العدد : ١٧١٩٠ - الأربعاء ١٦ أبريل ٢٠٢٥ م، الموافق ١٨ شوّال ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧١٩٠ - الأربعاء ١٦ أبريل ٢٠٢٥ م، الموافق ١٨ شوّال ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

انتكاسة كبرى لظاهرة العولمة

بقلم: د. ياسر عبد العزيز {

الأربعاء ١٦ أبريل ٢٠٢٥ - 02:00

لم‭ ‬يعد‭ ‬العالم‭ ‬على‭ ‬شفا‭ ‬حرب‭ ‬تجارية‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬يُقال‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬الأيام‭ ‬القليلة‭ ‬الفائتة،‭ ‬بل‭ ‬بات‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬تلك‭ ‬الحرب‭ ‬بالفعل،‭ ‬وإلا‭ ‬فكيف‭ ‬نفهم‭ ‬أن‭ ‬بلدين‭ ‬يمتلكان‭ ‬اقتصادين‭ ‬يشكلان‭ ‬معا‭ ‬نحو‭ ‬43%‭ ‬من‭ ‬إجمالي‭ ‬حجم‭ ‬الاقتصاد‭ ‬العالمي،‭ ‬انخرطا‭ ‬للتو‭ ‬في‭ ‬‮«‬عراك‭ ‬جمركي‮»‬،‭ ‬ستمتد‭ ‬آثاره‭ ‬لتشمل‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬دول‭ ‬العالم؟

وفى‭ ‬هذا‭ ‬‮«‬العراك‭ ‬الجمركي‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬يمكن‭ ‬أيضا‭ ‬وصفه‭ ‬بأنه‭ ‬‮«‬عملية‭ ‬تسليح‭ ‬للتجارة‮»‬،‭ ‬أبلغنا‭ ‬الرئيس‭ ‬الأمريكي‭ ‬دونالد‭ ‬ترامب‭ ‬بأنه‭ ‬رفع‭ ‬الرسوم‭ ‬الجمركية‭ ‬على‭ ‬البضائع‭ ‬الصينية‭ ‬إلى‭ ‬145%،‭ ‬في‭ ‬محاولة‭ ‬للحد‭ ‬من‭ ‬العجز‭ ‬التجاري‭ ‬المتنامي‭ ‬في‭ ‬تجارة‭ ‬واشنطن‭ ‬مع‭ ‬بكين،‭ ‬وهو‭ ‬عجز‭ ‬يبلغ‭ ‬نحو‭ ‬295‭ ‬مليار‭ ‬دولار‭ ‬أمريكي‭ ‬سنويا‭.‬

يتبادل‭ ‬البلدان‭ ‬سلعا‭ ‬وبضائع‭ ‬بلغت‭ ‬قيمتها‭ ‬نحو‭ ‬585‭ ‬مليار‭ ‬دولار،‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬الماضي‭ ‬2024،‭ ‬وهو‭ ‬رقم‭ ‬كبير‭ ‬يضع‭ ‬كل‭ ‬منهما‭ ‬ضمن‭ ‬قائمة‭ ‬أكثر‭ ‬الشركاء‭ ‬التجاريين‭ ‬أهمية‭ ‬للآخر،‭ ‬ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬فإن‭ ‬التنافس‭ ‬بينهما‭ ‬قاد‭ ‬الإدارة‭ ‬الأمريكية‭ ‬إلى‭ ‬شن‭ ‬تلك‭ ‬الحرب،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬حساب‭ ‬دقيق‭ ‬للعواقب،‭ ‬كما‭ ‬يبدو‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭.‬

لم‭ ‬تسكت‭ ‬الصين،‭ ‬بل‭ ‬وعدت‭ ‬بأنها‭ ‬‮«‬ستقاتل‭ ‬حتى‭ ‬النهاية‮»‬،‭ ‬وكان‭ ‬ردها‭ ‬العملي‭ ‬واضحا‭ ‬في‭ ‬قرارها‭ ‬برفع‭ ‬الرسوم‭ ‬الجمركية‭ ‬على‭ ‬الواردات‭ ‬الأمريكية‭ ‬إلى‭ ‬125%،‭ ‬وهو‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬يُنذر‭ ‬بعواقب‭ ‬تجارية،‭ ‬وأيضا‭ ‬سياسية،‭ ‬وخيمة‭. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬قرار‭ ‬ترامب‭ ‬القاسي‭ ‬ضد‭ ‬التجارة‭ ‬مع‭ ‬الصين‭ ‬سوى‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬حملة‭ ‬يبدو‭ ‬أنه‭ ‬اعتزم‭ ‬شنها‭ ‬على‭ ‬شركاء‭ ‬بلاده‭ ‬التجاريين،‭ ‬وبعدما‭ ‬نشر‭ ‬قائمة‭ ‬بنسب‭ ‬الرسوم‭ ‬الجمركية‭ ‬التي‭ ‬قرر‭ ‬فرضها‭ ‬على‭ ‬عشرات‭ ‬الدول،‭ ‬عاد‭ ‬وأعلن‭ ‬تعليقها‭ ‬مؤقتا،‭ ‬مدة‭ ‬تسعين‭ ‬يوما،‭ ‬لكنه‭ ‬لم‭ ‬يشر‭ ‬إلى‭ ‬تراجعه‭ ‬عن‭ ‬النهج‭ ‬‮«‬القتالي‮»‬‭ ‬الذى‭ ‬سيضفيه‭ ‬على‭ ‬عملية‭ ‬التجارة‭ ‬الدولية،‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تٌسهل‭ ‬تحقيق‭ ‬مصالح‭ ‬الدول‭ ‬والشعوب‭ ‬فقط،‭ ‬لكنها‭ ‬أيضا‭ ‬تعزز‭ ‬الروابط‭ ‬والتكامل‭ ‬والاعتماد‭ ‬بينها‭.‬

سيُمكن‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬الحرب‭ ‬التجارية‭ ‬الساخنة‭ ‬التي‭ ‬اندلعت‭ ‬للتو‭ ‬باعتبارها‭ ‬انقلابا‭ ‬على‭ ‬قواعد‭ ‬مستقرة‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬التبادل‭ ‬التجاري‭ ‬بين‭ ‬الدول،‭ ‬لكن‭ ‬هذه‭ ‬النظرة‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬قاصرة،‭ ‬إذ‭ ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬الجزء‭ ‬من‭ ‬الصدام‭ ‬المُدبر‭ ‬ليس‭ ‬سوى‭ ‬قمة‭ ‬جبل‭ ‬الجليد،‭ ‬بينما‭ ‬جسم‭ ‬هذا‭ ‬الجبل‭ ‬سيُفصح‭ ‬عن‭ ‬عملية‭ ‬متكاملة‭ ‬لتقويض‭ ‬العولمة،‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬تعنيه‭ ‬من‭ ‬مقومات‭ ‬تتعلق‭ ‬بالمصالح‭ ‬المادية‭ ‬والمعنوية‭ ‬الدولية‭.‬

لطالما‭ ‬عُرّفت‭ ‬العولمة‭ ‬بأنها‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬‮«‬التدفق‭ ‬المتزايد‭ ‬على‭ ‬الصعيد‭ ‬العالمي‭ ‬للسلع،‭ ‬والخدمات،‭ ‬ورؤوس‭ ‬الأموال،‭ ‬والتكنولوجيا،‭ ‬والأيدي‭ ‬العاملة‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬حالة‭ ‬تخلق‭ ‬نمطا‭ ‬من‭ ‬‮«‬الاحتواء‭ ‬والاندماج‮»‬،‭ ‬وتعزز‭ ‬الصلات‭ ‬بين‭ ‬الدول‭ ‬بعضها‭ ‬البعض‭ ‬من‭ ‬جانب،‭ ‬وبين‭ ‬الشعوب‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬آخر‭. ‬

لكن‭ ‬ما‭ ‬جرى‭ ‬منذ‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ثلاث‭ ‬سنوات‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الصدد‭ ‬يشير‭ ‬بوضوح‭ ‬إلى‭ ‬انقلاب‭ ‬كامل‭ ‬الأركان‭ ‬على‭ ‬العولمة‭ ‬بكل‭ ‬قواعدها‭ ‬وآلياتها،‭ ‬وقد‭ ‬بدأ‭ ‬ذلك‭ ‬الانقلاب‭ ‬بما‭ ‬شهدناه‭ ‬على‭ ‬هامش‭ ‬الحرب‭ ‬الروسية‭ ‬‭ ‬الأوكرانية،‭ ‬حين‭ ‬تمت‭ ‬الإطاحة‭ ‬بقواعد‭ ‬حرية‭ ‬الرأي‭ ‬والتعبير،‭ ‬واحترام‭ ‬حق‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬في‭ ‬العمل‭. ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬الروسية‭ ‬‭ ‬الأوكرانية،‭ ‬انتهج‭ ‬الغرب،‭ ‬وعلى‭ ‬رأسه‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية،‭ ‬سياسات‭ ‬تقييد‭ ‬وتعتيم‭ ‬وحظر‭ ‬وإغلاق‭ ‬بحق‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬الروسية،‭ ‬والآراء‭ ‬التي‭ ‬تعبر‭ ‬عن‭ ‬المنظور‭ ‬الروسي‭ ‬حيال‭ ‬الصراع،‭ ‬وهو‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬فعلته‭ ‬موسكو‭ ‬أيضا،‭ ‬ومازالت‭ ‬مفاعيله‭ ‬قائمة‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭.‬

وقد‭ ‬استمرت‭ ‬الإجراءات‭ ‬التقييدية،‭ ‬بل‭ ‬وزادت‭ ‬حدتها،‭ ‬عندما‭ ‬اندلعت‭ ‬الحرب‭ ‬في‭ ‬غزة‭ ‬بين‭ ‬إسرائيل‭ ‬و«حماس‮»‬،‭ ‬حيث‭ ‬اتخذت‭ ‬منصات‭ ‬الإعلام‭ ‬‮«‬التقليدية‮»‬‭ ‬و«الجديدة‮»‬‭ ‬سلسلة‭ ‬من‭ ‬القرارات‭ ‬الصادمة‭ ‬بحق‭ ‬حرية‭ ‬الرأي‭ ‬والتعبير،‭ ‬لكي‭ ‬تنصر‭ ‬منظورا‭ ‬معينا‭ ‬للصراع،‭ ‬وتكرسه،‭ ‬وتمنع‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬عداه‭ ‬من‭ ‬الظهور‭.‬

أما‭ ‬ما‭ ‬يتعلق‭ ‬بتدفق‭ ‬المهاجرين،‭ ‬وقبول‭ ‬الآخر،‭ ‬والتعايش‭ ‬والتفاهم‭ ‬بين‭ ‬الشعوب،‭ ‬وكلها‭ ‬مقومات‭ ‬أساسية‭ ‬في‭ ‬فكرة‭ ‬العولمة‭ ‬وجزء‭ ‬من‭ ‬آلياتها‭ ‬العملية،‭ ‬فقد‭ ‬تكفلت‭ ‬به‭ ‬سلسلة‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬السياسات‭ ‬والممارسات‭ ‬التي‭ ‬تستهدف‭ ‬المهاجرين،‭ ‬وتحد‭ ‬من‭ ‬اللجوء،‭ ‬وتروج‭ ‬لمفاهيم‭ ‬النقاء‭ ‬العرقي،‭ ‬والانغلاق،‭ ‬والانقطاع‭ ‬عن‭ ‬التواصل‭ ‬والتعايش‭ ‬والتفاهم‭.‬

وفى‭ ‬ذروة‭ ‬هذه‭ ‬الإجراءات‭ ‬التي‭ ‬تخاصم‭ ‬أي‭ ‬مقاربة‭ ‬عولمية،‭ ‬باتت‭ ‬آراء‭ ‬الناس‭ ‬على‭ ‬وسائل‭ ‬‮«‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‮»‬‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬مسوغات‭ ‬منحهم‭ ‬حق‭ ‬اللجوء‭ ‬أو‭ ‬الإقامة‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬الزيارة،‭ ‬حتى‭ ‬ان‭ ‬واشنطن‭ ‬أعلنت‭ ‬بوضوح‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬المنشورات‭ ‬على‭ ‬‮«‬السوشيال‭ ‬ميديا‮»‬‭ ‬قد‭ ‬تحرم‭ ‬الناس‭ ‬من‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬تأشيرات‭ ‬الزيارة،‭ ‬أو‭ ‬تجمدها‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬كانت‭ ‬موجودة‭.‬

لقد‭ ‬نُظر‭ ‬إلى‭ ‬العولمة‭ ‬بوصفها‭ ‬‮«‬حقيقة‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬إنكارها‭ ‬كما‭ ‬الجاذبية‭ ‬تماما‮»‬‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬عديد‭ ‬القادة‭ ‬والمفكرين‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬نحو‭ ‬ثلاثة‭ ‬عقود،‭ ‬بينما‭ ‬رأى‭ ‬بعض‭ ‬المُنظرين‭ ‬أن‭ ‬نشأة‭ ‬العولمة‭ ‬إنما‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬بضعة‭ ‬قرون‭ ‬خلت‭.‬

ورغم‭ ‬ذلك‭ ‬التاريخ‭ ‬المديد‭ ‬لفكرة‭ ‬بدت‭ ‬طيبة‭ ‬وإيجابية‭ ‬لكثيرين،‭ ‬وهي‭ ‬فكرة‭ ‬العولمة،‭ ‬فيبدو‭ ‬أن‭ ‬جهودا‭ ‬حثيثة‭ ‬تُبذل‭ ‬الآن‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تقويضها‭ ‬والانقضاض‭ ‬على‭ ‬مكتسباتها‭.‬

{ ‭ ‬كاتب‭ ‬وباحث‭ ‬إعلامي

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا