في زمن تتزاحم فيه التوترات، ويعلو فيه ضجيج الآراء المتضادة، تصبح القيم الهادئة أكثر تأثيرا مما نتخيل. التسامح، رغم بساطة لفظه، هو من تلك القيم التي لا تفقد بريقها مع مرور الزمن، بل تزداد أهميته كلما اشتدت صراعات البشر. ليس لأنه حل سحري، بل لأنه يفتح نوافذ للحوار عندما تغلق الأبواب، ويزرع مساحات من الطمأنينة حين يعم التوتر.
عند إعلان تعديل اسم مركز الملك حمد العالمي للتعايش السلمي، ليصبح «مركز الملك حمد العالمي للتعايش والتسامح»، بدا الاسم الجديد وكأنه يعكس نضجا في فهم العلاقة بين المفهومين. لم يعد التعايش وحده كافيا في عالم تتسع فيه الاختلافات، ما لم يُبنَ على أرضية من التسامح الواعي. فالتعايش هو الحضور المشترك، أما التسامح فهو ما يُبقي هذا الحضور إنسانيا، متماسكا، وقادرًا على الاستمرار.
في مجتمعات يتنوع فيها النسيج المذهبي والثقافي كالمجتمع البحريني، حيث تتجاور الخلفيات وتتقاطع الانتماءات، تصبح الحاجة إلى التسامح أكثر إلحاحا. نحن لا نختار دائما من يجاورنا في السكن أو العمل أو الدراسة، لكننا نملك دائما الخيار في كيفية التعامل مع هذا التنوع: إما بعين الاحترام أو بعين الشك.
ولعل في التاريخ شواهد تؤكد أن التسامح يمكن أن يكون نقطة تحول حاسمة في مسار المجتمعات. ففي كندا، التي كانت تعاني في فترات سابقة من توترات بين المهاجرين الجدد والسكان الأصليين، وكذلك بين المجموعات الثقافية المختلفة، اتبعت الدولة نهجا صريحا يقوم على الاعتراف بالتعدد، والاعتذار عن الأخطاء التاريخية، ومن ثم احتضان هذا التنوع تحت مظلة المواطنة الكندية الجامعة.
لم تكن المسيرة سهلة، لكن التسامح المؤسسي والشعبي أسهم في بناء نموذج يحترم التعدد دون أن يذيب الخصوصيات. واليوم تعد كندا واحدة من أكثر الدول استقرارًا وازدهارًا، لأنها اختارت إدارة خلافاتها بروح تسامحية مدروسة.
كذلك، في تونس ما بعد الثورة، ورغم الصعوبات، شهدت البلاد انتقالا سياسيا سلميا نسبيا بفضل توافقات قائمة على قبول الاختلاف وإعلاء المصلحة العامة، ما جعل التجربة التونسية تُذكر كنموذج فريد في المنطقة قبل أن تواجه بعض المشكلات لاحقا.
كما أن البعد الديني للتسامح لا يمكن تجاهله في مجتمعات يغلب عليها الطابع الإيماني. ففي الإسلام، يتكرر تأكيد عدم الإكراه، وعلى الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وتتجلى صور التسامح في مواقف عملية خالدة، كعفو النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، عن أهل مكة يوم الفتح، رغم ما تعرض له من إيذاء على أيديهم. وفي المسيحية، يعد الغفران ركنا مركزيا، ويتجسد ذلك في كلمات السيد المسيح: «يا أبتاه، اغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون». التسامح، إذن، ليس خروجا عن الدين، بل هو امتدادٌ له جوهره وروحه.
لكن، من المهم ألا نُفرط في تصوير التسامح كحل سحري لكل المشكلات. فهناك مواقف تتطلب الحزم، وحقوق لا ينبغي التنازل عنها بدعوى التفاهم. التسامح لا يعني القبول بالإساءة، ولا يعني أن نصمت عن الظلم. هو ليس دعوة للسكوت، بل دعوة لاختيار أسلوب أكثر إنسانية في المواجهة. التوازن هنا هو مفتاح الفهم الصحيح لهذه القيمة.
نُختبر بالتسامح في التفاصيل الصغيرة قبل المواقف الكبرى: حين نختلف مع جار، أو نغضب من زميل في العمل، أو نتلقى نقدا غير متوقع. كيف نرد؟ هل نرتفع فوق الموقف، أم ننجرّ إلى ردة فعل؟ هذه المواقف اليومية هي التي تصقل فينا قيمة التسامح وتجعلها أكثر من شعار.
ومن الطبيعي ألا تكون التربية على التسامح حكرا على البيت أو المدرسة، بل مسؤولية مشتركة تمتد إلى الإعلام، والفن، والمحتوى الرقمي، وكل صوت يؤثر في تشكيل الوعي العام. فالقيم لا تُلقن، بل تجسّد. والقدوة هي المعلم الأبلغ.
التسامح، في نهاية المطاف، لا يغير الآخر بقدر ما يحررنا نحن. يحررنا من مرارة الكراهية، ومن ضيق الأحكام الجاهزة، ومن أسر ردة الفعل المتسرعة. هو توسعة لقلوبنا قبل أن يكون تنازلا في آرائنا.
وهو كذلك أساس مهم لأي مشروع إصلاحي. لا يمكن الحديث عن مجتمع ناضج من دون أن تكون ثقافة التسامح جزءًا من بنيته. الإصلاح لا يبدأ دائما بالقوانين، بل أحيانا يبدأ بكلمة تقال بنبرة هادئة، أو بحوار يفتح رغم الخلاف، أو باعتذار يُقدم دون أن يطلب.
نكتب عن التسامح، لا لأننا بلغنا قمته، بل لأننا نحتاج أن نُذكّر أنفسنا دائما به في كل مرحلة. ليس لتزيين الخطاب، بل لإعادة ترتيب علاقتنا بأنفسنا وبالآخر. فالمجتمعات التي تتعلم كيف تصغي لبعضها، هي المجتمعات التي تعرف كيف تمشي بثقة نحو الغد، حتى لو اختلفت خطوات أفرادها.
rajabnabeela@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك