15 مارس 2025 يُعد يوما تاريخيا في مملكة البحرين عندما أُطلق القمر الصناعي الوطني الأول «المنذر»، وهذا القمر الصناعي البحريني سينضم إلى قائمة عظيمة طويلة تحتوي على أكثر من 20 ألف قمر صناعي على المستوى الدولي لأغراض مدنية أو عسكرية، وعشرات السفن والمحطات الفضائية وغيرها من الأجسام الصناعية البشرية التي أطلقها الإنسان منذ بداية غزو واستكشاف الفضاء في 4 أكتوبر 1957.
وكل هذه العشرات الآلاف من الأقمار الصناعية وغيرها تحوم وتدور حول مدارات الأرض المختلفة في الارتفاع، فتشكل اكتظاظا مروريا وازدحاما شديداً غير مسبوق في شوارع الفضاء، وفي المدارات العلوية المختلفة فوق الأرض، وبخاصة المدار الأرضي المنخفض.
فالمهمة تنتهي عند البعض بإطلاق القمر الصناعي ودخوله واستقراره في المدار المعتمد والمخصص له، ولكن تبدأ مهمة أخرى معقدة وشاقة عند علماء آخرين، وتتمثل في متابعة هذه العشرات الآلاف من الأقمار الصناعية، ومراقبتها مع الزمن، ومعرفة مصيرها بعد توقف تشغيلها وانتهاء عمرها الافتراضي، إضافة إلى كيفية التعامل معها لتخفيف شدة الازدحام في المدارات.
فهذه الأعداد المهولة من الأقمار الصناعية وغيرها تُمثل الآن هماً وقلقاً شديدين لعلماء الفضاء لأسباب كثيرة من أهمها سلامة وأمن هذه الأقمار والمحطات الفضائية، والرحلات الفضائية الاستكشافية بين الأرض والقمر والمريخ وفي الفضاء السحيق، إضافة إلى تهديدها لسلامة رواد الفضاء أنفسهم. فاكتظاظ المدارات الأرضية المنخفضة ترفع من إمكانية واحتمال اصطدام هذه الأجسام الصناعية بعضها ببعض عدة مرات متتالية، مما يؤثر في الشارع الفضائي والمدار الأرضي حتى يكون غير صالح لاستقرار أي قمر صناعي جديد فيه، ويهدد التنمية الفضائية بشكل عام.
فقد نبه أحد علماء ناسا وهو «دونالد كيسلر» في الورقة العلمية التي نشرها عام 1978 من القرن المنصرم إلى ظاهرة حوادث الاصطدام الفضائية، فأفاد بأنه بعد اصطدام الأجسام الصناعية مع بعض في الفضاء، تنجم عنها مخلفات وجسيمات أصغر، وهذه الجسيمات الأصغر قد تصطدم مع بعض فتولد جسيمات أخرى أصغر من سابقاتها، وهكذا يستمر الحال في الفضاء، حيث أُطلق عليهاKessler syndrome.
ونظراً لواقعية هذه الظاهرة وتفاقمها في السنوات الماضية، فقد نشرت وكالة الفضاء الأوروبية ومكتب المخلفات الفضائية الأوروبي وناسا عدة تقارير وأفلام وثائقية، منها الفيلم الوثائقي من وكالة الفضاء الأوروبية تحت عنوان: «مخلفات الفضاء: هل هي أزمة»، والذي عُرض في المؤتمر الأوروبي التاسع حول مخلفات الفضاء في أبريل 2025، إضافة إلى التقرير المعنون: «تقرير بيئة الفضاء 2024»، والمنشور في الأول من أبريل 2025.
وقد خلصت هذه التقارير إلى عدة استنتاجات وحقائق فضائية مهمة:
الأول: كما أن موارد الأرض من ماء وهواء وتربة وحياة فطرية نباتية وحيوانية تعتبر متناهية ومحدودة في كميتها ونوعيتها، فهذا ينطبق أيضاً على بيئة الفضاء، فمداراتها محدودة أيضاً من الناحيتين الكمية والنوعية ولذلك على الإنسان التعامل معها بطريقة مستدامة.
ثانياً: أكبر عدد من الأقمار الصناعية التي تم إطلاقها وتدشينها كان في عام 2023 مقارنة بالأعوام الأخرى، وعدد الأقمار الصناعية في المدار الأرضي المنخفض يرتفع بدرجة مطردة، ومعظمها يبقى هناك إلى الأبد بعد أن انتهت فترة صلاحيتها.
ثالثاً: كمية المخلفات التي تحوم في الفضاء في المدارات الأرضية حالياً تُقدر بنحو 54 ألف جسيم وقطعة صناعية أكبر من 10 سنتيمترات، وهناك في المقابل قرابة 1.2 مليون قطعة حجمها يتراوح بين 1 سنتيمتر وأقل من 10، إضافة إلى قرابة 130 مليون قطعة تتراوح أحجامها من 1 مليمتر إلى 1 سنتيمتر.
وللتصدي لظاهرة المخلفات في البيئة الفضائية كان لا بد من بذل جهود دولية مشتركة تتحد فيها كل دول العالم، حيث تم تشكيل لجنة تنسيقية بين الوكالات الفضائية الدولية تحت مسمى: «اللجنة التنسيقية بين الوكالات حول المخلفات الفضائية»
(Interagency Space Debris Coordination Committee)، إضافة إلى لجنة «الاستخدام السلمي للفضاء الخارجي» تحت مظلة الأمم المتحدة، وبرنامج أمن الفضاء الذي يعمل تحت سلطة وكالة الفضاء الأوروبية. وتهدف كل هذه الجهود إلى تحقيق أهداف التنمية المستدامة ليس على وجه الأرض، وإنما في الفضاء ووضع هدف خاص لهذه البيئة الفضائية، بحيث يسعى هذا الهدف إلى حماية الفضاء كثروة بيئية عامة ومشتركة، ومنع تدهوره من ناحية عدد الأقمار الصناعية، وكمية وأحجام المخلفات التي تنجم عنها، إضافة إلى تأمين سلامة جميع البرامج والأنشطة الفضائية.
فهناك الآن ومن أجل تحقيق التنمية المستدامة في بيئة الفضاء دعوة أممية لوضع «ميثاق المخلفات الصفرية»، كالميثاق الموجود على سطح الأرض لمنع وخفض إنتاج المخلفات الغازية والسائلة والصلبة.
ولكن في تقديري ومن خلال خبراتي وتجاربي حول جهود الإنسان في تحقيق أهداف التنمية المستدامة على وجه الأرض، حيث المشكلات والقضايا نراها أمام أعيننا، وتحت أسماعنا، وبين أيدينا، فإنني أشك كثيراً في فاعلية وجدية مثل هذه اللجان والبرامج الدولية المشتركة التي تهدف إلى حماية الموارد والثروات الفضائية.
فنحن لم ننجح كلياً في تحقيق الإدارة المستدامة على سطح الأرض، ولم نفلح في حماية الثروات والموارد الفطرية الأرضية الحية وغير الحية، فكيف سننجح في حماية الفضاء العميق الشاسع الذي لا يعرف أحد مداه واتساعه إلا الله، وبخاصة أن هناك الكثير من البرامج العسكرية السرية التي تعيث في فضائنا فساداً وتدميراً في جنح الليل وبعيداً عن أعين المراقبين، كما فعلت من قبل في بيئة الأرض عندما قامت بآلاف التفجيرات النووية فوق وتحت الأرض، وفي أعماق البحار، فلوثت مناطق واسعة من الكرة الأرضية بالإشعاع؟ وكيف سننجح في تحقيق الإدارة المستدامة لملايين المخلفات الصلبة الصغيرة والكبيرة المتزايدة سنة بعد سنة والتي تدور في مدارات على ارتفاعات شاهقة تزيد على 500 كيلومتر فوق سطح الأرض بعيدة عن أنظارنا وأسماعنا؟
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك