تبرز الولايات المتحدة، بوصفها أكبر اقتصاد في العالم، وأكثره نفوذًا، وتأثيرًا على الصعيدين السياسي والعسكري، إلى جانب دورها الدبلوماسي المحوري منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، الأمر الذي جعلها أكبر مقدِّم للمساعدات الإنسانية، والإنمائية، والاستثمارات على مستوى العالم. ووفقًا لتقديرات مركز التنمية العالمية، فإنها تقدم ما يقرب من خُمس إجمالي المساعدات الخارجية العالمية.
وعلى الرغم من عقود الدعم الأمريكي الواسع للإنفاق على المساعدات الخارجية، فلطالما استهدف المشرّعون الأمريكيون -وخاصةً من الحزب الجمهوري- هذا الوضع، باعتباره أمراً يجب تقليصه بشكل كبير، وهو أمرٌ أقرّته الآن إدارة ترامب. وكما علقت أوليفيا أوسوليفان، وجيروم بوري، من المعهد الملكي للشؤون الدولية، فإنه في حين تتبدى جليا عيوب النموذج الغربي الحالي للمساعدات الخارجية؛ فإن إدارة ترامب الثانية لا تريد تحسين النموذج بغية الحصول على نتائج أفضل، وعوضًا عن ذلك، أظهرت التزامها الكامل بسحب دورها المركزي في تمويل المساعدات الإنسانية والإنمائية العالمية.
وأشارت إيمي هوثورن، من المركز العربي في واشنطن، إلى أن غالبية المساعدات الأمريكية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، لم تسلم من اضطرابات، جراء هجوم ترامب على إنفاق المساعدات الخارجية. وعلى الرغم من اعترافها بأن إنفاق عشرات المليارات من المساعدات الأمريكية لم تخلق منطقة آمنة، أو مزدهرة، أو ديمقراطية؛ فقد تم التركيز على أنه لا يمكن إنكار، أن المساعدات الإنسانية، والإنمائية كانت قيمة، بل ومنقذة للحياة لملايين الأشخاص، ومن ثمّ، فإن التخفيضات التي فرضها ترامب ستجلب زعزعة استقرار الحكومات، وإيذاء الناس، بجميع أنحاء المنطقة، على المديين القصير والطويل. وندد ليث العجلوني، من المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، بالتداعيات المحتملة، محذرًا من أن هذه الخطوة ستُخلّف آثارًا اقتصادية، وإنسانية جسيمة، ما قد يسهم في تفاقم حالة عدم الاستقرار، وتهديد الأمن في المنطقة.
وبعد وقت قليل من عودته إلى البيت الأبيض، أمر ترامب، بتجميد جميع برامج المساعدات الخارجية تقريبًا، وإخضاعها لمراجعة مدتها 90 يومًا، تُعنى بكفاءتها، وتوافقها مع أجندة إدارته الخارجية. وبالتزامن، أدانت آبي ماكسمان، من منظمة أوكسفام أمريكا الخيرية، القرار، ووصفته بأنه يهدد حياة ومستقبل المجتمعات التي تمر بأزمات، بكل أرجاء العالم، كما أدانت إدارة ترامب بتخليها عن نهج الولايات المتحدة تجاه المساعدات الخارجية، والذي يدعم حاجة الناس، بغض النظر عن توجهاتهم السياسية. وتحدث بول جوردان، من المعهد الأوروبي للسلام، عن تأثير القرار الفوري، قائلاً: «إنه تسبب في خلل كبير غير مسبوق».
وفي أواخر يناير2025، أوضحت مذكرة داخلية أصدرها وزير الخارجية الأمريكية، ماركو روبيو، كيف أنه لن يتم منح أي أموال جديدة، أو تمديدات للأموال الحالية؛ حتى الإقرار باعتبارها متسقة مع أجندة الرئيس ترامب، وبعد ما وصف جوزيف جيديون، في صحيفة الجارديان، قرار الرئيس الأمريكي بـالتطهير، أعلن روبيو، في 10 مارس، إلغاء 83% من برامج الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، أي ما يعادل 5200 عقد، ادعى أنها لا تخدم المصالح الوطنية لواشنطن.
وبالتزامن مع هذه الإلغاءات، وكما ذكرت صحيفة نيويورك تايمز، كان من المُقرر تفكيك الوكالة نفسها، مع تقليص عدد موظفيها البالغ عددهم حوالي 10.000 شخص بجميع أنحاء العالم، إلى حوالي 15 وظيفة مطلوبة. ومن المقرر الآن دمج عمليات الوكالة، قسرًا في وزارة الخارجية، والتي خفضت بدورها 4100 من برامج تمويلها للمساعدات الإنسانية والتنمية والمجتمع المدني.
وعلى المستوى العالمي، رأى أوسوليفان، وبوري، أن الإغلاق القسري للوكالة، وخفض إدارة ترامب الحاد لإنفاق المساعدات الخارجية، سيجلب عواقب واسعة النطاق، وإن كانت آثارها غير مرئية؛ بسبب كون أن الجهات الأكثر تضررًا ليست قوية أو مسموعة. وعلى الرغم من زعم روبيو، بأنه سيتم الحفاظ على برامج إنقاذ الحياة الأساسية، فقد تم توثيق تحذير كبار مسؤولي الصحة من الوكالة، له من أن التخفيضات المقصودة في إنفاق المساعدات الخارجية، ستترك مليون طفل دون علاج من سوء التغذية الحاد، والتسبب فيما يصل إلى 166.000 حالة وفاة بسبب الملاريا، وستترك 200.000 طفل يعانون شلل الأطفال.
وكما أوضحت هوثورن، فإن الشرق الأوسط، يتلقى أكبر قدر من المساعدات الخارجية الأمريكية منذ عام 1946. وكما هو مُبين على موقع المساعدات الخارجية للحكومة الأمريكية عام 2024، فقد تم تخصيص 12 مليار دولار لحوالي 1000 نشاط وبرنامج في 16 دولة بالشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وكان الأردن أكبر الدول المتلقية للمساعدات الإنسانية في منطقة الشرق الأوسط خلال عام 2023، حيث حصل على 1.2 مليار دولار من إجمالي المساعدات، تلاه كل من سوريا (900 مليون دولار)، واليمن (أكثر من 800 مليون دولار)، والعراق (أكثر من 220 مليون دولار). وفي هذا السياق، حذر يوسي ميكلبيرج، من المعهد الملكي للشؤون الدولية، من أن سحب هذا التمويل سيؤدي إلى تفاقم الأزمات الإنسانية أو توقف التنمية في هذه البلدان.
ويبدو أن تداعيات هذا السحب تُسجِّل أشد وطأتها في العراق، وسوريا، واليمن، والأراضي الفلسطينية المحتلة. ففي العراق، أدى إغلاق مكتب الوكالة، إلى حرمان نحو 100 ألف نازح في 21 مخيمًا شمال البلاد من المساعدات الحيوية. أما في سوريا واليمن، فتبدو العواقب أكثر فداحة، إذ يُقدّر أن تجميد ربع إجمالي التمويل الإنساني الدولي لسوريا، ووقف ثلث المساعدات المخصصة لليمن، سيفاقمان الأوضاع بشكل غير محسوب العواقب بعد.
وفيما يخص استمرار الحرب الإسرائيلية على غزة، قدمت الوكالة، منذ أكتوبر 2023، مساعدات إنسانية للمدنيين الفلسطينيين بقيمة 2.1 مليار دولار. وفي نوفمبر 2024، تعهدت بتقديم 230 مليون دولار إضافية لدعم الإنعاش الاقتصادي والتنمية في كل من غزة والضفة الغربية. ومع إقالة موظفي المساعدات الإنسانية الأمريكيين، وقطع قنوات تمويل المنظمات التي تقدم المساعدات؛ أعرب ديف هاردن، المدير السابق لبعثة الوكالة في فلسطين، عن أسفه لأن الوضع قاتم للغاية، مشيرًا إلى أن الجهود المكثفة التي تبذلها وكالات الأمم المتحدة لسد الفجوة، التي خلفتها الوكالة الأمريكية لن تستمر إلا فترة قصيرة.
ونظرا إلى وجود مكاتب للوكالة في مصر، والأردن، وتونس، والمغرب، ولبنان، مع إغلاق مكاتبها وتقليص أعداد موظفيها، توقعت هوثورن، أن تُنهي إدارة ترامب، جميع أعمالها الإنسانية والتنموية الخارجية في هذه الدول، بالإضافة إلى تقليص الميزانية الدبلوماسية، لواشنطن في المنطقة. وفي سياق الآثار طويلة المدى، سلط مايكل روبنز، من مؤسسة الباروميتر العربي، الضوء على كيف أن البرامج الإقليمية، التي تُركز على الاستقرار الاقتصادي، وتطوير البنية التحتية، والزراعة، والمجتمع المدني، تواجه جميعها الآن آثاراً سلبية خطيرة.
وعلى الرغم من أن إدارة ترامب، خفضت الإنفاق على المساعدات الخارجية في أنحاء العالم، بما في ذلك في الشرق الأوسط، فقد استمر الدعم الحكومي لإسرائيل دون تغيير، حيث حافظت على دعمها السنوي لها والبالغ 3.3 مليارات دولار، وزوّدتها بما يقرب من 12 مليار دولار من الأسلحة منذ بداية يناير الماضي، مع تعهد ماركو روبيو، وزير خارجيتها باستمرار استخدام جميع الأدوات لتحقيق التزام أمريكا طويل الأمد بأمن إسرائيل.
وفي تحليله، أشار روبنز، إلى أن خفض المساعدات الخارجية الأمريكية يأتي في وقت حساس بالنسبة إلى علاقات أمريكا مع العالم العربي، حيث إن شعبيتها شهدت تراجعًا ملحوظًا في المنطقة؛ بسبب دعمها لإسرائيل في حربها على غزة. ومع ذلك، أظهرت استطلاعات الرأي التي أجراها الباروميتر العربي في السنوات الأخيرة، أن مساعداتها في مجالات المجتمع المدني، والتعليم، وحقوق المرأة، كان يُنظر إليها بشكل إيجابي، وأن الكثير من الناس في المنطقة لا يزالون يعتقدون أنها فعّالة في تحسين بعض جوانب حياتهم. وبالتالي، تساءل روبنز، عن تأثير تجميد هذه المساعدات، في مصالحها في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، في وقت تشهد فيه تراجعا في شعبيتها في المنطقة.
من الواضح أن ترامب، ومستشاريه لا يهتمون بالعواقب السلبية على سمعة أمريكا، أو المعاناة الإنسانية المتزايدة التي ستسببها هذه السياسات. وكما أشار ميكلبيرج، فإن هذه السياسات لا تضر بالمنطقة فقط، بل تضر أيضًا بمصالح واشنطن الخارجية، مؤكدًا أن الحفاظ على الاستقرار في الشرق الأوسط، وهو أمر مهم للولايات المتحدة، يتطلب تنمية اقتصادية، وهو أمر سيصبح أكثر صعوبة في المنطقة إذا استمرت في تقليص استثماراتها بشكل كبير، ليس فقط في المساعدات الإنسانية الطارئة، بل أيضًا في التنمية طويلة الأجل.
ولم يكن قرار إدارة ترامب، بتقليص المساعدات الخارجية القرار الوحيد فيما وصفه أوسوليفان، وبوري، بـالتراجع الغربي عن المساعدات الخارجية، فقد أعلنت الحكومة البريطانية، بقيادة السير كير ستارمر، في مارس 2025، عن خطط لخفض مساعداتها الخارجية إلى 0.3% فقط من الناتج المحلي الإجمالي السنوي. ونتيجة لذلك، رأى العجلوني، أن العديد من الدول خاصة في الشرق الأوسط، ستسعى إلى الحصول على دعم أكبر من اقتصادات متقدمة أخرى، مثل أعضاء الاتحاد الأوروبي، أو دول مجلس التعاون الخليجي.
وفي عام 2023، كانت الولايات المتحدة، أكبر مانح للمساعدات الخارجية على مستوى العالم، حيث قدّمت نحو 60 مليار دولار، وهو ما يعادل 1% من ميزانيتها الحكومية، إلا أن التخفيضات التي فرضتها إدارة ترامب، ستكون ذات تأثير كبير في هذه المساعدات.
وعلى الرغم من إصدار البيت الأبيض، بعض الإعفاءات لاستمرار تقديم المساعدات الإنسانية؛ فقد أشار أوسوليفان، وبوري، إلى أنه مع تسريح الموظفين، وتعطيل البرامج؛ فإن هناك حالة من الارتباك حول ما إذا كانت هذه الإعفاءات ستُنفذ بشكل فعّال أم لا.
على العموم، تظل المخاوف قائمة بشأن التأثيرات السلبية المحتملة لتخفيض المساعدات الخارجية الأمريكية على المدنيين في العراق، وسوريا، واليمن، وفلسطين، وهي مناطق عانت تاريخيًا من كوارث مرتبطة بالسياسة الخارجية الأمريكية. ويؤكد روبنز، أن هذه التخفيضات ستؤثر في ركيزة أساسية من القوة الناعمة لواشنطن في الشرق الأوسط، وهو ما لا يبدو أن إدارة ترامب، تولي له أي اعتبار، في وقت يتصاعد فيه دعمها المستمر لإسرائيل، مع احتلالها غزة، وتسريع ضم الضفة الغربية والقدس الشرقية، في انتهاك صارخ للقانون الدولي.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك