العدد : ١٧١٩١ - الخميس ١٧ أبريل ٢٠٢٥ م، الموافق ١٩ شوّال ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧١٩١ - الخميس ١٧ أبريل ٢٠٢٥ م، الموافق ١٩ شوّال ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

شواهد الزمن.. كيف تحكي الآثار قصة الإنسان؟

بقلم: نبيلة رجب

الأربعاء ٠٩ أبريل ٢٠٢٥ - 02:00

يقال‭ ‬إن‭ ‬الشعوب‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تحفظ‭ ‬تاريخها‭ ‬تُجبر‭ ‬على‭ ‬العيش‭ ‬بلا‭ ‬هوية‭. ‬فالتاريخ‭ ‬ليس‭ ‬حكايات‭ ‬تُروى‭ ‬للتسلية،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬أساس‭ ‬تشكل‭ ‬المجتمعات،‭ ‬ومرآة‭ ‬تعكس‭ ‬ماضيها‭ ‬وتحدد‭ ‬ملامح‭ ‬مستقبلها‭. ‬حين‭ ‬نبحث‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬التاريخ،‭ ‬لا‭ ‬نجد‭ ‬أصدق‭ ‬من‭ ‬الآثار،‭ ‬تلك‭ ‬الشواهد‭ ‬التي‭ ‬بقيت‭ ‬صامتة‭ ‬لكنها‭ ‬تحكي‭ ‬الكثير‭. ‬في‭ ‬كل‭ ‬نقش‭ ‬محفور،‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬جدار‭ ‬متآكل،‭ ‬هناك‭ ‬قصة‭ ‬لم‭ ‬تكتمل،‭ ‬تنتظر‭ ‬من‭ ‬يقرأها‭ ‬بعين‭ ‬الباحث‭ ‬لا‭ ‬المار‭ ‬العابر‭.‬

ليست‭ ‬الآثار‭ ‬سكونا‭ ‬جامدا،‭ ‬وإنما‭ ‬شواهد‭ ‬ناطقة‭ ‬تروي‭ ‬تفاصيل‭ ‬حضارات‭ ‬ازدهرت‭ ‬واندثرت،‭ ‬ترسم‭ ‬صورة‭ ‬للحياة‭ ‬كما‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬زمنها‭. ‬المباني،‭ ‬النقوش،‭ ‬العملات،‭ ‬القطع‭ ‬الفخارية،‭ ‬كلها‭ ‬تحمل‭ ‬تفاصيل‭ ‬دقيقة‭ ‬عن‭ ‬المجتمعات‭ ‬التي‭ ‬أنتجتها،‭ ‬عن‭ ‬طموحاتها،‭ ‬تحدياتها،‭ ‬وأسلوب‭ ‬حياتها‭. ‬هي‭ ‬صفحات‭ ‬من‭ ‬التاريخ،‭ ‬لكنها‭ ‬ليست‭ ‬مكتوبة‭ ‬بالحبر‭ ‬بل‭ ‬بالزمن‭ ‬نفسه‭.‬

تتجاوز‭ ‬أهمية‭ ‬الآثار‭ ‬حفظ‭ ‬الذكرى،‭ ‬فهي‭ ‬تساعدنا‭ ‬على‭ ‬فهم‭ ‬التحولات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬التي‭ ‬مرت‭ ‬بها‭ ‬الأمم‭.‬

‭ ‬في‭ ‬البحرين،‭ ‬تقف‭ ‬قلعة‭ ‬البحرين‭ ‬شاهدة‭ ‬على‭ ‬عصور‭ ‬من‭ ‬التجارة‭ ‬البحرية‭ ‬والتبادل‭ ‬الثقافي،‭ ‬بينما‭ ‬تروي‭ ‬تلال‭ ‬مدافن‭ ‬دلمون‭ ‬قصص‭ ‬معتقدات‭ ‬دينية‭ ‬وطقوس‭ ‬دفن‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬آلاف‭ ‬السنين‭. ‬هذه‭ ‬المواقع‭ ‬ليست‭ ‬معالم‭ ‬سياحية‭ ‬فحسب،‭ ‬بقدر‭ ‬ماهي‭ ‬نوافذ‭ ‬نطل‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬على‭ ‬ماضٍ‭ ‬كان‭ ‬للبحرين‭ ‬فيه‭ ‬دور‭ ‬مركزي‭ ‬كمحطة‭ ‬بين‭ ‬الشرق‭ ‬والغرب،‭ ‬حيث‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬الجزيرة‭ ‬نقطة‭ ‬على‭ ‬الخريطة،‭ ‬إنما‭ ‬صلة‭ ‬وصل‭ ‬بين‭ ‬الحضارات‭.‬

لا‭ ‬يقتصر‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالآثار‭ ‬على‭ ‬التنقيب‭ ‬عنها،‭ ‬بل‭ ‬يشمل‭ ‬أيضاً‭ ‬الاستفادة‭ ‬من‭ ‬التقدم‭ ‬العلمي‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭. ‬فقد‭ ‬أسهمت‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬الحديثة‭ ‬في‭ ‬تعزيز‭ ‬عمليات‭ ‬البحث‭ ‬الأثري،‭ ‬حيث‭ ‬أصبح‭ ‬بالإمكان‭ ‬استخدام‭ ‬الطائرات‭ ‬المسيرة‭ ‬لكشف‭ ‬مواقع‭ ‬مدفونة،‭ ‬وتقنيات‭ ‬التصوير‭ ‬الثلاثي‭ ‬الأبعاد‭ ‬لإعادة‭ ‬بناء‭ ‬ما‭ ‬تهدم‭ ‬بفعل‭ ‬الزمن‭. ‬هذه‭ ‬الأدوات‭ ‬المتطورة‭ ‬جعلت‭ ‬دراسة‭ ‬الآثار‭ ‬أكثر‭ ‬دقة‭ ‬وساهمت‭ ‬في‭ ‬إبراز‭ ‬قيمتها‭ ‬التاريخية‭ ‬والثقافية‭ ‬بطرق‭ ‬أكثر‭ ‬تفاعلية،‭ ‬مما‭ ‬يسهل‭ ‬وصول‭ ‬الأجيال‭ ‬الجديدة‭ ‬إليها‭ ‬ويعزز‭ ‬ارتباطهم‭ ‬بتراثهم‭ ‬الوطني‭.‬

وفي‭ ‬تجارب‭ ‬العالم‭ ‬ما‭ ‬يلهم‭. ‬في‭ ‬إيطاليا،‭ ‬مثلًا،‭ ‬تحولت‭ ‬مدينة‭ ‬بومبي‭ ‬المدفونة‭ ‬تحت‭ ‬الرماد‭ ‬منذ‭ ‬قرون‭ ‬إلى‭ ‬قصة‭ ‬إنقاذ‭ ‬مذهلة،‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬لأنها‭ ‬كُشف‭ ‬عنها‭ ‬الغبار،‭ ‬بل‭ ‬لأن‭ ‬ترميمها‭ ‬تم‭ ‬بروح‭ ‬تحترم‭ ‬تفاصيل‭ ‬المكان‭ ‬وذاكرته‭. ‬استخدمت‭ ‬فرق‭ ‬البحث‭ ‬تقنيات‭ ‬دقيقة‭ ‬أعادت‭ ‬للمدينة‭ ‬ملامحها‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تنتزع‭ ‬منها‭ ‬عبقها‭ ‬القديم‭. ‬لكنها‭ ‬لم‭ ‬تترك‭ ‬حبيسة‭ ‬الصور،‭ ‬بل‭ ‬أصبحت‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬حياة‭ ‬الناس،‭ ‬تُدرّس‭ ‬في‭ ‬المدارس،‭ ‬وتُروى‭ ‬في‭ ‬المتاحف،‭ ‬وتُحيا‭ ‬في‭ ‬المهرجانات‭. ‬هناك،‭ ‬لا‭ ‬تُعامل‭ ‬الآثار‭ ‬بوصفها‭ ‬ماضيا‭ ‬بعيدا،‭ ‬بل‭ ‬حضورًا‭ ‬يوميا‭ ‬يصنع‭ ‬فخرًا‭ ‬جمعيا‭.‬

في‭ ‬بلدنا،‭ ‬يشكل‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬التراث‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬الهوية‭ ‬الثقافية‭ ‬والوطنية‭. ‬فقد‭ ‬حرصت‭ ‬المملكة‭ ‬على‭ ‬تسجيل‭ ‬مواقعها‭ ‬الأثرية‭ ‬ضمن‭ ‬قائمة‭ ‬التراث‭ ‬العالمي‭ ‬لليونسكو،‭ ‬مثل‭ ‬قلعة‭ ‬البحرين‭ ‬وطريق‭ ‬اللؤلؤ،‭ ‬الذي‭ ‬يروي‭ ‬قصة‭ ‬ازدهار‭ ‬البحرين‭ ‬كمركز‭ ‬عالمي‭ ‬لتجارة‭ ‬اللؤلؤ‭. ‬كما‭ ‬تعمل‭ ‬هيئة‭ ‬البحرين‭ ‬للثقافة‭ ‬والآثار‭ ‬على‭ ‬ترميم‭ ‬المواقع‭ ‬التاريخية‭ ‬وتعزيز‭ ‬الوعي‭ ‬بقيمتها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الفعاليات‭ ‬الثقافية‭ ‬والبرامج‭ ‬التعليمية،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬المبادرات‭ ‬التي‭ ‬تستهدف‭ ‬مختلف‭ ‬الفئات،‭ ‬ومنها‭ ‬البرامج‭ ‬المخصصة‭ ‬للأطفال‭ ‬لغرس‭ ‬الوعي‭ ‬بأهمية‭ ‬التراث‭ ‬منذ‭ ‬الصغر‭.‬

‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬ذلك،‭ ‬تستضيف‭ ‬البحرين‭ ‬مؤتمرات‭ ‬وملتقيات‭ ‬تناقش‭ ‬سبل‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬التراث‭ ‬وتطوير‭ ‬السياحة‭ ‬الثقافية،‭ ‬مما‭ ‬يعكس‭ ‬التزامها‭ ‬بحماية‭ ‬هذا‭ ‬الإرث‭ ‬للأجيال‭ ‬القادمة‭.‬

مع‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الجهود،‭ ‬تظل‭ ‬حماية‭ ‬التراث‭ ‬مسؤولية‭ ‬مستمرة،‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬التوسع‭ ‬العمراني‭ ‬والتغيرات‭ ‬البيئية‭. ‬الحفاظ‭ ‬عليه‭ ‬يتطلب‭ ‬تعاونا‭ ‬مجتمعيا‭ ‬يعزز‭ ‬الوعي‭ ‬بقيمته،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬القوانين‭ ‬التي‭ ‬تكفل‭ ‬صونه‭ ‬لمن‭ ‬سيأتون‭ ‬بعدنا‭. ‬

‭ ‬إن‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالآثار‭ ‬لا‭ ‬يقتصر‭ ‬على‭ ‬الجهات‭ ‬المعنية‭ ‬وحدها،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬مسؤولية‭ ‬كل‭ ‬فرد،‭ ‬سواء‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬دعم‭ ‬مشاريع‭ ‬الترميم،‭ ‬أو‭ ‬عبر‭ ‬احترام‭ ‬هذه‭ ‬المواقع‭ ‬عند‭ ‬زيارتها،‭ ‬والتعامل‭ ‬معها‭ ‬بوصفها‭ ‬جزءًا‭ ‬أصيلا‭ ‬من‭ ‬الهوية‭ ‬الوطنية‭.‬

لكن‭ ‬الأثر،‭ ‬في‭ ‬جوهره،‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬مسؤولية‭ ‬أو‭ ‬التزامًا؛‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬شعورٌ‭ ‬وانتماء،‭ ‬ونداء‭ ‬قديم‭ ‬لا‭ ‬ينطفئ‭. ‬هي‭ ‬ذاكرة‭ ‬الأرض،‭ ‬تحفظ‭ ‬سيرة‭ ‬الإنسان‭ ‬منذ‭ ‬بداياته،‭ ‬وتبوح‭ ‬بأسراره‭ ‬لمن‭ ‬يُصغي‭ ‬إلى‭ ‬صمتها‭ ‬العميق‭. ‬بين‭ ‬حجارتها‭ ‬المنحوتة‭ ‬وجدرانها‭ ‬العتيقة،‭ ‬تتردد‭ ‬أصوات‭ ‬الذين‭ ‬سبقونا،‭ ‬تحمل‭ ‬إلينا‭ ‬دروسهم،‭ ‬طموحاتهم،‭ ‬وحتى‭ ‬أخطاءهم‭.‬

حين‭ ‬نقف‭ ‬أمام‭ ‬هذه‭ ‬الشواهد،‭ ‬لا‭ ‬نرى‭ ‬الماضي‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬ندرك‭ ‬كيف‭ ‬يظل‭ ‬حاضرًا‭ ‬في‭ ‬تفاصيل‭ ‬حياتنا،‭ ‬يشكل‭ ‬وعينا،‭ ‬ويدفعنا‭ ‬إلى‭ ‬التطلع‭ ‬نحو‭ ‬المستقبل‭ ‬برؤية‭ ‬أعمق‭. ‬

فحماية‭ ‬هذا‭ ‬الإرث‭ ‬ليست‭ ‬مسؤولية‭ ‬تُترك‭ ‬للزمن،‭ ‬بل‭ ‬أمانة‭ ‬في‭ ‬أعناقنا،‭ ‬نحملها‭ ‬معنا‭ ‬لتظل‭ ‬الأجيال‭ ‬القادمة‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬قراءة‭ ‬صفحات‭ ‬التاريخ‭ ‬المحفورة‭ ‬في‭ ‬أرضها،‭ ‬وفهم‭ ‬رحلتها‭ ‬كما‭ ‬فهمنا‭ ‬رحلتنا‭ ‬اليوم‭.‬

rajabnabeela@gmail‭.‬com

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا