العدد : ١٧١٨٨ - الاثنين ١٤ أبريل ٢٠٢٥ م، الموافق ١٦ شوّال ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧١٨٨ - الاثنين ١٤ أبريل ٢٠٢٥ م، الموافق ١٦ شوّال ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

صوت التسامح يعلو لتعميق التعايش الإنساني

بقلم: نبيلة رجب

السبت ١٢ أبريل ٢٠٢٥ - 02:00

في‭ ‬زمن‭ ‬تتزاحم‭ ‬فيه‭ ‬التوترات،‭ ‬ويعلو‭ ‬فيه‭ ‬ضجيج‭ ‬الآراء‭ ‬المتضادة،‭ ‬تصبح‭ ‬القيم‭ ‬الهادئة‭ ‬أكثر‭ ‬تأثيرا‭ ‬مما‭ ‬نتخيل‭. ‬التسامح،‭ ‬رغم‭ ‬بساطة‭ ‬لفظه،‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬القيم‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تفقد‭ ‬بريقها‭ ‬مع‭ ‬مرور‭ ‬الزمن،‭ ‬بل‭ ‬تزداد‭ ‬أهميته‭ ‬كلما‭ ‬اشتدت‭ ‬صراعات‭ ‬البشر‭. ‬ليس‭ ‬لأنه‭ ‬حل‭ ‬سحري،‭ ‬بل‭ ‬لأنه‭ ‬يفتح‭ ‬نوافذ‭ ‬للحوار‭ ‬عندما‭ ‬تغلق‭ ‬الأبواب،‭ ‬ويزرع‭ ‬مساحات‭ ‬من‭ ‬الطمأنينة‭ ‬حين‭ ‬يعم‭ ‬التوتر‭.‬

عند‭ ‬إعلان‭ ‬تعديل‭ ‬اسم‭ ‬مركز‭ ‬الملك‭ ‬حمد‭ ‬العالمي‭ ‬للتعايش‭ ‬السلمي،‭ ‬ليصبح‭ ‬‮«‬مركز‭ ‬الملك‭ ‬حمد‭ ‬العالمي‭ ‬للتعايش‭ ‬والتسامح‮»‬،‭ ‬بدا‭ ‬الاسم‭ ‬الجديد‭ ‬وكأنه‭ ‬يعكس‭ ‬نضجا‭ ‬في‭ ‬فهم‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬المفهومين‭. ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬التعايش‭ ‬وحده‭ ‬كافيا‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬تتسع‭ ‬فيه‭ ‬الاختلافات،‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يُبنَ‭ ‬على‭ ‬أرضية‭ ‬من‭ ‬التسامح‭ ‬الواعي‭. ‬فالتعايش‭ ‬هو‭ ‬الحضور‭ ‬المشترك،‭ ‬أما‭ ‬التسامح‭ ‬فهو‭ ‬ما‭ ‬يُبقي‭ ‬هذا‭ ‬الحضور‭ ‬إنسانيا،‭ ‬متماسكا،‭ ‬وقادرًا‭ ‬على‭ ‬الاستمرار‭.‬

في‭ ‬مجتمعات‭ ‬يتنوع‭ ‬فيها‭ ‬النسيج‭ ‬المذهبي‭ ‬والثقافي‭ ‬كالمجتمع‭ ‬البحريني،‭ ‬حيث‭ ‬تتجاور‭ ‬الخلفيات‭ ‬وتتقاطع‭ ‬الانتماءات،‭ ‬تصبح‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬التسامح‭ ‬أكثر‭ ‬إلحاحا‭. ‬نحن‭ ‬لا‭ ‬نختار‭ ‬دائما‭ ‬من‭ ‬يجاورنا‭ ‬في‭ ‬السكن‭ ‬أو‭ ‬العمل‭ ‬أو‭ ‬الدراسة،‭ ‬لكننا‭ ‬نملك‭ ‬دائما‭ ‬الخيار‭ ‬في‭ ‬كيفية‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬هذا‭ ‬التنوع‭: ‬إما‭ ‬بعين‭ ‬الاحترام‭ ‬أو‭ ‬بعين‭ ‬الشك‭.‬

ولعل‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬شواهد‭ ‬تؤكد‭ ‬أن‭ ‬التسامح‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬نقطة‭ ‬تحول‭ ‬حاسمة‭ ‬في‭ ‬مسار‭ ‬المجتمعات‭. ‬ففي‭ ‬كندا،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تعاني‭ ‬في‭ ‬فترات‭ ‬سابقة‭ ‬من‭ ‬توترات‭ ‬بين‭ ‬المهاجرين‭ ‬الجدد‭ ‬والسكان‭ ‬الأصليين،‭ ‬وكذلك‭ ‬بين‭ ‬المجموعات‭ ‬الثقافية‭ ‬المختلفة،‭ ‬اتبعت‭ ‬الدولة‭ ‬نهجا‭ ‬صريحا‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬الاعتراف‭ ‬بالتعدد،‭ ‬والاعتذار‭ ‬عن‭ ‬الأخطاء‭ ‬التاريخية،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬احتضان‭ ‬هذا‭ ‬التنوع‭ ‬تحت‭ ‬مظلة‭ ‬المواطنة‭ ‬الكندية‭ ‬الجامعة‭.‬

لم‭ ‬تكن‭ ‬المسيرة‭ ‬سهلة،‭ ‬لكن‭ ‬التسامح‭ ‬المؤسسي‭ ‬والشعبي‭ ‬أسهم‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬نموذج‭ ‬يحترم‭ ‬التعدد‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يذيب‭ ‬الخصوصيات‭. ‬واليوم‭ ‬تعد‭ ‬كندا‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬الدول‭ ‬استقرارًا‭ ‬وازدهارًا،‭ ‬لأنها‭ ‬اختارت‭ ‬إدارة‭ ‬خلافاتها‭ ‬بروح‭ ‬تسامحية‭ ‬مدروسة‭. ‬

كذلك،‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الثورة،‭ ‬ورغم‭ ‬الصعوبات،‭ ‬شهدت‭ ‬البلاد‭ ‬انتقالا‭ ‬سياسيا‭ ‬سلميا‭ ‬نسبيا‭ ‬بفضل‭ ‬توافقات‭ ‬قائمة‭ ‬على‭ ‬قبول‭ ‬الاختلاف‭ ‬وإعلاء‭ ‬المصلحة‭ ‬العامة،‭ ‬ما‭ ‬جعل‭ ‬التجربة‭ ‬التونسية‭ ‬تُذكر‭ ‬كنموذج‭ ‬فريد‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تواجه‭ ‬بعض‭ ‬المشكلات‭ ‬لاحقا‭.‬

كما‭ ‬أن‭ ‬البعد‭ ‬الديني‭ ‬للتسامح‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬تجاهله‭ ‬في‭ ‬مجتمعات‭ ‬يغلب‭ ‬عليها‭ ‬الطابع‭ ‬الإيماني‭. ‬ففي‭ ‬الإسلام،‭ ‬يتكرر‭ ‬تأكيد‭ ‬عدم‭ ‬الإكراه،‭ ‬وعلى‭ ‬الدعوة‭ ‬بالحكمة‭ ‬والموعظة‭ ‬الحسنة،‭ ‬وتتجلى‭ ‬صور‭ ‬التسامح‭ ‬في‭ ‬مواقف‭ ‬عملية‭ ‬خالدة،‭ ‬كعفو‭ ‬النبي‭ ‬محمد،‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم،‭ ‬عن‭ ‬أهل‭ ‬مكة‭ ‬يوم‭ ‬الفتح،‭ ‬رغم‭ ‬ما‭ ‬تعرض‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬إيذاء‭ ‬على‭ ‬أيديهم‭. ‬وفي‭ ‬المسيحية،‭ ‬يعد‭ ‬الغفران‭ ‬ركنا‭ ‬مركزيا،‭ ‬ويتجسد‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬كلمات‭ ‬السيد‭ ‬المسيح‭: ‬‮«‬يا‭ ‬أبتاه،‭ ‬اغفر‭ ‬لهم،‭ ‬لأنهم‭ ‬لا‭ ‬يعلمون‭ ‬ماذا‭ ‬يفعلون‮»‬‭. ‬التسامح،‭ ‬إذن،‭ ‬ليس‭ ‬خروجا‭ ‬عن‭ ‬الدين،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬امتدادٌ‭ ‬له‭ ‬جوهره‭ ‬وروحه‭.‬

لكن،‭ ‬من‭ ‬المهم‭ ‬ألا‭ ‬نُفرط‭ ‬في‭ ‬تصوير‭ ‬التسامح‭ ‬كحل‭ ‬سحري‭ ‬لكل‭ ‬المشكلات‭. ‬فهناك‭ ‬مواقف‭ ‬تتطلب‭ ‬الحزم،‭ ‬وحقوق‭ ‬لا‭ ‬ينبغي‭ ‬التنازل‭ ‬عنها‭ ‬بدعوى‭ ‬التفاهم‭. ‬التسامح‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬القبول‭ ‬بالإساءة،‭ ‬ولا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬نصمت‭ ‬عن‭ ‬الظلم‭. ‬هو‭ ‬ليس‭ ‬دعوة‭ ‬للسكوت،‭ ‬بل‭ ‬دعوة‭ ‬لاختيار‭ ‬أسلوب‭ ‬أكثر‭ ‬إنسانية‭ ‬في‭ ‬المواجهة‭. ‬التوازن‭ ‬هنا‭ ‬هو‭ ‬مفتاح‭ ‬الفهم‭ ‬الصحيح‭ ‬لهذه‭ ‬القيمة‭.‬

نُختبر‭ ‬بالتسامح‭ ‬في‭ ‬التفاصيل‭ ‬الصغيرة‭ ‬قبل‭ ‬المواقف‭ ‬الكبرى‭: ‬حين‭ ‬نختلف‭ ‬مع‭ ‬جار،‭ ‬أو‭ ‬نغضب‭ ‬من‭ ‬زميل‭ ‬في‭ ‬العمل،‭ ‬أو‭ ‬نتلقى‭ ‬نقدا‭ ‬غير‭ ‬متوقع‭. ‬كيف‭ ‬نرد؟‭ ‬هل‭ ‬نرتفع‭ ‬فوق‭ ‬الموقف،‭ ‬أم‭ ‬ننجرّ‭ ‬إلى‭ ‬ردة‭ ‬فعل؟‭ ‬هذه‭ ‬المواقف‭ ‬اليومية‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تصقل‭ ‬فينا‭ ‬قيمة‭ ‬التسامح‭ ‬وتجعلها‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬شعار‭.‬

ومن‭ ‬الطبيعي‭ ‬ألا‭ ‬تكون‭ ‬التربية‭ ‬على‭ ‬التسامح‭ ‬حكرا‭ ‬على‭ ‬البيت‭ ‬أو‭ ‬المدرسة،‭ ‬بل‭ ‬مسؤولية‭ ‬مشتركة‭ ‬تمتد‭ ‬إلى‭ ‬الإعلام،‭ ‬والفن،‭ ‬والمحتوى‭ ‬الرقمي،‭ ‬وكل‭ ‬صوت‭ ‬يؤثر‭ ‬في‭ ‬تشكيل‭ ‬الوعي‭ ‬العام‭. ‬فالقيم‭ ‬لا‭ ‬تُلقن،‭ ‬بل‭ ‬تجسّد‭. ‬والقدوة‭ ‬هي‭ ‬المعلم‭ ‬الأبلغ‭.‬

التسامح،‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬المطاف،‭ ‬لا‭ ‬يغير‭ ‬الآخر‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬يحررنا‭ ‬نحن‭. ‬يحررنا‭ ‬من‭ ‬مرارة‭ ‬الكراهية،‭ ‬ومن‭ ‬ضيق‭ ‬الأحكام‭ ‬الجاهزة،‭ ‬ومن‭ ‬أسر‭ ‬ردة‭ ‬الفعل‭ ‬المتسرعة‭. ‬هو‭ ‬توسعة‭ ‬لقلوبنا‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬تنازلا‭ ‬في‭ ‬آرائنا‭.‬

وهو‭ ‬كذلك‭ ‬أساس‭ ‬مهم‭ ‬لأي‭ ‬مشروع‭ ‬إصلاحي‭. ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬مجتمع‭ ‬ناضج‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬ثقافة‭ ‬التسامح‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬بنيته‭. ‬الإصلاح‭ ‬لا‭ ‬يبدأ‭ ‬دائما‭ ‬بالقوانين،‭ ‬بل‭ ‬أحيانا‭ ‬يبدأ‭ ‬بكلمة‭ ‬تقال‭ ‬بنبرة‭ ‬هادئة،‭ ‬أو‭ ‬بحوار‭ ‬يفتح‭ ‬رغم‭ ‬الخلاف،‭ ‬أو‭ ‬باعتذار‭ ‬يُقدم‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يطلب‭.‬

نكتب‭ ‬عن‭ ‬التسامح،‭ ‬لا‭ ‬لأننا‭ ‬بلغنا‭ ‬قمته،‭ ‬بل‭ ‬لأننا‭ ‬نحتاج‭ ‬أن‭ ‬نُذكّر‭ ‬أنفسنا‭ ‬دائما‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مرحلة‭. ‬ليس‭ ‬لتزيين‭ ‬الخطاب،‭ ‬بل‭ ‬لإعادة‭ ‬ترتيب‭ ‬علاقتنا‭ ‬بأنفسنا‭ ‬وبالآخر‭. ‬فالمجتمعات‭ ‬التي‭ ‬تتعلم‭ ‬كيف‭ ‬تصغي‭ ‬لبعضها،‭ ‬هي‭ ‬المجتمعات‭ ‬التي‭ ‬تعرف‭ ‬كيف‭ ‬تمشي‭ ‬بثقة‭ ‬نحو‭ ‬الغد،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬اختلفت‭ ‬خطوات‭ ‬أفرادها‭.‬

 

rajabnabeela@gmail‭.‬com

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا