رغم لغة التصعيد والتهديدات في خطاب ترامب تجاه إيران فإن المؤشرات ترجح، أن ترامب لن يشن حربا على إيران رغم استخدامه أكثر الألفاظ حدة في خطابه السياسي الموجه إليها؛ لأنها ببساطه شديدة في الحسابات الاستراتيجية الفعلية لم تكن في يوم الأيام في قائمة الدول المعادية للولايات المتحدة الأمريكية بل العكس هو الصحيح؛ ففي عهد الشاه كانت من أفضل الحلفاء المقربين، وفي عهد نظام حكم الملالي كانت من أخلص المتعاونين؛ فهي التي مهدت الطريق للولايات المتحدة لاحتلال افغانستان والعراق. وكذلك الحال بالنسبة لإيران فهي لا تعادي الولايات المتحدة إلا ظاهرياً؛ فشعار «الشيطان الأكبر» مجرد ورقة التوت التي تغطي بها طهران عورات علاقاتها مع الولايات المتحدة وهي ترمي من وراء ذلك الى المحافظة على صورتها أمام مريديها في المنطقة الذين لا يزالون يعيشون الوهم بأن الجمهورية الإيرانية التي أسسها الخميني عام 1979م هي السد المنيع ضد المخططات الإمبريالية والكولونيالية (الاستعمارية) وهي الضلع الرئيسي في مثلث (محور المقاومة).
نقول بوضوح إن كل الملاسنات والتهديدات الجارية والمعارك اللفظية القائمة بين الأمريكيين والإيرانيين هي مجرد ألاعيب سياسية لا يمكن أن تنطلي على العارفين ببواطن الأمور؛ وتاريخ العلاقات الأمريكية – الإيرانية يكشف لنا بوضوح أن هذه العلاقات قوية ومتينة ومستمرة وقائمة على تبادل المنافع بينهما بالرغم من عدم وجود علاقات دبلوماسية بينهما.
صحيح أن الولايات المتحدة فرضت عقوبات اقتصادية على إيران بسب برنامجها النووي، لكن هذه العقوبات لم تؤثر على إيران بدليل استمرارها في تمويل برنامجها النووي، والصاروخي، وتمويل مليشياتها العسكرية في المنطقة فضلاً عن نجاحها في تصدير نفطها رغم العقوبات، والسبب في ذلك هو أن إيران استطاعت الالتفاف على تلك العقوبات وبعلم الأمريكيين وتواطئهم وكان للعراق دور كبير في ذلك.
في تقديري، إن الأفكار التي يطرحها ترامب في مجالات السياسة والاقتصاد والتجارة والهادفة إلى تغيير ملامح العالم تتماهى مع الصورة المرسومة في ذهنه حول النظام الدولي الجديد، وهي التي تدفعه إلى استبعاد خيار الحرب مع إيران، وإيثار الخيار الدبلوماسي؛ لأنه يدرك تماماً أن الحرب ليست في صالح الولايات المتحدة في الوقت الراهن. وفي الوقت ذاته لا تتناغم مع أفكاره الرامية الى علاج الاقتصاد الأمريكي الذي يئن من ثقل الديون. كما يدعي أنه جاء لينقذ الولايات المتحدة من هذه «الديون» ووفقاً لهذا التصور فمن المنطقي ألا يسير في طريق الحرب. ولكن هذا لا يعني أنه سيسمح لإيران باستكمال برنامجها النووي الذي يمَكِنها من صنع القنبلة النووية؛ لأن ذلك خط أحمر بالنسبة إلى الولايات المتحدة ولربيبتها (إسرائيل) لكنه سيستخدم الحل الدبلوماسي كوسيلة لثني إيران عن مواصلة برنامجها النووي، وهذا ما دفعه إلى توجيه رسالة إلى المرشد الإيراني علي خامنئي، ضمنها دعوته إلى عقد لقاءات مباشرة.
لم يكن ترامب الرئيس الأمريكي الأول الذي يخطب ود إيران عبر الرسائل فقد سبقه إلى ذلك الرؤساء جيمي كارتر ورونالد ريجان وبوش الأب، وفعلها أيضاً بيل كلنتون حينما بعث برسالة إلى المرشد الإيراني عبر فيها عن اعتذاره عن الأخطاء التي ارتكبتها الولايات المتحدة. وجميع هؤلاء كانوا يتوددون إلى إيران في رسائلهم إلا أن الأخيرة واجهت رسائل الود بتوجيه صفعات لهم بدءاً من الخميني الذي أمر بحجز الدبلوماسيين في السفارة الأمريكية في طهران واعتبرهم رهائن. وانتهاء بالهجمات المتواصلة ضد القوات الأمريكية في العراق علماً أن أمريكا ساعدت في خلاص إيران من العدوين اللدودين لديها وهما الرئيس صدام حسين والملا عمر.
وبعد مرور 45 عاماً على الاطاحة بنظام الشاه في طهران الحليف المطيع لواشنطن، وقيام نظام الملالي في طهران، فإن سياسة الولايات المتحدة تجاه الحكام الجدد في إيران لم تتغير؛ فالغالب عليها التودد والتقرب إلى الملالي حتى في عز اختلافهما في بعض الملفات أحياناً؛ فكرم الرؤساء الأمريكيين كان واضحاً وجلياً إلا أن أكرمهم كان الرئيس الديمقراطي باراك أوباما الذي سمح بتهريب الأموال إليهم عبر قبرص والإفراج عن أموال إيرانية مجمدة من عهد الشاه.
من هنا، نقول إن العم ترامب لم يحد عن السياسة التي سار عليها أسلافه، وأنه ماض على نفس السكة في تطبيق السياسة الأمريكية القائمة على التودد والمداهنة إزاء ملالي طهران، فبالرغم من لهجته الشديدة الظاهرة في خطاباته ضدهم إلا أن الواقع يقول غير ذلك؛ فهو بدأ فترته الرئاسية الأولى باستخدام الأسلوب نفسه (دبلوماسية الرسائل) ويظهر ذلك جلياً حين طلب من رئيس الوزراء الياباني الراحل شينزو آبي القيام بدور الوسيط بينه وبين المرشد خامنئي وحمّلَه رسالة إليه، وقد رفض الأخير تسلم الرسالة، حينها طالب ترامب إيران بالإيفاء باثنتي عشرة نقطة وإلا عليها المواجهة من قبل واشنطن وجاء الرد سلبياً من خامنئي، حيث تجاهل الأمر، وساعتها لم يحرك ترامب ساكناً. وها هو في فترة رئاسته الثانية يعيد الكرة ويستخدم نفس الأسلوب فيبعث رسالة إلى خامنئي عبر وسيط ثالث وطالب فيها المرشد الإيراني أن تكون المباحثات هذه المرة مباشرة، وكعادتها إيران تناور وتتمنع في البداية بإجراء مفاوضات مباشرة، لكنها في النهاية وافقت كما صرح ترامب في المؤتمر الصحفي الذي جمعه مع نتنياهو في البيت الأبيض مؤخراً.
إن هذا الأمر يدعونا إلى القول: إن السياسة الخارجية الأمريكية ازاء إيران لا يصنعها الرئيس الأمريكي وحده، حيث أثبتت الأيام والسنين أنها ثابتة لا تتغير بتغير الرئيس القابع في البيت الأبيض. وهذا ما يؤكده معظم المحللين والمهتمين بالشأن الأمريكي، ويعزو هؤلاء ذلك إلى أن الولايات المتحدة دولة مؤسسات، وأن من يقرر الحرب والسلام بين الولايات المتحدة وغيرها من الدول ليس الرئيس وحده وإنما بمشاركة تلك المؤسسات، ونتيجة لذلك فإن السياسة الأمريكية تجاه إيران ظلت ثابتة ويغلب عليها اللين والمداهنة والتودد لنظام الملالي.
في هذا السياق، نكاد نجزم بأن ترامب لن يبادر بشن الحرب على إيران بالرغم من تصريحاته النارية نحوها؛ لأنه يرمي من وراء تصريحاته الى جر إيران إلى الجلوس على طاولة المفاوضات المباشرة بشأن برنامجها النووي، وهذا يعني أنه يُؤْثر الحل الدبلوماسي على الحرب، وعليه يمكننا القول: إن دبلوماسية الرسائل التي سار عليها الرؤساء السابقون مستمرة إلى اليوم بغض النظر عن لغة التهديد التي يطلقها ترامب بين الفينة والأخرى، وكما قال انها أمام خيارين :«إما التوصل إلى اتفاق دبلوماسي بشأن برنامجها النووي، وإما مواجهة الحل العسكري».
إن ترامب على يقين بأن ملالي إيران سيستجيبون لطلبه بالرغم من تصريحاتهم الرنانة التي يطنطن بها مسؤولوهم السياسيون والعسكريون؛ لأنهم يدركون جيدا أن الحرب ليست في صالحهم، وأن أولى نتائجها ستكون وخيمة على نظامهم السياسي، إذ ستكون الفصل الأخير في تاريخ حكمهم. لهذا جاءت تأكيداته الأخيرة أن «إيران ستكون مستعدة لإجراء محادثات مباشرة بشأن برنامجها النووي» وهذا ما حصل بالفعل، حيث قبلت إيران بالمفاوضات المباشرة مع الولايات المتحدة، وأن كل التجاذبات التي جرت بينهما هي مجرد مناورات سياسية أجاد كل طرف ممارستها ببراعة وإتقان.
بيت القصيد في المسألة أنهما سيخرجان من المباراة في حالة رضا، وهذه النتيجة تنسجم مع السياسة الأمريكية في تعاطيها مع الشأن الإيراني منذ تسلم الملالي السلطة في إيران في أواخر سبعينيات القرن الماضي.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك