬التنمية،‭ ‬وآليات‭ ‬نقل‭ ‬التكنولوجيا،‭ ‬والتنسيق‭ ‬بين‭ ‬الحكومة‭ ‬والقطاع‭ ‬الأكاديمي‭ ‬والصناعة‭.‬

وانطلاقاً‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬التجربة،‭ ‬يمكن‭ ‬لحكومة‭ ‬مملكة‭ ‬البحرين‭ ‬أن‭ ‬تستفيد‭ ‬من‭ ‬الدروس‭ ‬المستخلصة‭ ‬من‭ ‬النموذج‭ ‬التايواني،‭ ‬وذلك‭ ‬عبر‭ ‬تأسيس‭ ‬‮«‬معهد‭ ‬البحرين‭ ‬للابتكار‭ ‬والتكنولوجيا‮»‬‭ ‬يكون‭ ‬بمثابة‭ ‬مركز‭ ‬وطني‭ ‬للبحوث‭ ‬التطبيقية،‭ ‬ونقل‭ ‬التكنولوجيا،‭ ‬وتعزيز‭ ‬الابتكار‭ ‬الصناعي‭.‬

ومن‭ ‬أجل‭ ‬تمويل‭ ‬هذا‭ ‬المشروع‭ ‬دون‭ ‬إثقال‭ ‬كاهل‭ ‬الميزانية‭ ‬العامة،‭ ‬يمكن‭ ‬اعتماد‭ ‬آلية‭ ‬بسيطة‭ ‬تتمثل‭ ‬في‭ ‬اقتطاع‭ ‬نسبة‭ ‬1‭ ‬بالمئة‭ ‬أو‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬الميزانيات‭ ‬السنوية‭ ‬لكل‭ ‬وزارة‭ ‬وهيئة‭ ‬حكومية،‭ ‬لتكوين‭ ‬صندوق‭ ‬وطني‭ ‬للابتكار‭ ‬يكون‭ ‬بمثابة‭ ‬رأس‭ ‬المال‭ ‬الأولي‭ ‬للمشروع‭. ‬وسيكون‭ ‬من‭ ‬مهام‭ ‬هذا‭ ‬المعهد‭ ‬تطوير‭ ‬قطاعات‭ ‬استراتيجية‭ ‬مثل‭ ‬الطاقة‭ ‬النظيفة،‭ ‬والتصنيع‭ ‬المتقدم،‭ ‬والتكنولوجيا‭ ‬المالية،‭ ‬وتطبيقات‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي،‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬المجالات‭ ‬الواعدة‭.‬

ومن‭ ‬خلال‭ ‬تركيز‭ ‬جهود‭ ‬البحث‭ ‬والتطوير،‭ ‬وتعزيز‭ ‬التعاون‭ ‬بين‭ ‬القطاعين‭ ‬العام‭ ‬والخاص،‭ ‬وتطوير‭ ‬الكفاءات‭ ‬الوطنية،‭ ‬والتنسيق‭ ‬بين‭ ‬الحكومة‭ ‬والأوساط‭ ‬الأكاديمية‭ ‬والصناعية،‭ ‬يمكن‭ ‬لهذا‭ ‬النموذج‭ ‬أن‭ ‬يُحدث‭ ‬أثراً‭ ‬اقتصادياً‭ ‬واسعاً،‭ ‬ويعزز‭ ‬من‭ ‬مكانة‭ ‬البحرين‭ ‬كمنافس‭ ‬فاعل‭ ‬في‭ ‬الاقتصاد‭ ‬المعرفي،‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬في‭ ‬صفوف‭ ‬الدول‭ ‬الصغيرة‭ ‬التي‭ ‬تسعى‭ ‬بجدية‭ ‬إلى‭ ‬تنويع‭ ‬مصادر‭ ‬دخلها‭.‬

وفي‭ ‬الختام،‭ ‬قد‭ ‬تُعد‭ ‬هذه‭ ‬الخطوة‭ ‬مجازفة‭ ‬مالية‭ ‬نوعا‭ ‬ما‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬البحرين،‭ ‬وقد‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬وقت‭ ‬لتحقيق‭ ‬نتائج‭ ‬ملموسة،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬التجارب‭ ‬الدولية‭ ‬الناجحة‭ ‬تؤكد‭ ‬أن‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬‮«‬المخاطرات‭ ‬المحسوبة‮»‬‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تصنع‭ ‬الفارق‭ ‬في‭ ‬مسارات‭ ‬التنمية‭ ‬الحقيقية‭. ‬فهل‭ ‬آن‭ ‬الأوان‭ ‬للبدء‭ ‬في‭ ‬تطبيقها؟

 

{ مركز‭ ‬البحرين‭ ‬للدراسات‭ ‬

الاستراتيجية‭ ‬والدولية‭ ‬والطاقة

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا