تخيل أن تفتح هاتفك كل صباح لتجد سيلًا من الصور والمقاطع الصادمة. محتوى مبتذل، عنيف، تافه، وأحيانا غير أخلاقي، يتسلل إلى عقول الصغار والكبار من دون استئذان، وفي مجتمعنا الشرقي كما هو الحال في عالمنا العربي والإسلامي، حيث الخصوصية الثقافية والدينية تعدّ خطا أحمر يتحول هذا النوع من المحتوى إلى خطر حقيقي يهدد القيم ويخترق المجتمعات بلا ضوابط.
فمن المسؤول؟ ومن يملك «زر الإيقاف»؟ بين منصات ترفض الالتزام، وتشريعات لا تزال خجولة، ومعركة بين الحرية والحماية يبدأ السباق نحو «فلترة رقمية» تعيد إلى الفضاء الإلكتروني احترامه وحدوده.
هنا نلاحظ انه مازالت العديد من الدول العربية؛ تفتقر الى تشريعات رقمية واضحة تتعامل بحزم مع المحتوى الصادم، وفي ظل غياب قوانين صارمة تبقى المنصات الكبرى مثل فيسبوك، انستجرام، تيك توك، ويوتيوب تتحكم وحدها بخوارزميات «ما يجب وما لا يجب» أن يُعرض حتى إن كان ذلك يتعارض تمامًا مع القيم الأخلاقية والاجتماعية المحلية.
لكن ثمة بوادر تغيير، فبعض الدول بدأت تتخذ خطوات ملموسة، مثل المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية اللتين حظرتا عددًا من المواقع التي تروج للعنف أو السلوكيات غير المقبولة، في مسعى لحماية الفضاء الرقمي المحلي، كذلك قامت مصر بعدة حملات إلكترونية لضبط المحتوى على المنصات شملت توقيف بعض المؤثرين الذين يبثّون محتوى «مخلّا».
الحكومات ليست وحدها القادرة على التغيير، لكنها تملك أدوات قوية لممارسة الضغط التنظيمي والتشريعي على شركات التقنية العملاقة، إذا ما توحدت الجهود العربية ضمن ميثاق رقمي مشترك، يمكن إرغام هذه المنصات على تكييف خوارزمياتها أو حتى تعيين فرق مراقبة محتوى محلية كما فعلت العديد من الدول العربية بموجب قانون الخدمات الرقمية للاتحاد الأوروبي الذي يجبر منصات مثل جوجل وفيسبوك وإكس وتيك توك، على اتخاذ إجراءات أكثر صرامة ضد المنشورات التي تحتوي على معلومات كاذبة وخطابات كراهية، تحت طائلة دفع غرامات باهظة.
لا يعني السعي وراء «فلترة» المحتوى والتحول إلى رقابة مطلقة أو تكميم للأفواه؛ التحدي الحقيقي هو الموازنة بين حماية المجتمع وحرية التعبير، وهو أمر يمكن تحقيقه بذكاء خصوصا مع دخول الذكاء الاصطناعي كأداة فاعلة لرصد المحتوى المسيء قبل انتشاره.
من خلال تدريب الخوارزميات على فهم السياق المحلي ومعالجة الصور والنصوص بناءً على بيئة المستخدم، يمكن لمنصات التواصل الاجتماعي أن تصبح أكثر وعيا واحتراما لخصوصية المجتمعات، بدلا من نشر محتوى يُستهجن في العالم العربي بينما يُعدّ مقبولا في مجتمعات أخرى.
يمكن أن يمتد دور الحكومات في مواجهة المحتوى الصادم على الانترنت إلى أبعد من الحظر البسيط؛ إذ يمكن استخدام الحظر كأداة ضغط على الشركات العملاقة مثل ميتا وتيك توك وإكس، لإجبارهم على الالتزام بقوانين أكثر تشددًا تتعلق بتصفية المحتوى، بما يتماشى مع القيم الثقافية للدول العربية.
مقارنة بالدول الغربية، حيث هناك حرية مطلقة في نشر المحتوى، لا يمكن تصوّر نفس البيئة في الدول العربية، لذلك من الضروري أن تتبنى الحكومات العربية ميثاقا رقميا يضع إطارا للتعاون مع هذه المنصات لضمان حماية المجتمعات من الآثار السلبية للمحتوى الملوث أخلاقيا، هذا الميثاق قد يتضمن فرض عقوبات على المنصات الاجتماعية التي تفشل في التزام معايير المحتوى المحلي.
لا يوجد زر إيقاف واحد بيد جهة واحدة، بل هو تحالف ضروري بين الوعي المجتمعي، التشريع الرسمي والتكنولوجيا المسؤولة، وإذا ما أرادت الدول العربية فعلا تطهير الفضاء الرقمي فعليها ألا تنتظر من الغرب أن ينظف ساحتها، بل أن تبدأ بنفسها: قانونا، ضغطا، وتوعية، وعليه؛ فإن فلترة المحتوى ليست رفاهية بل هي أولوية أمنية وثقافية في آن واحد.
في زمان تتجاوز فيه سرعة انتشار المحتوى قدرة المجتمعات على استيعابه أو مواجهته، يصبح الصمت تواطؤا والتأخير خطرا، لا يكفي أن نستنكر أو نغضب من مشهد صادم أو رسالة مسيئة؛ بل لا بد من تحرك محلي وعربي حقيقي يفرض احترام هوية المجتمعات ويضع قواعد جديدة للعبة الرقمية.
زر الإيقاف ليس خيالا؛ بل مشروع قانون، حملات توعوية وخوارزمية ذكية، والمطلوب اليوم ليس فقط من يضغط على هذا الزر، بل من يصممه ويجعل وجوده واقعا، وإرسال رسالة واضحة مفادها أن حرية التعبير لا تعني الفوضى وأن لكل مجتمع خصوصيته وحدوده.
{ كاتبة مختصة في الإعلام الإلكتروني
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك