كان الفيلسوف الإغريقي أفلاطون شديد البغض للديمقراطية إذ رأى في الديمقراطيات تجسيدا لنظام يتبع أهواء وغرائز المواطنين بدلا من السعي نحو الصالح العام. فالديمقراطية في رأيه لا تسمح للمواطنين كافة بالتعبير عن آرائهم كما أنها تمثل مجتمعات مؤمنة بحرية مطلقة للإرادة وهو ما جعل الحرية ضربا من الفوضوية يتصارع فيها المواطنون من أجل تحقيق رغباتهم الأنانية الخاصة وتصير القيادة الرشيدة فيها أمرا مستحيلا.
وعندما جاء المفكر الفرنسي مونتسكيو في القرن الـ 18 نادى بمبدأ فصل السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية، بوصفه الطريق الملكي إلى الديمقراطية والحرية والعدالة. وإذا ما تأملنا المشهد السياسي الحالي في فرنسا نتذكر في شيء من الحيرة مقولتي أفلاطون ومونتسكيو. إذ ثمة تياران متناقضان على الساحة الفرنسية أحدهما يهاجم القضاء ويتهمه بنحر الديمقراطية على مذبح العدالة وانتهاك مبدأ الفصل بين السلطات، وتيار آخر يهاجم التيار الأول ويتهمه بانتهاك الديمقراطية وعدم احترام مبدأ الفصل بين السلطات! أي أن كلا منهما يورد ذات الحجج: انتهاك الديمقراطية ومبدأ الفصل بين السلطات، ولكن ليستدل بها على نتائج مناقضة لما يصل إليها الآخر.
في نهاية الشهر الماضي حكم القضاء الفرنسي على زعيمة حزب «التجمع الوطني» اليميني المتطرف السيدة مارين لوبن بالسجن خمس سنوات ثلاث منها تحت الإيقاف واثنتين تحت المراقبة بسوار إلكتروني، كما جردها من أهلية الترشح للانتخابات مدة خمس سنوات. وسبب الإدانة اتهامها باختلاس الأموال العامة عندما كانت تشغل منصب نائبة في البرلمان الأوروبي بين عامي 2004 و2017، إذ قامت بتوظيف أربعة مساعدين لها كانوا في الواقع يعملون لصالح حزب التجمع الوطني، بينما يدفع البرلمان الأوروبي لهم رواتبهم.
وثبت من التحقيقات أن هؤلاء المساعدين لم توكل لهم أي مهام ترتبط مباشرة بالعمل البرلماني، بل سخروا كل جهودهم لإدارة الحزب. والمعلوم أن مارين لوبن بالرغم من عضويتها في البرلمان الأوروبي هي من أشد المعادين لفكرة الاتحاد الأوروبي، وانضمام فرنسا له وطالبت بخروج بلدها من اليورو أو إلغائه.
لقد أصابها حكم الإدانة بصدمة كبيرة، وخاصة في شقه الخاص بتجريدها من أهلية الترشح للانتخابات، فشرعت تشن هجوما شرسا تنديداً بـ«استبداد القضاة» وبمناورات النظام لمنعها من الوصول إلى سدّة الرئاسة. كما احتج شخصيات سياسية بارزة ومن بينها رئيس الوزراء نفسه على حكم الإدانة ورأوا فيه حكما سياسيا ينطوي على عدوان صارخ على سلطة الشعب باسم العدالة. وخرجت في الشوارع مظاهرات حاشدة نظمها أنصار اليمين المتطرف وأحزاب أخرى لتهاجم القضاء في الوقت الذي خرجت فيه مظاهرات مضادة نظمها اليسار الفرنسي لتعرب عن تأييدها للحكم القضائي وتتهم اليمين المتطرف بالاعتداء على استقلال القضاء والمساس بنزاهته.
لكن محكمة الاستئناف أعلنت عقب صدور حكم الإدانة مباشرة أنها ستنظر في قضية مارين لوبن ضمن إطار زمني مخصوص يسمح بإصدار قرار في صيف 2026 أي قبل بضعة أشهر من الانتخابات الرئاسية الفرنسية عام 2027 مما يتيح لزعيمة اليمين المتطرّف الترشح لها في حال تمّ نقض إدانتها!
وأعلنت مارين لوبن أنها ستلجأ إلى المجلس الدستوري للطعن في حكم الإدانة استنادا إلى «عدم التوافق بين قرار المحكمة بعدم الأهلية مؤقّت التنفيذ وحرية الناخبين المنصوص عليها في الدستور»، كما أفادت بأنها سترفع قضية بذات المعنى إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، وانبرى المعلقون والسياسيون يتهكمون على القضاء بعبارات دارجة يتداولونها كلما أرادوا التعبير عن استيائهم مما يعتبرونه تجاوزا من جانب القضاء.
والسؤال هو: هل كان حكم الإدانة فعلا حكما صادرا لدوافع سياسية وينطوي على مساس بالديمقراطية واعتداء على السلطة التشريعية وانتهاكا لمبدأ الفصل بين السلطات؟.
الواقع أن الأفعال المنسوبة إلى مارين لوبن كلها يؤثمها القانون الفرنسي كما ينص على نفس العقوبات التي أدانها بها حكم القضاء، بعدما ثبت له على وجه اليقين أنها قد اقترفتها. يضاف إلى ذلك أن مارين لوبن عندما اختلست أموال البرلمان الأوروبي لمصلحة حزبها كانت تعتبر جريمتها عملا وطنيا باسم الديمقراطية ترد من خلاله إلى خزينة بلدها ما تسدده للاتحاد الأوروبي.
{ أستاذ فلسفة اللغة والأدب الفرنسي
بكلية الآداب - جامعة حلوان
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك