يقال إن الشعوب التي لا تحفظ تاريخها تُجبر على العيش بلا هوية. فالتاريخ ليس حكايات تُروى للتسلية، بل هو أساس تشكل المجتمعات، ومرآة تعكس ماضيها وتحدد ملامح مستقبلها. حين نبحث عن هذا التاريخ، لا نجد أصدق من الآثار، تلك الشواهد التي بقيت صامتة لكنها تحكي الكثير. في كل نقش محفور، في كل جدار متآكل، هناك قصة لم تكتمل، تنتظر من يقرأها بعين الباحث لا المار العابر.
ليست الآثار سكونا جامدا، وإنما شواهد ناطقة تروي تفاصيل حضارات ازدهرت واندثرت، ترسم صورة للحياة كما كانت في زمنها. المباني، النقوش، العملات، القطع الفخارية، كلها تحمل تفاصيل دقيقة عن المجتمعات التي أنتجتها، عن طموحاتها، تحدياتها، وأسلوب حياتها. هي صفحات من التاريخ، لكنها ليست مكتوبة بالحبر بل بالزمن نفسه.
تتجاوز أهمية الآثار حفظ الذكرى، فهي تساعدنا على فهم التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي مرت بها الأمم.
في البحرين، تقف قلعة البحرين شاهدة على عصور من التجارة البحرية والتبادل الثقافي، بينما تروي تلال مدافن دلمون قصص معتقدات دينية وطقوس دفن تعود إلى آلاف السنين. هذه المواقع ليست معالم سياحية فحسب، بقدر ماهي نوافذ نطل من خلالها على ماضٍ كان للبحرين فيه دور مركزي كمحطة بين الشرق والغرب، حيث لم تكن الجزيرة نقطة على الخريطة، إنما صلة وصل بين الحضارات.
لا يقتصر الاهتمام بالآثار على التنقيب عنها، بل يشمل أيضاً الاستفادة من التقدم العلمي في هذا المجال. فقد أسهمت التكنولوجيا الحديثة في تعزيز عمليات البحث الأثري، حيث أصبح بالإمكان استخدام الطائرات المسيرة لكشف مواقع مدفونة، وتقنيات التصوير الثلاثي الأبعاد لإعادة بناء ما تهدم بفعل الزمن. هذه الأدوات المتطورة جعلت دراسة الآثار أكثر دقة وساهمت في إبراز قيمتها التاريخية والثقافية بطرق أكثر تفاعلية، مما يسهل وصول الأجيال الجديدة إليها ويعزز ارتباطهم بتراثهم الوطني.
وفي تجارب العالم ما يلهم. في إيطاليا، مثلًا، تحولت مدينة بومبي المدفونة تحت الرماد منذ قرون إلى قصة إنقاذ مذهلة، ليس فقط لأنها كُشف عنها الغبار، بل لأن ترميمها تم بروح تحترم تفاصيل المكان وذاكرته. استخدمت فرق البحث تقنيات دقيقة أعادت للمدينة ملامحها من دون أن تنتزع منها عبقها القديم. لكنها لم تترك حبيسة الصور، بل أصبحت جزءًا من حياة الناس، تُدرّس في المدارس، وتُروى في المتاحف، وتُحيا في المهرجانات. هناك، لا تُعامل الآثار بوصفها ماضيا بعيدا، بل حضورًا يوميا يصنع فخرًا جمعيا.
في بلدنا، يشكل الحفاظ على التراث جزءًا من الهوية الثقافية والوطنية. فقد حرصت المملكة على تسجيل مواقعها الأثرية ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو، مثل قلعة البحرين وطريق اللؤلؤ، الذي يروي قصة ازدهار البحرين كمركز عالمي لتجارة اللؤلؤ. كما تعمل هيئة البحرين للثقافة والآثار على ترميم المواقع التاريخية وتعزيز الوعي بقيمتها من خلال الفعاليات الثقافية والبرامج التعليمية، بالإضافة إلى المبادرات التي تستهدف مختلف الفئات، ومنها البرامج المخصصة للأطفال لغرس الوعي بأهمية التراث منذ الصغر.
إلى جانب ذلك، تستضيف البحرين مؤتمرات وملتقيات تناقش سبل الحفاظ على التراث وتطوير السياحة الثقافية، مما يعكس التزامها بحماية هذا الإرث للأجيال القادمة.
مع كل هذه الجهود، تظل حماية التراث مسؤولية مستمرة، خاصة في ظل التوسع العمراني والتغيرات البيئية. الحفاظ عليه يتطلب تعاونا مجتمعيا يعزز الوعي بقيمته، إلى جانب القوانين التي تكفل صونه لمن سيأتون بعدنا.
إن الاهتمام بالآثار لا يقتصر على الجهات المعنية وحدها، بل هو مسؤولية كل فرد، سواء من خلال دعم مشاريع الترميم، أو عبر احترام هذه المواقع عند زيارتها، والتعامل معها بوصفها جزءًا أصيلا من الهوية الوطنية.
لكن الأثر، في جوهره، ليس فقط مسؤولية أو التزامًا؛ بل هو شعورٌ وانتماء، ونداء قديم لا ينطفئ. هي ذاكرة الأرض، تحفظ سيرة الإنسان منذ بداياته، وتبوح بأسراره لمن يُصغي إلى صمتها العميق. بين حجارتها المنحوتة وجدرانها العتيقة، تتردد أصوات الذين سبقونا، تحمل إلينا دروسهم، طموحاتهم، وحتى أخطاءهم.
حين نقف أمام هذه الشواهد، لا نرى الماضي فحسب، بل ندرك كيف يظل حاضرًا في تفاصيل حياتنا، يشكل وعينا، ويدفعنا إلى التطلع نحو المستقبل برؤية أعمق.
فحماية هذا الإرث ليست مسؤولية تُترك للزمن، بل أمانة في أعناقنا، نحملها معنا لتظل الأجيال القادمة قادرة على قراءة صفحات التاريخ المحفورة في أرضها، وفهم رحلتها كما فهمنا رحلتنا اليوم.
rajabnabeela@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك