أثارت قرارات الرئيس الأمريكي، «دونالد ترامب» في اليوم الذي أسماه «يوم التحرير»، 3 أبريل – بفرض رسوم جمركية على واردات الولايات المتحدة من 185 دولة حول العالم – حدها الأدنى 10%، وترتفع إلى نحو 50% – ردود أفعال واسعة في كافة أنحاء العالم، فيما كانت هذه القرارات تستهدف تصويب حالة الميزان التجاري الأمريكي، الذي يميل لمصلحة هذه الدول، بعجز بلغ نحو 1.2 تريليون دولار في 2024، وإعادة الصناعة الأمريكية إلى مجدها السابق كي تكون صاحبة النصيب الأكبر في هذا السوق.
وعلى الرغم من ذلك، لم تستثني هذه القرارات الدول التي بينها وبين الولايات المتحدة اتفاقات تجارة حرة (كمملكة البحرين، وسلطنة عُمان)، فيما شملت المنافسين وأبرزهم الصين، والحلفاء وأبرزهم الاتحاد الأوروبي.
ويقع الأثر المباشر لهذه القرارات على المستهلك الأمريكي نفسه، الذي سيدفع الفاتورة الجديدة للسلعة محملة بالضريبة الجمركية الجديدة، كما يتأثر المستثمر الأمريكي، الذي نقل استثماراته إلى الصين وغيرها من الأسواق الناشئة، بغية الاستفادة من ارتفاع الإنتاجية فيها وانخفاض التكلفة التشغيلية، ومن ثم ارتفاع تنافسيتها في الأسواق العالمية وفي مقدمتها السوق الأمريكية.
ومن المعلوم، أن الولايات المتحدة كانت في طليعة الدول الداعية إلى حرية التجارة والانفتاح الاقتصادي، إذ قادت العالم عقب الحرب العالمية الثانية، نحو تأسيس نظام تجاري عالمي أكثر تحررًا، من خلال «الاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة» (الجات)، التي مهّدت لمفاوضات متعددة الأطراف على مدى عقود، واختتمت هذه الجهود بجولة أورغواي، التي استمرت سبع سنوات، وانتهت في عام 1993 بإطلاق «منظمة التجارة العالمية»، التي بات الانضمام إليها مشروطًا بالتفاوض مع الولايات المتحدة.
غير أن السياسات الجمركية التي تبنّاها «ترامب»، شكّلت تراجعًا عن هذا النهج، إذ أعادت الولايات المتحدة إلى سياسات الحماية التجارية، مما أثار مخاوف من اندلاع حرب تجارية عالمية، خاصة بعد أن سارعت عدة دول إلى الرد بفرض رسوم مماثلة. وقد بادرت الصين إلى اتخاذ خطوة مضادة بفرض رسوم جمركية أولاً بنسبة 34% على الواردات الأمريكية، الأمر الذي عزز التوقعات بحدوث ركود تضخمي عالمي، وانخفاض محتمل في معدلات النمو الاقتصادي العالمي.
وتعد الإمارات هي أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة في المنطقة بإجمالي حجم تجارة بلغ 34.4 مليار دولار في 2024، وتأتي السعودية في المرتبة الثانية بإجمالي حجم تجارة في هذا العام بلغ 25.9 مليار دولار، فيما بلغ حجم تجارة قطر 5.6 مليارات دولار، والكويت 4.1 مليارات دولار، وسلطنة عُمان 3.3 مليارات دولار، والبحرين 2.9 مليار دولار، وبلغت الرسوم الجمركية الجديدة على دول مجلس التعاون الخليجي 10%، وهذه الدول تفرض بالمقابل على وارداتها من السلع الأمريكية رسوما جمركية بنسبة 10% أيضًا، وهذه الرسوم المفروضة على الدول الخليجية تقل كثيرًا عن دول عربية أخرى، مثل سوريا 41%، والعراق 39%، وليبيا 31%، والجزائر 30%، وتونس 28%، والأردن 20%، وذلك لأن هذه الدول تفرض رسوما جمركية عالية على وارداتها من السلع الأمريكية.
وتقل الرسوم الجمركية على دول الخليج عن نظيراتها من دول العالم، ما يجعل السلع الخليجية المصدرة للسوق الأمريكي في وضع تنافسي أفضل، فيما تصل هذه الرسوم على فيتنام مثلاً 46%، وتايلاند 36%، والصين 34%، وتايوان 32%، ومثلها إندونيسيا، وسويسرا 31% وجنوب إفريقيا 30%، والهند 26%، وكوريا الجنوبية 25%، واليابان 24%.
وفيما اعتبرت الرسوم الجمركية الأمريكية الجديدة، بداية للتفاوض، فقد أعلنت أكثر من 50 دولة رغبتها في هذا التفاوض، الذي يفتح الباب أمام كل من سلطنة عُمان، والبحرين خاصة، لأن بينها وبين الولايات المتحدة اتفاقية تجارة حرة نافذة، وقد يسفر هذا التفاوض عن استثنائهما من هذه الرسوم الجديدة.
ومن الجدير بالذكر، أن شركات الألمونيوم الخليجية تنتج نحو 10% من الإنتاج العالمي البالغ نحو 64 مليون طن سنويًا، وتصدر دول الخليج 60% من إنتاجها إلى الأسواق العالمية بما فيها السوق الأمريكي، الذي يستأثر بـ10% فقط من الإنتاج الخليجي، ويحتاج هذا السوق إلى نحو 4 ملايين طن من الألومنيوم الخام سنويًا، لعدم وجود اكتفاء ذاتي، وتحتاج الولايات المتحدة إلى نحو 4 سنوات من تاريخ تطبيق قرارات «ترامب»، الجمركية حتى يمكنها تحقيق هذا الاكتفاء. وفيما بلغ إجمالي هذه الرسوم على الألومنيوم الخليجي 25%، فإن هذه الرسوم لن تؤثر على حصته في السوق الأمريكية في الأجل القصير، وتظل صادراته لها في موقع تنافسي أكبر من الصادرات الكندية، والهندية، والأسترالية.
وإذا كانت الرسوم الجمركية الأمريكية الجديدة تحسن الموقف التنافسي للصادرات الخليجية في السوق الأمريكية، لتحملها برسوم أقل إزاء المنافسين، فإنها تفتح الباب أيضًا لزيادة الاستثمارات الخليجية الخارجية في قطاع الصناعة الأمريكي، الذي غدا بهذه الرسوم يتمتع بحماية هائلة، ويريد «ترامب»، من هذه الرسوم أن تعود الصناعات الأمريكية التي نقلت مقراتها إلى دول أخرى في العالم إلى السوق الأمريكية.
ومع ذلك، فإن القرار الجمركي لا يعالج الأسباب التي دفعت هذه الصناعات إلى التحول، وجعلت الصين مصنع العالم، وفي مقدمتها ارتفاع الإنتاجية، وانخفاض الكلفة، وانخفاض قيمة العملة الصينية. وقبل أن يُصدر الرئيس الأمريكي قراراته الجمركية الأخيرة، وقع في أول أبريل أمرًا تنفيذيًا لتسهيل وتسريع استثمارات الشركات، وأنشأ لهذا الغرض داخل وزارة التجارة مكتب «مسرع الاستثمار الأمريكي»؛ لتخفيف الأعباء التنظيمية، وتسريع عملية إصدار التصاريح، وزيادة الوصول إلى الموارد الوطنية، والتنسيق مع الوكالات الفيدرالية والولايات.
وفي بداية رئاسته الجديدة، كان «ترامب»، قد أعلن عن مشروع ضخم «ستار جيت»، يخلق أكثر من 100 ألف وظيفة، كأكبر مشروع بنية تحتية للذكاء الاصطناعي بقيمة 500 مليار دولار، وفيما يبلغ إجمالي الاستثمارات الخليجية في الولايات المتحدة نحو 2.5 تريليون دولار معظمها في أدوات الدين الأمريكية، ففي مارس 2025، أعلن «البيت الأبيض»، أن «الإمارات»، قد التزمت بإطار استثماري مدته 10 سنوات بقيمة 1.4 تريليون دولار، وتتوجه هذه الاستثمارات إلى البنية التحتية للذكاء الاصطناعي، وأشباه الموصلات والطاقة والتصنيع. فيما غدت «السعودية»، مؤهلة لتصبح ثالث أكبر مستثمر في الولايات المتحدة بعد اليابان، والمملكة المتحدة، في حال ضخ استثمارات جديدة بقيمة 600 مليار دولار خلال الأربع سنوات القادمة، وفق الاتصال الهاتفي الذي تم بين الأمير «محمد بن سلمان»، ولي العهد السعودي، والرئيس الأمريكي «ترامب»، في يناير الماضي. وهناك حديث عن إمكانية زيادتها إلى تريليون دولار في أربع سنوات.
وفي مقابل هذه الفرص تأتي تحديات خطر الإغراق على السوق الخليجية، بسبب تحولات التجارة، ما يهدد الصناعات الخليجية في سوقها، وإلى هذا دعت «اللجنة الوطنية لصناعة الحديد»، في السعودية، إلى فرض إجراءات حمائية للصناعة الخليجية، تشمل رفع الرسوم الجمركية، تحسبًا لبحث الشركات العالمية عن أسواق بديلة بعد قرارات الرئيس الأمريكي بفرض رسوم جمركية على واردات بلاده من الألومنيوم والحديد، وكانت المملكة في عام 2020، قد فرضت رسوما جمركية على وارداتها من الحديد والصلب استجابة لذات المخاوف.
ويأتي التحدي الأكبر الذي يواجه الاقتصادات الخليجية بعد قرارات ترامب، هو انخفاض أسعار النفط، توقعًا لسيناريو الركود التضخمي. وبعد أن تم الإعلان عن هذه القرارات، انخفضت أسعار النفط بنسبة 7%، ووصلت إلى أدنى مستوياتها منذ 2021، ليسجل سعر برميل النفط خام برنت 69.8 دولارا للبرميل، وغرب تكساس 66.6 دولارا للبرميل، وعزز هذا الاتجاه قرار «أوبك بلس»، بشأن رفع إنتاج النفط، وهو القرار يعيد 491 ألف برميل يوميًا إلى السوق في مايو 2025. ويأتي هذا رغم أن «ترامب»، استثنى واردات النفط والغاز والمنتجات المكررة من الرسوم الجمركية الشاملة التي فرضها.
علاوة على ذلك، تواكب مع انخفاض أسعار النفط، تراجع أسعار سلع أولية أخرى في مقدمتها الغاز الطبيعي وفول الصويا، وسادت الأسواق حالة عدم اليقين، خاصة بعد رد الفعل الصيني، ما سبب خسائر بتريليونات الدولارات للأسواق المالية العالمية، وكل هذه العوامل تتسبب في تراجع الطلب على النفط، ومن ثمّ، وجود فائض محتمل في الأسواق، يزيد من الضغط على سعر النفط، الذي يعد مؤشرا أساسيا في إعداد الميزانيات الخليجية، ما يفاقم مشكلة العجز في هذه الميزانيات، ويدفع إلى مزيد من الاقتراض من الأسواق المالية، فيما قدر عجز الميزانيات الخليجية عام 2024، بنحو 42 مليار دولار، وتقف الأسعار العالمية للنفط في الوقت الحالي دون سعر تعادل برميل النفط خاصة بالنسبة للسعودية، والكويت، والبحرين.
من ناحية أخرى، تُفاقم حالة الركود التضخمي العالمي المتوقع بتأثير القرارات الأمريكية الجمركية، من أزمة سلاسل التوريد العالمية، حيث أصبحت كثير من المنتجات النهائية، لا يتم إنتاجها في بلد واحد، وهذه البلدان المتعددة أخذت في فرض رسوم ورسوم مضادة، ما يرفع أسعار هذه السلع لدى المستهلك النهائي، فالسلع التي يدخل في إنتاجها مثلاً مكون صيني وآخر أمريكي يزيد سعرها، مقارنة بفترة ما قبل هذه الرسوم بنسبة 68%، وأخذًا في الاعتبار ارتفاع حجم الواردات الخليجية، فإن هذا الوضع يزيد من معدلات التضخم، نتيجة ارتفاع أسعار المستهلك، وارتفاع نفقات المعيشة، وارتفاع قيمة المشتريات الحكومية، ومن ثم الإنفاق في الموازنات العامة.
ومع ذلك، هناك فرصة كبيرة أمام دول الخليج للاستفادة من تحولات التجارة العالمية، إذ إن العديد من الدول التي أصبحت تواجه رسومًا جمركية مرتفعة في السوق الأمريكية – حتى بات هذا السوق شبه مغلق أمام منتجاتها بسبب ارتفاع أسعارها، لا سيما السلع الاستهلاكية – قد تتجه للبحث عن أسواق بديلة. وهنا تبرز السوق الخليجية كوجهة واعدة قادرة على استيعاب حصة كبيرة من هذه المنتجات، خاصة في ظل نشاطها الملحوظ في مجال إعادة التصدير إلى دول ثالثة. وتُعد مناطق التجارة الحرة الخليجية، وفي مقدمتها منطقة جبل علي في الإمارات، من أبرز المحركات لهذا النشاط الحيوي.
على العموم، هناك فرص كثيرة وتحديات تواجه الاقتصادات الخليجية نتيجة جمارك ترامب، ولكن تظل الفرصة الأكبر هي إمكانية إنشاء سلاسل توريد إقليمية، تفرض بديلاً لسلاسل التوريد العالمية، الأكثر تأثرًا بهذه الرسوم، خاصة وأنه خلال الفترة الماضية تعمق التوجه الشرقي للاقتصادات الخليجية، كما عمقت دول الخليج علاقاتها بأوروبا، ويمكن للمفاوضات الجارية بشأن اتفاقات تجارة حرة مع كبريات الاقتصادات العالمية: الصين، والهند، واليابان، والاتحاد الأوروبي، والمملكة المتحدة، أن تشهد هذا التطور الاستراتيجي الذي سرعت إليه جمارك ترامب.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك