لم يعد العالم على شفا حرب تجارية كما كان يُقال على مدى الأيام القليلة الفائتة، بل بات في قلب تلك الحرب بالفعل، وإلا فكيف نفهم أن بلدين يمتلكان اقتصادين يشكلان معا نحو 43% من إجمالي حجم الاقتصاد العالمي، انخرطا للتو في «عراك جمركي»، ستمتد آثاره لتشمل الكثير من دول العالم؟
وفى هذا «العراك الجمركي»، الذي يمكن أيضا وصفه بأنه «عملية تسليح للتجارة»، أبلغنا الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بأنه رفع الرسوم الجمركية على البضائع الصينية إلى 145%، في محاولة للحد من العجز التجاري المتنامي في تجارة واشنطن مع بكين، وهو عجز يبلغ نحو 295 مليار دولار أمريكي سنويا.
يتبادل البلدان سلعا وبضائع بلغت قيمتها نحو 585 مليار دولار، في العام الماضي 2024، وهو رقم كبير يضع كل منهما ضمن قائمة أكثر الشركاء التجاريين أهمية للآخر، ومع ذلك، فإن التنافس بينهما قاد الإدارة الأمريكية إلى شن تلك الحرب، من دون حساب دقيق للعواقب، كما يبدو حتى الآن.
لم تسكت الصين، بل وعدت بأنها «ستقاتل حتى النهاية»، وكان ردها العملي واضحا في قرارها برفع الرسوم الجمركية على الواردات الأمريكية إلى 125%، وهو الأمر الذي يُنذر بعواقب تجارية، وأيضا سياسية، وخيمة. لم يكن قرار ترامب القاسي ضد التجارة مع الصين سوى جزء من حملة يبدو أنه اعتزم شنها على شركاء بلاده التجاريين، وبعدما نشر قائمة بنسب الرسوم الجمركية التي قرر فرضها على عشرات الدول، عاد وأعلن تعليقها مؤقتا، مدة تسعين يوما، لكنه لم يشر إلى تراجعه عن النهج «القتالي» الذى سيضفيه على عملية التجارة الدولية، التي لا تٌسهل تحقيق مصالح الدول والشعوب فقط، لكنها أيضا تعزز الروابط والتكامل والاعتماد بينها.
سيُمكن النظر إلى تلك الحرب التجارية الساخنة التي اندلعت للتو باعتبارها انقلابا على قواعد مستقرة في مجال التبادل التجاري بين الدول، لكن هذه النظرة قد تكون قاصرة، إذ يبدو أن ذلك الجزء من الصدام المُدبر ليس سوى قمة جبل الجليد، بينما جسم هذا الجبل سيُفصح عن عملية متكاملة لتقويض العولمة، بكل ما تعنيه من مقومات تتعلق بالمصالح المادية والمعنوية الدولية.
لطالما عُرّفت العولمة بأنها حالة من «التدفق المتزايد على الصعيد العالمي للسلع، والخدمات، ورؤوس الأموال، والتكنولوجيا، والأيدي العاملة»، وهي حالة تخلق نمطا من «الاحتواء والاندماج»، وتعزز الصلات بين الدول بعضها البعض من جانب، وبين الشعوب من جانب آخر.
لكن ما جرى منذ أكثر من ثلاث سنوات في هذا الصدد يشير بوضوح إلى انقلاب كامل الأركان على العولمة بكل قواعدها وآلياتها، وقد بدأ ذلك الانقلاب بما شهدناه على هامش الحرب الروسية – الأوكرانية، حين تمت الإطاحة بقواعد حرية الرأي والتعبير، واحترام حق وسائل الإعلام في العمل. في الحرب الروسية – الأوكرانية، انتهج الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية، سياسات تقييد وتعتيم وحظر وإغلاق بحق وسائل الإعلام الروسية، والآراء التي تعبر عن المنظور الروسي حيال الصراع، وهو الأمر الذي فعلته موسكو أيضا، ومازالت مفاعيله قائمة حتى الآن.
وقد استمرت الإجراءات التقييدية، بل وزادت حدتها، عندما اندلعت الحرب في غزة بين إسرائيل و«حماس»، حيث اتخذت منصات الإعلام «التقليدية» و«الجديدة» سلسلة من القرارات الصادمة بحق حرية الرأي والتعبير، لكي تنصر منظورا معينا للصراع، وتكرسه، وتمنع كل ما عداه من الظهور.
أما ما يتعلق بتدفق المهاجرين، وقبول الآخر، والتعايش والتفاهم بين الشعوب، وكلها مقومات أساسية في فكرة العولمة وجزء من آلياتها العملية، فقد تكفلت به سلسلة أخرى من السياسات والممارسات التي تستهدف المهاجرين، وتحد من اللجوء، وتروج لمفاهيم النقاء العرقي، والانغلاق، والانقطاع عن التواصل والتعايش والتفاهم.
وفى ذروة هذه الإجراءات التي تخاصم أي مقاربة عولمية، باتت آراء الناس على وسائل «التواصل الاجتماعي» جزءا من مسوغات منحهم حق اللجوء أو الإقامة أو حتى الزيارة، حتى ان واشنطن أعلنت بوضوح أن بعض المنشورات على «السوشيال ميديا» قد تحرم الناس من الحصول على تأشيرات الزيارة، أو تجمدها في حال كانت موجودة.
لقد نُظر إلى العولمة بوصفها «حقيقة لا يمكن إنكارها كما الجاذبية تماما» من قبل عديد القادة والمفكرين على مدى نحو ثلاثة عقود، بينما رأى بعض المُنظرين أن نشأة العولمة إنما تعود إلى بضعة قرون خلت.
ورغم ذلك التاريخ المديد لفكرة بدت طيبة وإيجابية لكثيرين، وهي فكرة العولمة، فيبدو أن جهودا حثيثة تُبذل الآن من أجل تقويضها والانقضاض على مكتسباتها.
{ كاتب وباحث إعلامي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك